منذ إعلان البرلمان التونسي الثقة في حكومة “إلياس الفخفاخ”، في فبراير الماضي، بعد فترة من عدم الاستقرار الوزاري في تونس، والشعب يعلق آماله على هذه الحكومة للتصدي لما تواجهه تونس من تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية كبرى، يأتي في مقدمتها الخلافات الحزبية بشأن المناصب الحكومية، والإنفاق العام الضخم، والفساد والبطالة، بالإضافة إلى تراجع وضعف مستوى الخدمات العامة، خاصة داخل القطاع الصحي كما أظهرته أزمة (كوفيد-19). ورغم هذه الثقة التي حصلت عليها الحكومة، فإنها تعاني من توتر داخلها وانقسامات محتملة، تغذيها مواصلة الإخوان تحركاتهم للسيطرة على عملية صنع القرار في تونس. وكما عبّر رئيس الوزراء الأسبق “علي العريض” في وصف الحكومة الحالية قائلا: “إن الحكومة الحالية يمكنها أن تعمل في ظروف أفضل إذا نجحت في وضع حدٍّ للثنائية الموجودة حاليًّا، المتمثلة في أغلبية برلمانية معارضة للحكومة، وأغلبية حكومية تشقها الخلافات”.
وحول محاولات الإخوان في تونس، ممثَّلين في حركة النهضة الإسلامية ورئيسها الحالي “راشد الغنوشي” (رئيس البرلمان)، للسيطرة والتأثير في عملية صنع القرار في تونس، نطرح الملاحظات التالية:
1- هناك ثقة مفقودة من حركة النهضة في رئيس الحكومة الحالي “الفخفاخ” ذي التوجه اليساري، رغم مشاركة الحركة بست حقائب وزارية في هذه الحكومة. وفي 25 أبريل الجاري، قام رئيس الوزراء بتعيين اثنين من قيادات حركة النهضة في رئاسة الحكومة برتبة مستشارين لرئيس الوزراء، رغم عدم توفر الكفاءة والمؤهلات الضرورية فيهما. الأول هو القيادي في حركة النهضة “عماد الحمامي” الذي تم تعيينه مستشارًا لدى رئيس الحكومة برتبة وزير، وهو الحارس رقم واحد للغنوشي، ويمثل الصندوق الأسود للغنوشي، وكان مديرًا لحملته الانتخابية، وهو لا يملك -حسب المتابعين- الكفاءة اللازمة لتولي هذا الموقع. أما الثاني فهو القيادي في الحركة “أسامة بن سالم”، الذي تم تعيينه مستشارًا لدى رئيس الحكومة برتبة كاتب دولة، وهو صديق شخصي لصهر الغنوشي ووزير الخارجية الأسبق “رفيق عبدالسلام”. ويواجه “بن سالم” عدة اتهامات قضائية، أبرزها تهريب أموال، وفتح قناة تلفزيونية دون ترخيص قانوني (قناة الزيتونة) التي عملت على تحدي الدولة، بالإضافة إلى تلقيه أموالًا مجهولة المصدر من الخارج، حسب تأكيدات البنك المركزي التونسي. ووصلت مجموعة الاتهامات الموجّهة له إلى حدّ تلقي أموال قطرية وتركية للقيام بتبييض الجماعات الإسلامية المتورطة في خدمة الإرهاب، والقيام بالدعاية الإعلامية لحركة النهضة ورئيسها “راشد الغنوشي”.
هذه التعيينات تُنذر بأزمة حكومية لما أثاره هذا الأمر من اعتراضات وتحفظات من جانب الرأي العام والأحزاب السياسية الأخرى، وعلى رأسها الحزب الدستوري وحزب التيار الديمقراطي. وتشير مختلف التحفظات إلى أن هذا التعيين يضع مصداقية الحكومة وقدرتها على تجاوز الخلافات داخلها موضع شك.
2- أن محاولات حركة النهضة الإخوانية للسيطرة على صنع القرار في الحكومة أمر معتاد، وقد اتخذت إجراءات مماثلة من قبل بهذا الخصوص. فمع انفراد “راشد الغنوشي” -رئيس حركة النهضة الإخوانية- بالقرار، ووصوله إلى منصب رئيس البرلمان التونسي وعضو مجلس الأمن القومي التونسي، وهو يعمل على تصعيد أتباعه ورجاله في الحركة الإخوانية، وترشيحهم في الوظائف القيادية بتونس، وحاول فرض حكومة “الحبيب الجملي” في يناير الماضي لكنه لم يتمكن من هذا، الأمر الذي أدى إلى إضعاف ثقله البرلماني نسبيًّا، كما أدى إلى استقالات متعددة داخل الحركة وانشقاقات داخلها؛ الأمر الذي رأى بعض المحللين أنه دفع “الغنوشي” للاستقواء بالخارج، خاصة علاقته بتركيا ورئيسها “أردوغان”.
3- لم يختلف إخوان تونس عن غيرهم من فروع الإخوان في السعي للسلطة واعتمادهم على الاختراق والتمكين. وكما عبرت رئيسة الحزب الدستوري “عبير موسى” قائلة: “يسعى التنظيم الإخواني منذ مجيئه إلى تونس إلى الانفراد بالمشهد السياسي، والهيمنة على كل مفاصل الدولة، وعلى كل شيء”. وتسيطر حركة النهضة الإخوانية نسبيًّا على البرلمان؛ إذ تمثل 25% تقريبًا من تركيبة البرلمان (54 نائبًا برلمانيًّا من إجمالي 217 نائبًا)، بالإضافة إلى رئيس البرلمان ذاته. كما عيّن “الغنوشي” أعضاء من الحركة كمستشارين له في البرلمان بعقود غير معلنة وغامضة، مثل تعيينه أحد أقاربه “الحبيب خضر” مديرًا لديوان البرلمان، كما يرافقه صهره في البرلمان الوزير الأسبق “رفيق عبدالسلام”، وهو ما اعتبره البعض محاولة لإيجاد “إدارة موازية” داخل البرلمان. كما تتحرك كتلة النهضة لتمرير مشروعات بمجلس النواب لتشكيل ائتلاف سياسي مع بعض القوى المدنية لتحقيق الهيمنة الإخوانية على البرلمان ونفي الرأي المخالف.
ولا شك أن قرار تعيين مستشارين ينتميان للإخوان يعد دعمًا مضافًا لقوة تأثير التنظيم مع سيطرته على البرلمان. وكما يراه المراقبون في تونس فإن الإخوان استهدفوا محاصرة “الفخفاخ” وابتزازه عبر التهديد بسحب الثقة برلمانيًّا في حال لم يستجب لرغباتهم الجامحة في التموقع داخل السلطة. فوجود هذين المستشارين يهدف بالأساس إلى رصد تحركات رئيس الحكومة بعد المصادقة على توسيع صلاحياته برلمانيًّا، ومن ثم هناك تخوف من أن يقلب رئيس الوزراء موازين الحكم على فصائل الإسلام السياسي الموجودة في دواليب الدولة منذ سنة 2011، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، يستهدف هذا التحرك أيضًا الضغط من قريب على سياسات الحكومة، والعمل على غلق ملفات تكشف عن فساد بعض رجال الأعمال المرتبطين بحركة النهضة.
4- هذه التعيينات المفاجئة، يرى فيها المراقبون أنها قد تفجر في الأيام المقبلة صراعًا بين مختلف مكونات الائتلاف الحاكم، خاصة مع ارتفاع نبرة الخلاف بين حركة النهضة وحزب التيار الديمقراطي الرافض لوجود عناصر إخوانية، ذات تكوين عقائدي متشدد في الفريق الواسع للفخاخ. كما أن هذه التعيينات يمكن أن تُضعف مصداقية “الفخفاخ” وثقة الشعب فيه، حيث قام بتعيين شخصيات تحوم حولها شبهات فساد مؤكدة وشبهات دعم للإرهاب. كما أنها تعمق التوغل الإخواني في مفاصل الدولة، وهذا قد يهدد بدفع حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب إلى الانسحاب من الائتلاف الحاكم والانضمام إلى المعارضة.
5- هناك آراء متباينة حول موقف الرئيس من حركة النهضة، ومدى التفاهم القائم بين الطرفين. فهناك من يرى أن الرئيس “قيس سعيد” يتسم بالحيادية مع كل الأحزاب والتيارات، ولا يوافق على الأدوار الجانبية التي يقوم بها بعض أعضاء البرلمان، وأنه قد تحفّظ على الزيارة التي قام بها “الغنوشي” إلى تركيا، وأن هذه الحيادية لا تُرضي النهضة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فهذه التدخلات والأدوار التي يريد أن يلعبها “راشد الغنوشي” تأتي كمحاولةٍ لجعل مكتب البرلمان هو المطبخ الأول والأخير للسياسات الخارجية لتونس، وربما استقطاب الرئيس “سعيد” لسحب بساط العلاقات الخارجية فعليًّا من مؤسسة رئاسة الجمهورية، وتوجيهها بما يتماشى مع الأجندة الخاصة بالحركة. بينما يرى آخرون أن الرئيس “قيس سعيد” يدرك قوة حركة النهضة، وربما يتوافق فكريًّا معها، لكنه لا يرغب في الانتماء لجهة فكرية محددة، بل يعمل على إظهار الحيادية من جانب، ومن جانب آخر هو يدرك تأثير “الغنوشي”، ويحرص على التفاهم معه، رغم وجود بعض مظاهر التوتر بينهما في بعض الأحيان ربما لتجاوز حدود السلطة في بعض المواقف.
ويُعد توافق موقف الرئيس وحركة النهضة من الوضع في ليبيا مظهرًا للتفاهم بين الطرفين، فكل منهما يدعم حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، كما صرح “سعيد” مؤخرًا في 17 أبريل 2020 بأن موقف بلاده واضح من مسألة دعم حكومة الوفاق الوطني الليبية الشرعية، وأن أي تصريح يخالف ذلك لا يعبر عن الموقف التونسي الرسمي، فيما يُعد توافقًا مع حركة النهضة. ويظهر اختلاف في حدود هذا الدعم؛ ففي حين تتمحور تصريحات “سعيد” بخصوص الوضع الليبي على ضرورة الحل السلمي، والالتزام بالشرعية الدولية، والابتعاد عن التدخل الخارجي؛ تسعى حركة النهضة لتقديم مزيد من الدعم؛ فدعمها لحكومة “السراج” يتجاوز الدعم السياسي الذي تفرضه قواعد الانتماءات الإخوانية والتفاعلات الفكرية، وإنما هو دعم عسكري ولوجيستي تفرضه وحدة المصير والخوف من اتساع رقعة العزلة الإخوانية في المنطقة. كما تشير التقديرات إلى أن بعض الحركات الإسلامية التونسية تقوم عبر أجهزتها السرية بعملية تأمين تهريب السلاح والمعدات اللوجستية إلى الغرب الليبي المحيط بالعاصمة طرابلس، وهي عمليات تهريب تؤمنها قوافل إخوانية، وتشرف عليها قيادات من حركة النهضة تنشط في الجنوب التونسي، وعبر أباطرة التهريب الموجودين في المنطقة.
6- يحظى “راشد الغنوشي” -رئيس حركة النهضة- بمكانة رفيعة في التنظيم الدولي للإخوان. وهذه المكانة توفر التنسيق بين النهضة وتركيا التي تحتضن التنظيم الدولي، وتعتبر المشروع الإسلامي وتيار الإسلام السياسي هو وسيلة إحياء “الخلافة” وتحقيق النفوذ التركي في المنطقة العربية. ومن هذا المنطلق تتوافق الرؤى والخطوات التي تقوم بها حركة النهضة لتحقيق المصالح التركية في المنطقة، باعتبار أن ذلك يخدم المشروع الإسلامي. وفي مقدمة هذه المصالح يظهر الحرص التركي على التمركز في شمال إفريقيا، والانطلاق من تونس لتنفيذ الاستراتيجية التركية في ليبيا وشرق المتوسط ودعم الإخوان في المنطقة.
وقد كانت زيارة “الغنوشي” لتركيا في أعقاب إخفاقه برلمانيًّا في الحصول على ثقة البرلمان لحكومة “الجملي” في يناير الماضي، والتي كشفت عن عمق الترابط بين الحركة ورئيسها مع تركيا ورئيسها. كما تشير المصادر إلى أنه في هذه الزيارة التي قام بها بشكل غير رسمي، خطط لزيارة “أردوغان” لتونس، في محاولة لدفع الدولة التونسية لتسهيل الإمدادات التركية بالسلاح وبالميليشيات لحكومة الوفاق في ليبيا. ورغم عدم نجاح هذه المحاولة، فإن حركة النهضة لم تتوقف عن مساندة سياسات تركيا، ومناصرة الإرهابيين في ليبيا العاملين تحت الرعاية التركية. ويأتي تصريح النائب الإخواني “سيف الدين مخلوف” داخل البرلمان دفاعًا عن الإرهابي “سيف الرايس” (تنظيم أنصار الشريعة) ليشير إلى أن التقاطعات بين الإخوان والإرهاب هي تقاطعات عضوية، مثبتة بكل القرائن والوقائع الميدانية.
وما زالت حركة النهضة تعمل لدعم السياسات والمصالح التركية في المنطقة عامة، وفي تونس على وجه الخصوص، إلى درجة أن بعض المراقبين في تونس يعتبرونها تفرط في الحقوق التونسية لصالح تركيا. وتشير المصادر إلى اتفاقيتين يسعى رئيس حركة النهضة “راشد الغنوشي” إلى تمريرهما من خلال البرلمان لصالح قطر وتركيا. فقد عقدت “عبير موسى” (رئيسة الحزب الدستوري) مؤتمرًا صحفيًّا بمقر البرلمان التونسي، أعلنت فيه أنه تمّ التسريع في طلب النظر في الاتفاقيتين؛ بسبب علاقة وصفتها بـ”المريبة” بين حركة النهضة الإسلاميّة، وقطر وتركيا، وأنّ الجلسة العامة يوم 29 أبريل 2020 ستخصص للنظر في مشروع قانون حول الموافقة على اتفاقية بين الحكومة التونسية وصندوق قطر للتنمية حول فتح مكتب له في تونس، ومشروع اتّفاقية حول القانون الأساسي المتعلّق بالموافقة على التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمار المبرم سنة 2017 بين تونس وتركيا. ولأن هذه المشاريع تعود إلى عامي 2016 و2017، فإن هذا يثير الشك حول وجه الاستعجال من أجل إبرام هاتين الاتفاقيتين، حتى يتم تمريرهما في مثل هذه الفترة الاستثنائية وفي مثل هذا الظرف بالذات، حيث الجميع منشغل بأزمة (كوفيد-19)!
مجمل القول، إن الإخوان يعملون في تونس -من خلال حركة النهضة ورئيسها “الغنوشي”- على السيطرة على دوائر صنع القرار التشريعية والتنفيذية، ويعتمدون في هذا على توفير الغطاء السياسي لتحركاتهم، وعلى الارتباط بالخارج ممثلًا في تركيا والجماعات الإرهابية النشطة تحت مظلة الإخوان في ليبيا وفي تونس أيضًا. لقد وصف “الجيلاني العمري”، الذي استقال من العمل السياسي من حركة النهضة منذ سنة 1998، “راشد الغنوشي” بأنه أخطر رجل في المغرب العربي، معتبرًا أنه لعب أدوارًا في غاية الخطورة في محاولة زعزعة الأوضاع الأمنية في الجزائر في سنوات التسعينيات، أو ما يُعرف بسنوات الجمر، وهذا الوصف يُعيد للأذهان الدور الذي يقوم به “الغنوشي” في المنطقة لصالح تركيا والتنظيم الدولي في الوقت الراهن.