تواجه التنظيمات والجماعات التي تتبنى فكرًا متطرفًا في العموم تحديات جمة عند محاولة تغيير صورتها الذهنية، أو محاولة التماهي مع ما تفرضه التطورات المحيطة بها من دوافع للتغيير، أهمها تعارض تلك المحاولات -في كثيرٍ من الأحيان- مع السعي نحو ترسيخ المصداقية لدى مريدي هذه الجماعات ومؤيديها وربما أعضائها، بالإضافة إلى أنماط شخصيات المنضمين لتلك الجماعات وداعميها، ومدى قبولهم للتغيير، خاصة وأن هناك علاقة عكسية واضحة بين التطرف والمرونة. وعلى الرغم من الفروق الفردية بين أعضاء هذه الجماعات، إلا أنهم محكومون بنمط تفكير جمعي، وتوحد مع قيم الجماعة ومسلماتها، وهو ما يجعل أي محاولة للتشكيك أو إعادة النظر بمثابة تهديد محتمل لتماسكها وقدرتها على الاستمرار واستقطاب أعضاء جدد. وتبدو هذه الأزمة بوضوح عندما تفرض المعطيات إعادة النظر في مسلّمات تمثل الأساس الراسخ للنسق الفكري والعقائدي لهذه التنظيمات، والذي قد يؤدي الحياد عنه إلى انقسامات وشروخ حادة في بنائها الداخلي. فهل ينطبق هذا على طالبان؟.
سيكولوجيا طالبان
لقد قامت حركة طالبان على الفكر الديني المتطرف، والعصبية القبلية، اللذين يمتزجان معًا ليُنتجا -في النهاية- حركة لها خصوصيتها مقارنة بمثيلاتها، فهي: “جماعة دينية، قائمة على جذور وبنية قبلية، لها جناح عسكري، وتسعى لممارسة السياسة”. تأمُّل هذا التوصيف يوضح أن طبيعة الحركة تجعلها حالة خاصة، لا يجوز التعامل معها وفقًا لمعايير التعامل مع التنظيمات الإرهابية التقليدية، أو معايير جماعات الإسلام السياسي، وبالطبع لا يمكن الجزم بكونها جماعة قبلية تقوم على العصبية فقط، على الرغم من أن غالبية أعضائها ينتمون لقبيلة واحدة هي “البشتون”، ومن المهم الرجوع إلى هذا التعريف عند تقييم مساعي الحركة لتغيير صورتها الذهنية، والنظر إلى سيكولوجيا الحركة وتفسير اتجاهاتها الراهنة والمستقبلية.
وفي ظل ما سبق ذكره من بناءٍ نفسي مركب، فإن أنماط شخصيات أعضاء الجماعة على الرغم من تبايناتها الفردية تتفق في كونها شخصيات “متعصبة قبليًا ومتطرفة دينيًا”، وهو ما يجعل قدرة الحركة على التعامل مع تلك العصبية وهذا التطرف موضع استفهام. ويبدو أن ما قامت به طالبان من تحركات ومبادرات للطمأنة في وقت سابق بمثابة محاولة جيدة لإقناع نفسها قبل العالم بأنها قادرة على التسامح مع المعارضين، والتعامل المرن مع القضايا الإشكالية. والحقيقة أن هذا هو الجانب السياسي الذي تسعى الحركة لتبنيه، ولكن التساؤل المطروح الآن هو: أيهم سيطغى؟ طالبان البشتون، أم طالبان القاعدة، أم حكومة طالبان؟ تظل الإجابة على هذا التساؤل رهنًا بمدى قدرة طالبان على تجاوز الحواجز النفسية التي تحول دون ذلك، ويقصد بالحواجز النفسية هنا البنى الشخصية والمعرفية لقادة الحركة وأعضائها ومؤيديها، وهو ما يعني شرعنة التغييرات المطلوب إحداثها في مبادئ عملها واتجاهاتها لتتسق مع أهدافها السياسية، وفي الوقت نفسه لا تنتقص من مصداقيتها.
وبالنظر إلى المعطيات التي سبق ذكرها، سيظل نجاح طالبان رهنًا بقدرتها على تغيير صورتها الذهنية، وكسب الشرعية والقبول الدولي دون إعادة نظر في أفكارها والتخلي ربما عن بعض مسلماتها السابقة، أي أن يكون لدى طالبان مرونة للتغيير، هذه المرونة هي التحدي الرئيسي الذي سيواجه الحركة خلال المرحلة القادمة، فهل هي قادرة؟.
في حديث له على قناة “الغد” (16 أغسطس 2021)، أجاب “محمد نعيم”[1]، المتحدث باسم المكتب السياسي للحركة، عن التساؤل المطروح حول ما إذا كانت طالبان اليوم تختلف عن طالبان بالأمس، بأن “التغيير يحدث”، والاختلاف عن الأمس نتج عن الخبرات التي اكتسبتها الحركة وتغير الواقع، ولكنه استدرك حديثه بأن هناك مسلمات غير قابلة للتغيير أو المساومة. تحاول الحركة الآن الالتفاف عند الإجابة على تساؤلات عديدة تطرح عليها من قبل وسائل الإعلام، وأقر المتحدث باسم الحركة بأن ما حدث من دخول سهل إلى كابول وسيطرتهم الكاملة كان مفاجِئًا لهم أيضًا مثلما فاجأ العالم. وبصرف النظر عن صدق هذه “المفاجأة” من عدمه، فمن الواضح أن هناك العديد من القضايا التي لم تحسم الحركة موقفها منها بعد، وأن هناك ضبابية واضحة في الرؤية لديها، وأن ما يحدث الآن ما هو إلا سعي لخلق مساحات تفاهم مشتركة تضمن لها الصمود خلال الفترة القادمة في ظل ترقب المجتمع الدولي.
حواجز نفسية: هل تنجح طالبان في تجاوزها؟
استنادًا إلى ما سبق، يمكن القول إن حركة طالبان تواجه في هذه المرحلة عددًا من التحديات والحواجز النفسية التي يتعين عليها تجاوزها لتحقيق أهدافها، وكسب المصداقية داخليًا وخارجيًا، أبرزها:
١. حاجز المرونة: تميل الحركات التي تتبنى هيكلًا هرميًا ونسقًا فكريًا متطرفًا إلى ما يُطلق عليه علماء النفس “الانغلاق المعرفي” Cognitive closure، الذي يعني الميل إلى تجنب العمليات العقلية المعقدة والتفكير العميق، وهو ما يدفع نحو الميل إلى صياغة رأي واضح ودائم وراسخ حول قضية ما. والحقيقة أن حالة الانغلاق تلك توفر لمتبني الفكر المتطرف داخل الجماعات ما يمكن وصفه بـ”الحماية المعرفية” من عدم اليقين والشك وما يترتب عليه من شعور بالتهديد الشخصي والاجتماعي. هذا المنظور شديد التبسيط هو القاعدة التي يقوم عليها الفكر المتطرف لدى جماعات هرمية متطرفة مثل طالبان، وهو ما يعني أن أعضاء الجماعة يميلون بالضرورة إلى الانصياع للصور النمطية وتصديقها، والامتثال المطلق وغير المشروط لمعايير الجماعة وقوانينها والدفاع عنها حتى الموت، وبالتالي فإن محاولات التغيير من نسق التفكير هذا لدى أعضاء الحركة ليس بالأمر السهل، فهذا التغيير يتطلب ميلًا لدى قاعدتها قبل قاداتها إلى الانفتاح على الآخر وقبول الاختلاف، والأهم الاندماج، وهو ما يترتب عليه “مشقة نفسية” قد يؤدي التعامل غير الصحيح معها إلى عكس النتائج المرجوة. باختصار، إن سعي الحركة نحو تغيير صورتها الذهنية لن ينجح دون أن يتغلب أعضاؤها على حالة “الانغلاق المعرفي” تلك.
٢. حاجز الهوية: تبدو بوضوح حاجة الحركة إلى إعادة صياغة هويتها من خلال “البحث عن هوية اجتماعية مشتركة” بين أعضائها وباقي أطياف وتنويعات المجتمع الأفغاني، ويُقصد هنا “إعادة الصياغة لا التغيير ولا التشويه”، ولعل المتابع لتصريحات قادة الحركة في الآونة الأخيرة سيجد أن اللغة التي تستخدمها طالبان قد تغيرت، فلم يعد الحديث عن الخلافة الإسلامية والدولة الدينية، بل أصبح يصاحبه وربما يسبقه أحيانًا “مصطلح القومية”، فعند متابعة تعقيبات رموز الحركة ومتحدثيها يتضح أن القومية هي المصطلح المتكرر، الذي تحاول طالبان من خلاله الارتفاع فوق العصبية القبلية وجذب ولاء القبائل الأخرى، من خلال طرح مفهوم القومية الأفغانية، لتصبح الهوية الشاملة التي تذوب بداخلها التباينات القبلية، والتمييز، ونجاح طالبان في تطبيق هذا المفهوم الجديد للهوية يظل تحديًا راسخًا يصعب تحقيقه، ولكنه ليس مستحيلًا.
٣. العقل الجمعي: على الرغم من أن حركة طالبان قد سبق وحكمت البلاد في الفترة من عام 1996 إلى عام 2001؛ إلا أنها كانت تحكمها كإمارة يقودها أمير وليس دولة يقودها رئيس. لقد أصبح لزامًا على طالبان الآن أن تنتقل من “حركة طالبان” إلى “حكومة طالبان”، وهو ما يعني تبني نسق تفكير ومعالجة عقلية مختلفة للمعطيات المحيطة. انتقال الحركة للتفكير من مقعدها كحكومة لدولة يتبعه أيضًا انتقال قادة الحركة من التفكير والفعل استنادًا لكونهم أمراء جماعة، إلى كونهم قادة لدولة يفكرون ببعض البراجماتية، ويسلكون وفقًا لما تقتضيه الضرورات السياسية، ويقدرون على تقديم التنازلات أحيانًا، والأهم أنهم قادرون على السيطرة على مخزونهم الشعوري السابق الممتلئ بالرغبة في الانتقام واستساغة استخدام العنف في الرد على الخصوم والأعداء.
لقد تناول تقرير صادر عن “شاتام هاوس”، في 17 أغسطس 2021، هذا الحاجز، وأشار إلى “وجوب انتقال طالبان من التمرد إلى الحكم”.[2]
قد يُفلح هذا النمط من التفكير على مستوى القادة والصفوف الأمامية، ولكن يصعب تحقيقه على مستوى القاعدة التي تَشكل لديها “عقل جمعي” لديه ميراث من الأفكار والقيم المشتركة الراسخة التي يصعب هدمها، أو على أدنى تقدير تغييرها، وهو ما يعود -كما ذكر سابقًا- إلى حاجز المرونة، وهو ما أشار له التقرير المنشور على موقع “فوكس Vox” من أن القادة السياسيين لحركة طالبان يدركون أهمية الحديث إلى العالم والحصول على الاعتراف الدولي، وهو ما يضمن وجود بعض البراجماتية في تحركاتهم، ولكن هناك الآلاف من قادة طالبان وجنودها على الأرض الذين قد لا يشاركون قادتهم هذا الرأي. ويشير التقرير إلى أن هذه الفئات المختلفة من طالبان لها أولويات مختلفة، وسيكون من الصعب التنبؤ بما إذا كانت ستقف في الصف، وهو ما يعني عدم استبعاد حدوث انقسامات أيديولوجية.[3] يعزز ما سبق ما تتسم به بنية طالبان اللا مركزية، حيث ستبدو هذه التناقضات أكثر وضوحًا في الأطراف التي تحكم سيطرتها عليها فروع الجماعة، والتي من المتوقع أن تتعامل بصورة أكثر عنفًا وتشددًا.
٤. توحد مفهوم الدولة مع الحركة “طالبانستان”: لا تفصل حركة طالبان بين وجودها كحركة ووجود الدولة الأفغانية، إذ يبدو أن كيان الدولة لديهم مرتبط بكيان الحركة لا ينفصلان، ومن هنا فإن كل تحركات طالبان ستأتي مسترشدة بهذا المحرك، وهو ما بدا بوضوح في توجه الحركة نحو تغيير علم أفغانستان واستبداله بعلم طالبان، وهو ما ترتب عليه نشوب العديد من الاحتجاجات الرافضة. ويبدو أن دستور الدولة سيكون نسخة قد تبدو أكثر اعتدالًا من دستور طالبان الذي تم الإعلان عنه في عام 2015، سيصعب هذا التوحد بلا شك محاولات الإدماج، ومساعي استيعاب الآخر.
5. التبسيط المفرط: يمثل التبسيط المفرط حاجزًا عقليًا راسخًا لدى التنظيمات المتطرفة بشكل عام. يقوم هذا التبسيط على ما يطلق عليه علماء النفس “الانغلاق المعرفي” الذي سبقت الإشارة إليه، وهو ما يعني أن مفاهيم مثل الحرية والديمقراطية وغيرها من المفاهيم الغربية التي أصبحت الحركة تظهر قبولها لها، لها مرادفات مختلفة لديها، فنظرة الحركة للدولة والمؤسسات تتسم بالتبسيط الشديد، وهذا التبسيط هو ما جعل الحركة لا تزال مرتبكة حيال العديد من التعقيدات والقضايا التي لا يوجد لها حتى الآن تصور واضح أو رؤية محددة، في ظل رسوخ “مفهوم الإمارة الإسلامية” بدلًا من مفهوم الدولة.
وفي النهاية، يتعين التمييز بين القبول والإيمان عند النظر لظاهر تحركات طالبان، فقبول الحركة وسماحها ببعض الممارسات التي تبدو أكثر تسامحًا وأكثر اتساقًا مع ما يطالب به المجتمع الدولي ومع صورتها المرجوّة، لا يعكس إيمان الحركة بهذه المفاهيم، أو يقينًا داخليًا بأن تلك الممارسات هي السبيل الأمثل وإنما السبيل الآمن اللحظي، وهو ما يجعل الانقلاب على هذه المفاهيم ليس مستبعدًا وربما يكون متوقعًا، وهو ما يدلل عليه عدم حدوث تغير جذري في ممارسات طالبان عقب سقوطها، فهي لم تتغير بالفعل، وممارساتها داخل أفغانستان لم تكن أكثر مرونة، بل استمر طوال السنوات الماضية رفض الحركة لتعليم الفتيات، واستهداف المتعاونين مع المعارضين وبصفة خاصة الولايات المتحدة. لم تخضع الحركة لعملية تغيير بطيء خلال العشرين سنة الماضية، كما تُردد العديد من التحليلات المنشورة؛ بل ظهر هذا التغيير الظاهري فجأة عندما وجدت طالبان نفسها في مواجهة العالم وحصلت على مكاسب هائلة تخشى فقدها، وترغمها على تبني خطاب للخارج قد يكون مغايرًا لثوابتها وأهدافها الحقيقية.
[1] لقاء مع المتحدث باسم المكتب السياسي لحركة طالبان محمد نعيم، قناة الغد، 16 أغسطس 2021، متاح على: https://www.youtube.com/watch?v=c64aft1xd0w
[2]Hameed Hakimi.Taliban must transform from an insurgency to govern. Chatham House, 17 AUGUST 2021, available at: https://www.chathamhouse.org/2021/08/taliban-must-transform-insurgency-govern
[3] Jen Kirby .Who are the Taliban now?, Vox, Aug 17, 2021, available at: https://www.vox.com/22626240/taliban-afghanistan-baradar