يشهد العالم في الخامس والعشريين من نوفمبر الجاري حفل ثقافي وسياحي من نوع خاص، حيث تقوم مصر في هذا اليوم بافتتاح طريق المواكب الملكية بالأقصر أو المعروف اختصارا بطريق الكباش، وذلك بعد انتهاء مجهودات اكتشافه وترميمه وتطويره التي امتدت على فترات متقطعة خلال العقود الماضية، لتعاد الحياة بفضل تلك المجهودات إلى أقدم طريق معروف في تاريخ البشرية، بعد أن وارته الأرض عن الأنظار لقرون من الزمن،
ويعد هذا الحدث الثاني من نوعه بعد احتفال موكب المومياوات الملكية الذي تمت فاعلياته في أوائل أبريل الماضي من عام 2021م، والذي شهد نقل 22 مومياء لملوك وملكات مصريين من عصر الدولة الحديثة، من مقرهم القديم بالمتحف المصري بالتحرير إلى مقرهم الجديد بمتحف الحضارة المصرية بمنطقة الفسطاط، بالإضافة إلى افتتاح متحف الحضارة المصرية ذاته، والذي يعتبر الأول من نوعه بين المتاحف الأثرية المصرية،
وتستهدف الدولة المصرية من اقامة الحفل الخاص بإعادة احياء طريق المواكب الملكية، أن تبرز مقومات مدينة الأقصر من النواحي الأثرية والسياحية والفولكلورية، وهو ما يؤكد على مكانتها كمقصد سياحي عالمي يضاهي عدد من المدن التاريخية الكبرى كاثينا وروما وباريس، لينعكس ذلك على انتعاش حركة السياحة الثقافية بالمدينة، وهو ما يُعظم بدوره من حجم السياحة الوافدة سنوياً، ويساهم في زيادة الإيرادات السياحية التي تجنيها البلاد.
مدينة ذات تاريخ عريق
تعتبر مدينة الأقصر واحدة من أقدم المدن المصرية تاريخياً،حيث كشفت البعثات الأثرية العاملة بالمدينة خلال العقود الماضية عن وجود شواهد لمباني ومعابد يعود تاريخها إلى عصر ما قبل الأسرات وإلى عهد الدولة القديمة، ولقد سجلت لنا نقوش المعابد والمقابر قصة تطور مدينة الأقصر أو ما عرفت في حينها باسم مدينة طيبة، فبعد نهاية عصر الاضمحلال الأول وفي بداية عهد الدولة الوسطي بقيادة الملك منتوحوتب الأول، أختيرت المدينة لكي تكون عاصمة لمصر الموحدة وهو ما أحدث بها ازدهاراً غير مسبوق> لتستمر المدينة بعد ذلك عاصمة للدولة المصرية حتي أواخر عهد الدولة الحديثة.
ولقد رصدت لنا النصوص التاريخية المسجلة على جدران المعابد، أثر الحملات التجارية والعسكرية التي قام بها عدد من ملوك الدولتين الوسطى والحديثة مثل منتوحوتب الثاني وتحتمس الأول وتحتمس الثالث وامنتحتب الثالث وحتشبسوت الي ممالك كوش وبونت وفينيقيا وكنعان، في تقوية المدينة من الناحيتين السياسية والاقتصادية، كما سجلت لنا النصوص التاريخية دور طيبة في محاربة القوات المعتدية على مصر، مثل الهكسوس والكوشيون وقبائل الليبو وشعوب البحر،
الرخاء الذي عاشته مدينة طيبة خلال عهدي الدولة الوسطي والدولة الحديثة، كان بمثابة الدافع للملوك المصريين من أجل تشييد العديد من الصروح الدينية والجنائزية، التي كانت ولازالت محل أعجاب للمؤرخين والرحالة والسائحين، حيث تشير التقديرات الرسمية إلى بقاء أكثر من 800 مزار أثرى بموقع مدينة طيبة القديمة إلى يومنا هذا، والأمثلة الأبرز لتلك المزارات هي معابد الكرنك والأقصر بالبر الشرقي من النيل، ومعبد الرامسيوم ومعبد الدير البحري ومقابر وادي الملوك والملكات بالبر الغربي من النيل، هذا ما دفع باليونسكو في 1979 إلى تسجيل طيبة القديمة كواحدة من مواقع التراث العالمي داخل مصر.
موكب مصري تاريخي
من المنتظر أن تتعدد الفاعليات التي سوف تشهدها مدينة الأقصر في يوم الخامس والعشرين، بين اضاءات مبهرة ستنير سماء المدينة, ومسيرات طويلة لعربات الحنطور المزينة, وابحار لعشرات من المراكب الشراعية بمجري نهر النيل, وظهور كثيف لمركبات البالون الطائر, لكن احتفالية إعادة احياء طريق المواكب الملكية المنتظرة, سوف تتمحور حول حدث واحد وهو محاكاة الموكب الافتتاحي لعيد الاوبت المصري Opet, ذلك العيد الذي عُرف في عهد الدولة الحديثة من تاريخ مصر القديمة, والذي كان مكرساً للاحتفال ببداية موسم فيضان النيل في كل عام ،
كانت أحداث هذا الموكب تبدأ مع خروج كهنة آمون من منطقة معابد الكرنك في شمال طيبة, حاملين علي اكتافهم ثلاث نماذج لمراكب نيلية, يعلو كل مركب منهم ناووس بداخله تمثال واحد لاحدي معبودات ثالوث طيبة المقدس, امون Amun رمز الشمس , وزوجته موت Mutرمز السماء, وابنهما خونسو Khonsu رمز القمر، كان الكهنة يتوجهون بموكبهم هذا باتجاه معبد الأقصر في جنوب طيبة، حيث كانت تتم وفق الاساطير المصرية القديمة عملية التزاوج والاخصاب بين المعبودين امون وزوجته موت, وهو ما يؤدي إلى إحلال البركة بمياه الفيضان ويساعد على زيادة نماء المزروعات، لتفوز البلاد بفضل هذا التزاوج المقدس بموسم حصاد غني ووفير.
كان الموكب المقدس يتحرك سنوياً بين معبدي الكرنك والأقصر، من خلال اتخاذ أحد الطريقين البري أو النهري، حيث كان الطريق الأول يمتد على مسافة 2،7 كم بين معابد الكرنك والأقصر وكان يحفه من الجانبين 1200 تمثالاً لمجسمات بعضها على هيئة أبو الهول بجسد أسد وراس انسان أو مجسمات على هيئة الكبش، أما الطريق الثاني وهو الطريق النهري فكان يمتد على مسافة مشابهة للطريق البري، وكانت تستخدم فيه الصنادل النهرية المدفوعة بالأشرعة الهوائية أو المجرورة بالحبال عن طريق البر.
موكب المعبودات الثلاث كانت تصحبه مجموعات من الجنود والعجلات الحربية وحملة الرايات كنوع من التشريف، كما كانت تسبق الموكب فرق من الموسيقيين والراقصين ومؤدي الألعاب البهلوانية بالإضافة إلى عدد من لاعبي رياضة التحطيب وأحد مُرتلي الترنيمات الدينية، وجوه الدولة وكبار رجالاتها كانت تصطف هي الأخرى عند معبد الأقصر انتظاراً لوصول الموكب المقدس، كنوع من الاجلال والتعظيم لمعبودات مصر الجالبة للخير والنماء، كما كانت موائد الطعام والشراب تهيئ بجانب المعبد احتفالاً بهذه المناسبة السنوية الضخمة، اما عوام المواطنين فكان بإمكانهم المشاركة في هذا العيد السنوي، من خلال مراقبة ومشاهدة الاحداث الجارية.
ملك البلاد كان أحد المشاركين الأساسيين في موكب المعبودات الثلاث، فلقد كانت من عاداته أن يتوجه إلى معبد الكرنك قبل تحرك الموكب، ليؤدي لمعبودات مصر الثلاث تعهداته بأن يجدد الحياة الدينية والدنيوية للدولة خلال العام الجديد، كما كان يحرق البخور ويهرق النبيذ تكريما لتلك المعبودات، ليحصل بذلك علي الحق الديني في تجديد فترة حكمه لعام أخر, وبعد أن يصل الموكب المقدس إلى معبد الأقصر كان الملك ينتظره بالبخور، في إشارة لبداية عملية التزاوج السنوي بين المعبودات والتي كان الملك طرفاً فيها، فهو وفق الاساطير القديمة ابن الالهة والرابط الروحي بينها وبين المجتمع المصري عامة.
صورة رقم 1: إحدى مشاهد موكب الثالوث المقدس المسجلة على جدران المقصورة الحمراء بمنطقة معابد الكرنك
المصدر: UCLA Encyclopedia of Egyptology, Opet festival, John Coleman Darnell, 2010
استعدادات مناسبة
بدأت الدولة منذ أوائل العام الفائت 2020م، في اتباع نهج تنموي هدفه إحداث نقلات تطويرية شاملة بأي موقع تراثي تجري على أرضه فعالية سياحية كبري، البداية كانت بموكب المومياوات الملكية، حيث قامت الدولة بتسريع الخطط المتعلقة بتطوير الميادين والطرق التي سيمر منها الموكب، وكان من أبرزها ميدان التحرير الذي جري تطويره بشكل كامل، لتنصب فيه مسلة وأربعة كباش أثرية، كما قامت الجهات المختصة بتطوير واجهات المباني المطلة على الميدان، لتتناسب من الناحية البصرية مع طبيعته السياحية والتراثية، علاوة على ذلك جري تطوير وتوسعة شبكة الطرق المحيطة بمتحف الحضارة لكي تتناسب مع حجم الحركة السياحية المتوقعة بعد الافتتاح،
وكما حدث في القاهرة، شهدت الأقصر هي الأخرى أشكال متعددة من الإهتمام التنموي خاصة في المناطق القريبة من المواقع الأثرية والسياحية، البداية كانت بملف البنية التحتية للمدينة حيث قامت الأجهزة التنفيذية بتطوير منطقة الكورنيش الشرقي للنيل والمواجه لمعبد الأقصر بطول 1،7 كم، كما نقلت مرسى المعديات النيلية المقابل للمعبد إلى موقع جديد تتوفر فيه مواقف للأجرة والسرفيس، وهو ما ساعد على ضبط الشكل الحضاري بتلك المنطقة، إلى جانب ذلك جرى تطوير الساحات الخارجية ومواقف الحافلات السياحية بمعابد الكرنك والاقصر.
كما نجحت السلطات المحلية في طلاء ما يزيد علي الألفي عقار وهم من المقابلين للمناطق الأثرية، بلون موحد يتناسب مع الهوية البصرية والذهنية للمدينة، وقامت السلطات أيضاً برصف وتجميل عدد من الطرق السياحية بالمدينة مثل طريق المطار وطريق الكورنيش، كما قامت بتنفيذ أكبر جدارية فنية في مصر بطول 25 متر وارتفاع 6 أمتار، والتي ستصبح أحد معالم المدينة المميزة.
الملف الاثري بمدينة الأقصر حاز على قدر كبير من اهتمام أجهزة الدولة، فبعد التعطل الذي عانت منه كافة المشروعات الاثرية بالمدينة مطلع العقد الماضي، عادت الجهات المختصة لتستأنف أغلب تلك المشروعات خلال السنوات الخمس الماضية، ولقد كان مشروع الكشف عن بقايا طريق الكباش أبرز تلك المشروعات، حيث استطاع الأثريون المصريون إنهاء عمليات التنقيب في معظم أجزاء الطريق، فيما تتم الآن عمليات تجميله وتهيئته لكي يتناسب مع دوره الجديد كممشى أثرى وسياحي رابط بين معابد الكرنك والاقصر.
فالزائر خلال رحلته بين المعبدين والتي ستدوم قرابة النصف ساعة، سيجد على جانبي طريق الكباش مجموعة من البقايا الأثرية مثل الورش الصناعية ومعاصر النبيذ، كما سيشاهد مجموعات من المزروعات التي كانت تزين الطريق بالفعل في عهد المصريين القدماء، علاوة على ذلك سيجد عددا من المرافق التي قد يحتاجها أثناء زيارته القصيرة لطريق الكباش.
الصروح الأثرية الكبرى لاقت هي الأخرى عناية خاصة من الجهات المختصة شأنها في ذلك شان طريق الكباش، حيث عمل المرممون الأثريون خلال الأشهر الأخيرة على ترميم كافة معابد البر الشرقي وما بها من أعمدة وتماثيل ضخمة، وأبرز مثال علي ذلك صالة الأعمدة بمعبد الكرنك والتي استطاعت فرق الترميم الأثري أن تعيد ألوانها الأصلية، بعد عمل متقن ودقيق جداً لإزالة الأتربة المتراكمة من على سطح كل أثر.
ختاماً, يمكن القول إن احتفالية مدينة الأقصر المزمعة في الخامس والعشرين من نوفمبر, ستمثل نقطة فارقة في سجل الأحداث الثقافية والسياحية المصرية، فلم يسبق في تاريخ بلادنا الحديث أن قامت مدينة مصرية بعمل كرنفال ثقافي وسياحي بذات الضخامة، وعلي الدولة المصرية أن تستثمر نجاح هذا الحدث إلى أقصي الحدود, مما سيساهم في إجتذاب أكبر عدد من السائحين, ويمكن للدولة ان تفكر من الان في عمل سلسلة من الاحتفالات الثقافية المتعاقبة زمنياً، أسوة بالكرنفالات الثقافية العالمية الكبرى مثل كرنفال مدينة ريو وكرنفال مدينة فينيسيا, وهو ما سيساعد علي توجيه أعين العالم نحو مقصد سياحي وأثري مصري جديد في كل مرة.