مرت علينا ذكرى موقعة مرج دابق فى الاسبوع الماضى. ففى الرابع والعشرين من أغسطس عام 1516، أى قبل خمسمائة وخمسة أعوام، انهزم سلطان المماليك قنصوة الغورى أمام جيش العثمانيين، فانفتح الطريق لسقوط مصر فى يد العثمانيين، وانتهى آخر عهود ازدهار مصر ما قبل العصر الحديث، ودخلت البلاد فى حالة من الركود دامت لثلاثة قرون. لقد تعاقب على مصر غزاة وحكام أجانب من كل لون، لكن حكم العثمانيين كان الأسوأ على الإطلاق.
بانتهاء حكم المماليك، ووقوع البلاد تحت الحكم العثمانى، دخلت البلاد فى عصر انحطاط، تعمق بمرور الوقت. المماليك، أو الأرقاء المحاربين، هم ظاهرة فريدة ميزت الحكم الإٍسلامى فى الشرق الأوسط. بدأ الأمر باستجلاب المماليك كمرتزقة يحاربون باسم الخليفة العباسى، ووصل ذروته عندما حكموا أقاليم رئيسية فى المنطقة، خاصة مصر. المفارقة هى أنه رغم الطابع الارتزاقى لطائفة المماليك، إلا أن حكمهم لمصر كان خبرا جيدا، فى حين كان سقوط حكمهم نذير شؤم.
فقدت مصر استقلالها منذ انتهى حكم فراعنة مصر، وتحولت البلاد إلى إقليم ملحق بإمبراطورية كبرى، تحكم من مركز بعيد. هذا هو ما حدث تحت الحكم الفارسي؛ والروماني؛ والإسلامى، فى عصور الراشدين والأمويين والعباسيين. للتبعية والإلحاق بمركز الحكم الإمبراطورى البعيد مثالب كثيرة، أهمها هو نهب الموارد الاقتصادية، حيث قام الولاة الذين حكموا مصر باسم الإمبراطورية – أيا كان اسمها أو دينها – بنزح الثروة من مصر إلى مركز الإمبراطورية، فى صورة ضرائب باهظة.
كان الإلحاق والتبعية لإمبراطورية أجنبية سببا أساسيا فى إفقار مصر والمصريين، ولم يكن هذا النزيف ليتوقف إلا عند توقف التبعية والإلحاق، وتصبح مصر مركزا للحكم، بغض النظر عن هوية الحكام، وعن دينهم؛ وبغض النظر أيضا عما إذا كانت مصر مركزا لإمبراطورية شاسعة، أم اقتصرت على المساحة التاريخية المحجوزة لها منذ فجر التاريخ. حدث هذا تحت الحكم الفاطمى (969- 1171 ميلادية)، فرغم أن الدولة الفاطمية ولدت فى شمال إفريقيا، إلا أنها ما إن فتحت مصر، إلا واتخذها الفاطميون مقرا لحكمهم، فأصبحت مصر مركزا للإمبراطورية الفاطمية، ونقطة استقبال الضرائب التى يجرى جمعها من أقاليم الدولة، لترسل إلى القاهرة. تواصلت هذه التقاليد جزئيا فى عهد دولة الأيوبيين القصير (1174 – 1250 ميلادية)، الذين سرعان ما انقسموا على أنفسهم، وتفتت دولتهم، وترددوا بين مصر والشام كمركز لحكمهم.
دولة المماليك هى أطول فترة متصلة استعادت خلالها مصر مكانتها كمركز للإمبراطورية. امتدت دولة المماليك لأكثر من مائتى عام (1250 – 1517 ميلادية)، وليس مصادفة أن جل ما تبقى فى مصر من آثار وعمارة إسلامية يرجع إلى عصور الفاطميين والأيوبيين والمماليك، خاصة العصر المملوكى، الذى خلف فى مصر الجزء الأعظم من الميراث المعمارى والثقافى الممثل للحضارة الإسلامية. حدث هذا لأنه فقط فى هذه العهود توقفت عملية نزح الثروة إلى خارج البلاد، بل وأصبحت القاهرة المركز الذى تتجمع فيه الضرائب التى يتم تحصيلها من الأقاليم البعيدة الخاضعة للحكم الإمبراطورى، الأمر الذى أتاح فائضا اقتصاديا يكفى لإنشاء الصروح الدينية والمنشآت المعمارية والهندسية الكبرى، التى مازالت باقية إلى اليوم.
انتهى كل هذا عندما سقطت مصر تحت حكم العثمانيين، وعادت البلاد لإرسال الضرائب إلى مركز الإمبراطورية البعيد، فحرمت مصر من مراكمة واستثمار الفائض الاقتصادى الذى يسهم فى نموها. غير أن الأمر هذه المرة كان أسوأ بكثير من كل المرات السابقة التى تم فيها إلحاق مصر بإمبراطورية أجنبية، ففى هذه الحقبة وقع البلد تحت حكم اثنين من المحتلين الأجانب فى الوقت نفسه: العثمانيين والمماليك؛ الأمر الذى عرضها لاستغلال مزدوج، ضاعف حجم النهب الذى تعرضت له البلاد. لقد واصل الأتراك العثمانيون اتباع الأساليب نفسها فى انتزاع الثروة من مصر لمركز الإمبراطورية، ولم يأتوا بجديد فى هذا المجال. أما الجديد فقد جاء بسبب الصيغة الفريدة لحكم مصر التى طبقها العثمانيون، عندما أشركوا المماليك، وهم فريق أجنبى آخر، معهم فى حكم مصر. لقد تغيرت علاقة المماليك بمصر مع تغير وضعهم من سلالة حاكمة مستقلة، إلى شريك أصغر للعثمانيين، فتحولوا إلى طفيليات خبيثة مفترسة، تنهب ضحيتها بلا تدبر، ولو أدى الأمر إلى تدميرها.
لقد ازدهرت مصر فى العصر المملوكى، عندما كان المماليك مسئولين عن البلاد، وعندما مثلوا السلطة العليا فيها، وعندما ارتبطت مصالحهم ومصائرهم بمصلحة ومصير مصر، فحرصوا على ازدهارها، ولو على طريقتهم. اختلف الأمر تماما عندما حكم المماليك مصر بالشراكة مع العثمانيين، وتحت قيادتهم، فتعرضت مصر لنهب مزدوج عثمانى مملوكى، وصل إلى أسوأ مراحله فى القرن الثامن عشر.
وصل الحكم العثمانى المملوكى لأسوأ مراحله عندما ضعفت السلطة العثمانية إلى الحد الذى جعل منها سلطة ضعيفة، غير قادرة على صيانة حكمها، لكنها فى الوقت نفسه بقيت أقوى من أن يتم إسقاطها والتخلص منها كلية؛فاحتفظت بحقها فى المطالبة بنصيبها من الضرائب، حتى وإن عجزت عن الحصول عليه فعلا.
هذا هو القرن الثامن عشر العثمانى فى مصر، وفى هذا الإطار تصرف المماليك كطفيليين نهابين بلا قوة تردعهم؛ دون أن يشغلهم مصير البلد الذى يتكسبون منه، فملكيته الشرعية والمسئولية عنه بقيت فى يد العثمانيين، الذين أخذ الضعف ينخر فى دولتهم. الدرس هو أنه لا شيء يعلو فوق استقلال الأوطان. هكذا كان الأمر قديما، كما هو بالضبط الآن.