عادت قضية اللاجئين السوريين إلى صدارة مشهد السياسة الداخلية التركية، وذلك في أعقاب إعلان الرئيس التركي عن مشروع إعادة مليون لاجئ سوري إلى الأراضي السورية. فخلال افتتاح وتسليم مشروع منازل مبنية من الطوب بإدلب شمال غرب سوريا، أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” عن تحضير حكومته مشروعًا يتيح العودة الطوعية لمليون لاجئ سوري الذين تستضيفهم تركيا على أراضيها. وأضاف أن هذا المشروع سيتم تنفيذه بدعم من منظمات مدنية تركية ودولية، في 13 منطقة مختلفة، لا سيما في أعزاز وجرابلس وتل أبيض ورأس العين، وأنها مشاريع واسعة للغاية ستحتوي على كل احتياجات الحياة اليومية، من المسكن إلى المشافي، والبنية التحتية اللازمة، وستبذل الحكومة التركية جهودًا كبيرة من أجل تهيئة الأرضية اللازمة للعودة. وبحسب دراسات أجرتها مؤسسات لم يفصح الرئيس التركي عن ماهيتها، فإن عدد اللاجئين السوريين الراغبين في العودة يزيد على مليون شخص.
بداية الحديث التركي عن إعادة اللاجئين السوريين
يمكن القول إن الحديث عن مسألة إعادة اللاجئين إلى سوريا قد ارتبط بشكل أساسي بالرغبة التركية في إنشاء منطقة آمنة على طول الحدود التركية السورية. فخلال زيارة الرئيس التركي إلى واشنطن عام 2013، أوضحت أنقرة أن الهدف من إنشاء تلك المنطقة يتمثل في حماية المدنيين الفارين من النزاع السوري، وتوفير ملاذ آمن للاجئين من خلال منطقة آمنة وليس منطقة عسكرية عازلة. كما أكدت تركيا أيضًا أن غاية هذه المنطقة حماية حدودها وشعبها من التهديدات الأمنية، وتطهير المنطقة من وحدات حماية الشعب التابعة لقوات سوريا الديمقراطية. وخلال عام 2014، بدأت تركيا في التهديد بأنها ستقيم المنطقة بشكل أحادي في حال لم تساعدها واشنطن في ذلك.
وقد عاودت تركيا الحديث عن المنطقة الآمنة عقب دعوة الولايات المتحدة في يناير 2019 إلى إقامة “منطقة آمنة” عرضها أكثر من 30 كم في سوريا على طول الحدود التركية، ولكن دون توضيح من سيُنشئ تلك المنطقة أو حدودها. وأثار هذا الإعلان الحماس التركي بإنشاء تلك المنطقة وذلك بعد التشاور مع الأطراف المؤثرة بما فيها الدول الضامنة لمسار الأستانة. ووفقًا لما أعلنته وكالة الأناضول التركية، “ستشتمل المنطقة الآمنة على مدن وبلدات من ثلاث محافظات، هي حلب والرقة والحسكة. وتمتد على طول 460 كم، على طول الحدود التركية السورية، وبعمق 20 ميلًا (32 كم)”. وستقع المنطقة الآمنة شمالي الخط الواصل بين قريتي صرين في محافظة حلب، وعين عيسى في محافظة الرقة، وتمتد من مدينة القامشلي بالغرب وصولًا إلى تل أبيض وعين العرب بالشرق. وخلال كلمته في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة سبتمبر 2019، أشار الرئيس التركي إلى أن المنطقة الآمنة الممتدة على طول 480 كم، ستستوعب في المرحلة الأولى ما بين مليون إلى مليوني مواطن سوري، وفي حال وصول عمق المنطقة الآمنة إلى محافظتي الرقة ودير الزور، فإنه من الممكن عودة 3 ملايين لاجئ سوري. وبحسب قناة”إن تي في” التركية، فمن المخطط أن يتم إعادة توطين مليون لاجئ سوري، في المرحلة الأولى، موزعين في 200 ألف منزل سيتم بناؤها، مع إمداد تلك المناطق بخدمات صحية وتعليمية ودينية، فضلًا عن إنشاء مجمعات صناعية، وستبلغ تكلفة المشروع حوالي 23.5 مليار يورو.
وبحلول الثالث عشر من أكتوبر 2019، أجرت تركيا عمليتها العسكرية الثالثة “نبع السلام” في سوريا، والتي تمثل هدفها الأساسي في إنشاء “منطقة آمنة”، وبذلك انضمت منطقة عمليات نبع السلام إلى مناطق عمليات درع الفرات وغصن الزيتون، وأصبحت المنطقة الممتدة من رأس العين إلى تل أبيض، فضلًا عن المنطقة الممتدة من جرابلس حتى عفرين، خاضعة للسيطرة التركية والفصائل الموالية لها. وبحسب النظام التركي، أصبحت هذه المناطق مناطق آمنة يمكنها استقبال اللاجئين العائدين إلى سوريا، لا سيما بعد تنفيذ تركيا سلسلة مشاريع مدنية وصحية واقتصادية بداخل تلك المناطق.
وترافقت دعوات تركيا لإنشاء منطقة آمنة في سوريا مع خطاب محلي وإجراءات داخلية هدفها الاستجابة للضغط الشعبي الرافض لاستمرار سياسة الباب المفتوح إزاء اللاجئين. ففي أحد تصريحاته السابقة للانتخابات البلدية في تركيا عام 2019، قال الرئيس التركي: “نريد من إخواننا وأخواتنا من اللاجئين أن يعودوا إلى أرضهم ومنازلهم، لا يمكننا أن نبقي 3.5 ملايين شخص هنا إلى الأبد”. ترافق تغيُّر الخطاب مع تشديد للإجراءات كإغلاق العديد من مخيمات اللاجئين، وممارسة التشدد في منح تصاريح العمل، إلى جانب التضييق على منح تراخيص الأنشطة التجارية، ومنع اللاجئين من التنقل عبر الولايات إلا بعد الحصول على إذن سفر أمني قبيل المغادرة، هذا بالإضافة إلى ما أشارت إليه تقارير حقوقية في ذلك الحين بشأن ممارسة السلطات التركية لترحيل قسري للاجئين السوريين من الأراضي التركية.
سياق مشروع العودة الجديد
سبق الإعلانَ عن مشروع “العودة الطوعية” تمهيد صحفي شوهد عبر مقالات منشورة في عدة صحف تركية تتحدث عن خطط الحكومة التركية لعودة اللاجئين السوريين. ففي الخامس والعشرين من أبريل 2022، تحدث تقرير منشور بصحيفة “Hürriyet” عن المشاريع التي أقامتها الحكومة التركية في المناطق الآمنة لتشجيع اللاجئين على العودة، والتي كان من بينها توفير حوالي 50 ألف فرصة عمل، وتقديم الأسمدة ودعم البذور للمزارعين، بالإضافة إلى إنشاء مجالس محلية وكذا مؤسسات أمنية وقضائية، والانخراط في أعمال تحسين البنية التحتية وبناء المنازل، فضلًا عن بناء المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية.
فيما أشار مقال منشور بصحيفة “Türkiye Gazetesi” إلى خطة الحكومة في إعادة مليون ونصف لاجئ سوري إلى بلادهم خلال 15 – 20 شهرًا عبر جعل مناطق العمليات العسكرية التركية مناسبة من الناحية المعيشية والاقتصادية لعودة اللاجئين.
إلى جانب التقارير الصحفية، أشار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في أبريل 2022 خلال حديثه مع قناة CNN التركية، إلى أهمية أن تكون هناك عودة آمنة وطوعية.
لا ينبغي إغفال السياق الداخلي للمشروع المُعلن عنه حديثًا، حيث يأتي حديث الرئيس التركي في وقت يتزايد فيه رفض الرأي العام التركي للاجئين بشكل عام والسوريين على وجه التحديد، اعتقادًا منهم بأن أموال الدولة التي يجب أن تصرف على المواطنين الأتراك يتم صرفها على السوريين، وهو ما ترتب عليه أحداث عنف ضد اللاجئين السوريين، ومظاهرات تنطلق بين الحين والآخر تطالب بطرد السوريين من تركيا.
انعكست دعوات الرأي العام على حديث المعارضة التركية، بل وأصبح ملف “إعادة السوريين إلى بلادهم” ضمن أهم الموضوعات المطروحة في برامجها الانتخابية استعدادًا للانتخابات المقرر عقدها في 2023.
لم تقف الاستجابة لدعوات الرأي العام عند المعارضة، بل كان من الملحوظ اتخاذ الحكومة التركية عددًا من الإجراءات التضييقية، كان آخرها منع اللاجئين السوريين من السفر من تركيا إلى شمال سوريا بمناسبة عيد الفطر، وذلك بسبب انتقادات قدمتها المعارضة مفادها أنه إذا كان السوريون قادرين على السفر للاحتفال بالعيد، فيجب عليهم البقاء في سوريا. قبل ذلك في فبراير 2022، وبعد ضغوط من المعارضة، حددت الحكومة التركية ألا يزيد سكان الحي من غير الأتراك عن نسبة 25%. وبناءً عليه، أعادت السلطات توطين السوريين في المناطق التي تجاوزت نسبة السكان هذا العدد، وأُغلقت 16 محافظة أمام الوافدين الجدد من اللاجئين والمهاجرين الأجانب. هناك حديث أيضًا عن مضايقات أخرى يواجهها السوريون متعلقة بالتضييق على إجراءات التنقل بين المحافظات والترحيل الفوري لأي لاجئ يفتعل مشكلة أو يرتكب مخالفة.
إشكاليات تنفيذ المشروع
على الرغم مما يُلتمس من جدية في مشروع العودة المطروح هذه المرة، لا سيما مع ما ترافق مع الطرح من تقارير تتحدث عن تفصيلات مراحل تنفيذ المشروع، بالإضافة إلى بدء الحكومة التركية دراسات مع الأمم المتحدة للمشاركة في عملية العودة الطوعية للاجئين السوريين، إلا أن هناك العديد من الإشكاليات التي ينبغي النظر فيها أولًا.
عبر النظر إلى واقع المناطق الآمنة التي نفذتها تركيا في شمال سوريا، يتضح غياب الأمن عن تلك المناطق. فإلى جانب الاشتباكات والتوترات التي تنشب بين تركيا وفصائلها الموالية مع قوات سوريا الديمقراطية، هناك اشتباكات أيضًا تقع داخل صفوف الفصائل الموالية لتركيا، وهم الذين من المنوط بهم حفظ الأمن داخل تلك المناطق. علاوة على ذلك، تشهد تلك المناطق انفجارات واغتيالات وانفلاتًا أمنيًا، فضلًا عما يواجهه السكان من صعوبات اقتصادية وخدمية. أما عن منطقة إدلب التي تنفذ تركيا فيها حاليا “منازل الطوب”، فما زالت أيضًا من المناطق الخطرة داخل سوريا، لا سيما مع استمرار سلطة هيئة تحرير الشام التي تعدها روسيا جماعة إرهابية يجب تفكيكها أولًا، الأمر الذي يعد من ضمن أسباب استمرار القصف الروسي على مواقع عدة داخل إدلب.
بجانب مسألة الأمان، تبرز أزمة أخرى متعلقة بالكثافة السكانية بتلك المنطقة، حيث يعيش حوالي 4 ملايين سوري بالفعل في ظروف معيشية صعبة نتيجة لاضطراب الأوضاع الأمنية وندرة المشاريع الاقتصادية التي تكفل لهم مستوى معيشيًا مقبولًا، وبالتالي يصبح من غير المعقول استقبال تلك المنطقة لمليون شخص إضافي.
هناك إشكالية أخرى يثيرها الحقوقيون السوريون متعلقة بمسألة “الطوعية” في حد ذاتها. بداية، تشير العديد من استطلاعات الرأي التي أجراها عدد من المؤسسات البحثية التركية إلى رفض غالبية اللاجئين السوريين في تركيا العودة إلى سوريا، وذلك لأنهم يرون أنه من غير الممكن أن تعود سوريا إلى طبيعتها في وقت قصير، وما زالت احتمالات نشوب صراع جديد مرتفعة. وعليه، في ظل استمرار الضغط الداخلي على الحكومة التركية، ترتفع مخاوف السوريين من أن يتحول الأمر من عودة طوعية إلى عودة قسرية إما من خلال الترحيل، أو إجراء مزيد من تضييق الخناق على تحركاتهم داخل المدن التركية، الأمر الذي قد يدفع العديد منهم إلى إما سلك طريق الهجرة غير الشرعية نحو بلدان أخرى في أوروبا أو السفر إلى دول أخرى ما زالت على استعداد لاستقبال لاجئين سوريين. ويتمثل الأمر الآخر فيما قد يتسبب فيه مشروع “العودة الطوعية” في إحداث تغيير ديمغرافي داخل سوريا. فمن المتعارف عليه أن العودة تعني عودة اللاجئ إلى منزله وبلدته، ولكن وفقًا لما طُرح بالإعلان التركي تم تحديد عدد 13 منطقة فقط في شمال غرب سوريا، يمكن للاجئين الإقامة فيها، والتي قد لا تكون بالضرورة هي مناطقهم الأصلية.
من ناحية أخرى، لا يبدو أن ثمة وجود قبول دولي لمسألة عودة اللاجئين. ففي تصريح لرئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى تركيا، نيكولاس لاندروت، أوضح أن “الظروف في سوريا غير مواتية لعودة واسعة النطاق للاجئين السوريين من تركيا”، فضلًا عن استبعاد احتمال –خلال اللحظة الراهنة- قبول روسي لهذه الخطة؛ لما يعنيه ذلك من استبعاد لسيطرة النظام السوري على تلك المناطق.
ولا يتعلق أمر الدعم الدولي للمشروع بالناحية السياسية فقط، ولكن تطمح تركيا إلى وجود مشاركة مالية من الجهات الدولية في تنفيذ هذا المشروع، ولكن يبدو أن هذا الأمر ليس محل توافق بين القوى الدولية. خلال مؤتمر بروكسل السادس حول “دعم مستقبل سوريا والمنطقة” الذي عُقد في مايو 2022، تعهّد المانحون الدوليون بتقديم 6.7 مليارات دولار بحلول عام 2023 لسوريا، ويعد هذا الرقم أقل من المبلغ الذي حددته الأمم المتحدة (10.5 مليارات دولار) لتفادي حدوث كارثة إنسانية في سوريا. كذلك، فإن تلك الالتزامات هي تعهدات غير ملزمة، وبالتالي يصبح من المحتمل ألا يتم الوفاء بالبعض منها.
يتعلق أمر آخر باقتراب موعد تمديد قرار الأمم المتحدة الذي يسمح للمساعدات الإنسانية لسوريا بالمرور عبر معبر باب الهوى (وهو المعبر الوحيد الذي ما زال مفتوحًا أمام إدخال الأمم المتحدة لمساعداتها الإنسانية إلى المناطق السورية عبر تركيا، لا سيما تلك غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري). وتشير التصريحات الروسية الأخيرة إلى ارتفاع احتمال استخدامها في يوليو 2022 حق الفيتو إزاء تمديد دخول المساعدات الإنسانية عبر هذا المعبر، مبررة ذلك بأنه لا يوجد أي داعٍ لاستمرار العمل عبر تلك الآلية، وأن المساعدات يجب أن تُمرر عبر الحكومة السورية. وعليه، في ظل استمرار التوترات الروسية الغربية على خلفية الحرب في أوكرانيا، تقل احتمالية تمكّن مجلس الأمن من تمرير تمديد قرار إدخال المساعدات عبر باب الهوى، ومن ثم تصبح مناطق الشمال السوري عرضة لأزمة إنسانية جديدة. لكن في الوقت نفسه قد يكون في عدم التمديد فرصة مواتية لتركيا.
من المحتمل أن تسهم التخوفات الخاصة بإغلاق المعبر في تعزيز الرواية التركية القائمة على توفير منطقة آمنة يمكن من خلالها توصيل المساعدات بسهولة إلى السكان الذين وطنتهم تركيا بتلك المناطق، وبالتالي تخفيف حدة الأزمة الإنسانية بتلك المنطقة، فضلًا عن منع تدفق المزيد من اللاجئين السوريين إلى تركيا وأوروبا.
ويمكن الإشارة إلى فرصة تركية أخرى من شأنها تعزيز عملية العودة تتمثل في إصدار النظام السوري في 30 أبريل مرسومًا تشريعيًا ينص على منح عفو عام عن الجرائم الإرهابية المرتكبة من السوريين قبل تاريخ 30 أبريل 2022 عدا التي أفضت إلى موت إنسان. ولاقى هذا المرسوم ترحيبًا في العديد من الأوساط، فقد رحّب المبعوث الأممي إلى سوريا “غير بيدرسون” بالقرار الذي بموجبه سيتم الإفراج عن آلاف السجناء السوريين المدانين بتهم الإرهاب، وأوضح أن “لهذا العفو آفاقًا، ويبقى رؤية كيف ستسير الأمور”. ومن داخل تركيا، أشار رئيس الحزب “القومي” التركي، دولت بهجلي، خلال اجتماعه مع المجموعة البرلمانية لحزبه في 10 مايو، إلى أن هذا القرار يعد تطورًا مهمًا يسهل عملية العودة.
ختامًا، من غير المتوقع أن يخفت الحديث الرسمي التركي بشأن مشروع عودة اللاجئين خلال الفترة المقبلة، ولا سيما مع ما تحمله القضية من اهتمام شعبي جدي، وهو ما يمكن معه القول إن حسم قضية اللاجئين ستكون ضمن الاعتبارات الرئيسية للفوز في انتخابات 2023، الأمر الذي من المستبعد أن يغض النظام التركي الطرف عنه.