يخيم على المشهد السياسي بالسودان في الوقت الراهن حالة كبيرة من الغموض، في ظل الانسداد السياسي الراهن، وفشل كافة مبادرات تسوية الأزمة بين الأطراف المتنازعة، بما فيها المبادرة الأممية التي اعتبرتها بعض القوى تدخلًا سافرًا في الشأن الداخلي السوداني وأنه يتنافى مع مفاهيم السيادة الوطنية، في الوقت الذي تطالب فيه بحل سوداني-سوداني تسوى معه الأزمة، ويعيد هيبة الدولة السودانية. لكن مع تحرك الأغلبية الصامتة باتجاه تأييد المؤسسة العسكرية سعيًا نحو الاستقرار وتجنبًا للفوضى، فضلًا عن الانقسام الظاهر بين القوى المدنية والخلافات الحادة والمبادرة الصفرية التي تخوضها بعض القوى؛ فإن المشهد السوداني يبدو أمام تغييرات متوقعة، ولا سيما في ظل التحولات الدولية والإقليمية الراهنة.
حراك داخلي مؤيد للمجلس العسكري
تشير الشواهد إلى أن حالة الانسداد السياسي في طريقها إلى الانفراج، خاصة بعد تراجع وتيرة الاحتجاجات، والاتفاق حول ضرورة حل الأزمة في إطار سوداني، للخروج من هذا المأزق الذي تشهده البلاد منذ سقوط الرئيس المخلوع عمر البشير في أبريل 2019.
وقد دعم هذا التوجه الحراك الحاسم الذي شهدته الخرطوم من جانب القوى الصامتة، والتي قامت بمظاهرات في 26 من يناير 2022 أيدت خلاله الخطوات التي اتخذتها المؤسسة العسكرية في السودان، وهو ما أعطى شرعية للمؤسسة العسكرية ولسياساتها. ويمثل نسبة الذين يخرجون للتظاهرات في الشارع حوالي 1% من إجمالي المحتجين، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بالسنوات الماضية، وهذه النسبة تتبنى أجندات غير قانونية وتفلتات تخريبية كثيرة، بعضها يستخدم العنف كوسيلة وأداة لتأجيج المشهد المتأزم أصلًا ضد الشرطة، مما أدى إلى إصابة أكثر من 100 فرد من الشرطة في الاحتجاجات الأخيرة، وهو مؤشر تتبناه هذه المجموعة بهدف مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار، لارتباطها بأجندات ذات صلة ببعض الفاعلين الإقليميين، الهدف منه القيام بالتعديات على الممتلكات العامة والخاصة، وهو حراك مسلح وليس سلميًا كما يدعي الآخرون.
مأزق القوى المدنية
وفى غضون ذلك أرجأت لجان المقاومة السودانية الإعلان عن (ميثاق سلطة الشعب) وهو كيان سياسي جديد يتشكل من جميع لجان المقاومة بجميع ولايات السودان المختلفة، وهي تنظيمات شعبية تقود الحراك الشعبي في الاحتجاجات والتظاهرات بالفترة السابقة، في ظل الانقسامات التي طالت قوى إعلان الحرية والتغيير، وتسعى لجان المقاومة من خلال هذا الكيان لإنهاء الأزمة السياسية الراهنة، والاتفاق على ترتيبات دستورية تفضي إلى تشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية تمهيدًا لانتخابات رئاسية وتشريعية. وكان في وقت سابق اعتذرت لجان المقاومة الشعبية عن قبول دعوة اجتماع من رئيس البعثة الأممية في السودان الذي يطرح مبادرة لحل الأزمة السياسية، ووصفت اللجان الدعوة بالتكريس للانقسامات الداخلية وزيادة الخلافات، وتتمسك لجان المقاومة الشعبية بمبدأ السيادة الوطنية القائم على أن حل المشكل السوداني يجب أن يكون عبر حوار سوداني دون تدخلات أخرى.
فيما اقترحت قوى الحرية والتغيير إنشاء آلية عالية المستوى، بمشاركة أطراف دولية وإقليمية وعربية، لدعم المبادرة الأممية لحل الأزمة السودانية، كما تطالب الحرية والتغيير بإلغاء الوثيقة الدستورية التي أبرمت في أغسطس عام 2019، وثم إعلان دستور جديد ينص صراحة فيه على مؤسسات النظام الانتقالي، وعدم ممارسة المؤسسة العسكرية العمل السياسي. وتناشد قوى الحرية والتغيير لجان المقاومة وجميع القوى السياسية السودانية بتكوين كيان أو جبهة موحدة لإنهاء دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية بالسودان. وهي بذلك تتنصل من المبادرة الأممية التي أدرجت المؤسسة العسكرية والأجهزة السيادية الأخرى بالمشاورات في العملية السلمية ضمن المبادرة الأممية.
ولكن يبدو أن مستقبل قوى إعلان الحرية والتغيير، أصبح يفقد وميضه بعد أن أدى مهمته ودوره الكبير خلال ثورة ديسمبر في السودان، وأصبح الحرية والتغيير كيانًا لتحالف مرحلي، خاصة بعد الانشقاقات التي طالت التنظيم والتي بنيت بشكل كبير على صراعات كبيرة تدور بين مكوناته والمنضوين تحته.
ففي 17 من فبراير 2022، أعلن أكثر من 20 تنظيمًا انشقاقهم عن قوى الحرية والتغيير تحت مسمى (الحرية والتغيير القوى الوطنية)، ويعد هذا الانشقاق الثالث لقوى إعلان الحرية والتغيير بجانب (الميثاق الوطني، المجلس المركز). ويسعى التحالف الجديد (القوى الوطنية) إلى المساهمة في حل الأزمة السياسية الراهنة في السودان دون إقصاء للآخرين.
فقدان المبادرة الأممية للشرعية
هذا الحراك أسقط عن المبادرة الأممية شرعيتها، حيث ناشد المتظاهرون البعثة الأممية (يونيتامس) بمغادرة السودان، وقد جاءت المظاهرات تزامنًا مع جلسة خاصة لمجلس السيادة، الذي قدم فيه وزير الخارجية المكلف تقريرًا حول نشاط البعثات الدبلوماسية خارج مهامها المتعارف عليها، الأمر الذي يشير ربما إلى وجود تنسيق من جانب المؤسسة العسكرية من أجل وضع حد للتدخلات الخارجية ورفع الضغوط عن المجلس العسكري.
وانسجامًا مع هذه التوجهات فقد أصدرت الخارجية السودانية تقريرًا أكد أن بعض أنشطة البعثات الدبلوماسية تنتهك سيادة الدولة السودانية، حيث رصدت الأجهزة الأمنية والمخابراتية من خلال تحركات بعض الدبلوماسيين تحركات غير متسقة مع الأعراف والقوانين الدولية ومخالفة لميثاق روما، وهو الأمر الذي دفع مجلس الأمن والدفاع السوداني لإبلاغ البعثة الأممية بتحديد مسار عضويتها داخل البلاد.
مقابل هذه الجهود تراجعت -إلى حد كبير- الاحتجاجات والتظاهرات المؤيدة للقوى المدنية وسط خلافات عميقة بين مكونات الحرية والتغيير، ولجان المقاومة، مع ظهور كيانات جديدة، الأمر الذي يشير إلى أن الانقسام بين القوى المدنية قد أفسح الطريق أمام المجلس العسكري لينظم المشهد ويستعيد تأثيره، مدعومًا بعلاقات إقليمية تساند دوره السياسي والاحتفاظ بقيادته للمشهد السوداني، وهو ما ظهر في زيارة كبار المسئولين العسكريين لبعض دول المنطقة.
انتهت المبادرة الأممية التي يقودها المبعوث الأممي في الخرطوم بعدما تم التشكيك فيها واعتبارها ضد الإرادة الوطنية، وبطبيعة الحال ينظر إلى الأمم المتحدة بصورة سلبية لدى السودانيين، لأن الأمم المتحدة أخفقت منذ وصولها إلى السودان في تنفيذ مهامها، وفشلت في دعم المصالحة الوطنية في السودان، وطيلة حكومتين ترأسهما رئيس الوزراء المستقيل الدكتور عبد الله حمدوك، لم تقدم دعمًا أو مشورة للحكومات السابقة في ظل استفحال الأزمة من حين إلى آخر، على الرغم من موافقة السودان على اتفاقية أبراهام وتقديمه العديد من التنازلات التي قدمتها الحكومات الماضية. هذا الموقف السوداني بلا شك سوف يجد دعمًا وتشجيعًا من الدول الصديقة للسودان، مثل مصر وروسيا والصين، وربما تقدم هذه الدول مبادرات جديدة تكون محل ترحيب وقبول لدى السودانيين.
رفض التدخلات الخارجية
ثمة تذمر شعبي كبير حيال التدخلات الخارجية في الأزمة السودانية، من أطراف دولية وإقليمية، متداخلة ومتنافسة في السودان، إذ يسعى الفاعلون الإقليميون والدوليون لاستغلال الوضع الداخلي السوداني لصالحهم من خلال قوى سياسية جديدة تظهر في المشهد السياسي، وتكون لاعبًا جديدًا في المعادلة السياسية، كما ظهر من خلال الاحتجاجات التي حدثت في شمال السودان، وقفل طريق شريان الشمال الرابط بين القاهرة والخرطوم، ليتم استغلاله من تلك الفاعلين لضرب العلاقة بين القاهرة الخرطوم، في الوقت الذي تسعى فيه إثيوبيا للقيام بعملية الملء الثالث لسد النهضة دون العودة للمفاوضات بين الدول الثلاث: مصر والسودان من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى.
ختامًا، يمكن القول إنه بعد حالة التشظي والانقسامات التي طالت قوى إعلان الحرية والتغيير وشبه خروجها من المعادلة السياسية السودانية، لا توجد على الخريطة السياسية السودانية قوى فاعلة أو مؤثرة في المشهد السوداني، تشكل ضغوطات على المكون العسكري، خاصة بعد تراجع زخم التظاهرات التي باتت تشهد أعدادًا متناقصة نتيجة للصراعات الداخلية للقوى المؤثرة. وبعد أكثر من ثلاث سنوات بدأت تظهر في الأفق مساعي ومحاولات المجتمع الغربي في التعاطي بوضوح من خلال بعض دول الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة مع دعم المؤسسة العسكرية والأجهزة السيادية الأخرى من أجل أن يكون السودان دولة مستقرة.