أدت الاضطرابات التي أحدثتها الحرب الروسية الأوكرانية إلى مزيد من المخاوف السياسية والأمنية في جميع أنحاء العالم بشكل عام وفي القارة الأوروبية بشكل خاص، فقد مضت القارة العجوز في تحوّل ملحوظ في مواقف السياسة الخارجية والأمنية لم يكن متصورًا قبل بضعة أشهر فقط من الحرب الروسية الأوكرانية، في محاولة لمعالجة واحد من أكبر التحديات في تاريخها الحديث. فتحت ضغط الجغرافيا السياسية وسياسات القوة لم تستطع أوروبا التعاطي مع المتغيرات وفقًا لترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومضت في سياسات أمنية واقتصادية وسياسية تشكل تحولًا كبيرًا يُلقي بصداه على مستقبل القارة الأوروبية.
بالنسبة لألمانيا فالحرب الروسية حولت روسيا من شريك على غرار التعاون في مجالات الطاقة وخط الأنابيب نورد ستريم 1 و2 إلى خصم استراتيجي ومصدر تهديد، مما شكل دافعًا جديدًا للنقاش في ألمانيا حول ما إذا كان إنفاقها على الدفاع كافيًا لمواجهة التهديدات الأمنية الحالية والمستقبلية. وهذا النقاش موجود أيضًا على مستوى الاتحاد الأوروبي بشكل عام، ولكن لوضع ألمانيا الخاص والاستثنائي كان لهذا النقاش صداه الخاص.
فبعد ما يقرب من 80 عامًا من الحرب العالمية الثانية، الحرب الأكثر دموية في تاريخنا الحديث والتي تسببت بها ألمانيا النازية، وبعد عملية تحديث واسعة قادها هتلر ليتمكن من تحقيق هدفه وتصبح القوات المسلحة الألمانية هي الأقوى في العالم، وتبدأ في غزو واسع النطاق لبولندا؛ وفي خطوة يمكن وصفها بالتاريخية أعلن المستشار الألماني “أولاف شولتز” زيادة الإنفاق العسكري وتغييرًا دستوريًا من أجل تخصيص صندوق عسكري ضخم بقيمة 100 مليار يورو (110 مليارات دولار)، بالإضافة إلى رفع القيود المفروضة على الأسلحة المصنعة في ألمانيا والتي يتم إرسالها إلى مناطق الصراع من خلال طرف ثالث مثل إستونيا وهولندا، إلى جانب تصدير أسلحة لأوكرانيا بعد انتقادات واسعة لألمانيا بعزوفها عن منح كييف أسلحة فتاكة، وهي البلد الثالث ضمن قائمة أكثر الدول مبيعًا للأسلحة. وكذلك دعم العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، وتقليل الاعتماد على واردات الطاقة الروسية.
وتُشكل هذه المواقف مؤشرات على التحولات السياسية والأمنية التي تشكل انعكاسًا للحرب الروسية، فإلى جانب زيادة الإنفاق العسكري الألماني الذي يمثل نقطة تحول تاريخية في سياسة برلين التي اعتمدت على التجارة والنمو الاقتصادي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، دعا الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى ضرورة زيادة الإنفاق العسكري، الأمر نفسه بالنسبة لسويسرا التي قامت بزيادة الإنفاق العسكري والتي على الرغم من وصفها بالبلد المحايد فقد انخرطت وتبنت كل العقوبات التي فرضت على موسكو. الأمر نفسه كذلك بالنسبة لليابان التي قامت بزيادة الإنفاق العسكري هي الأخرى وكذلك إسبانيا. وهي التطورات التي تشكل تغيرًا على الصعيد العالمي يرتب نهاية لكل ترتيبات الأمن ما بعد الحرب الباردة والحرب العالمية الثانية.
أولًا- الحرب الروسية وتأثيراتها على الأمن الأوروبي:
في 23 نوفمبر من العام الجاري، أمر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بغزو أوكرانيا من قبل القوات المسلحة الروسية، التي قامت بهجوم كاسح وعنيف من كافة الجهات برًا وبحرًا وجوًا، والذي ما زال مستمرًا حتى الساعة. مع هذا الغزو الروسي بدا العالم مختلفًا عما كان عليه قبل هذا الاجتياح، فالوضع الأمني والاقتصادي أصبح مهددًا ولم تعد الضمانات الأمريكية كفيلة بتهدئة المخاوف الأوروبية، وألمانيا على وجه التحديد، التي لديها وضع استثنائي، فقد وافقت ألمانيا فيما مضى بجانب اليابان وإيطاليا كذلك على إعادة كتابة دساتيرهم بعد الاستسلام غير المشروط في 8 مايو 1945، الأمر الذي وضع حدًا للحرب العالمية الثانية، وللحد من التعزيزات العسكرية لألمانيا، البلد الذي تسبب في الحرب، تم نزع سلاحها بالكامل وتجريدها من الأسلحة وتفكيكها بما يقتضيه السلام والأمن العالميان.
في ظل انعكاسات الحرب الروسية بات من غير المتصور أن تظل تلك الترتيبات قائمة في وجود تلك التغيرات التي تعصف بالأمن والسياسة، فبعد الحرب الروسية أضحى ينظر إلى روسيا على أنها تهديد عسكري ووجودي لأوروبا في ضوء إجراءات الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بوضع الصواريخ النووية في حالة تأهب قصوى، وكذلك كامل الجيش الروسي تحسبًا لأن تمتد الحرب إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). ويزيد من تعقيد الأزمة في هذا السياق بالنسبة لألمانيا الخلل في التوازنات العسكرية مع روسيا في حالة أخلت الولايات المتحدة بالتزاماتها الأمنية تجاه أوروبا كما حدث مع الرئيس “دونالد ترامب”.
يوضح هذا الشكل المخاوف الألمانية في أعقاب اندلاع الأزمة الأوكرانية وضم جزيرة القرم من قبل روسيا، وكذلك يتزامن مع الانتخابات الأمريكية وبروز أجندة ترامب الذي توعد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي ما لم تدفع الدول الأوروبية المزيد من المال من أجل الأمن.
وشكّلت الحرب الروسية في أوكرانيا الحلقة الأخيرة في سلسلة التهديدات الأمنية المتواصلة لأمن برلين، وهو ما شكل أحد أبرز الدوافع لزيادة الميزانية العسكرية لبرلين، التي ألزمت نفسها بالوصول إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي سينفق سنويًا على التسليح وزيادة قدرات الجيش والمساهمة في حلف شمال الأطلسي، بهدف تعزيز القدرات الدفاعية لألمانيا في ضوء المؤشرات السابقة.
ثانيًا- إرث ترامب وضمانات الأمن الأوروبي:
منذ وصوله إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، شن ترامب هجومًا متواصلًا على الدول الأوروبية وعلى وجه التحديد ألمانيا باعتبارها أكبر اقتصاد في القارة الأوروبية، فهي لا تفي بالتزاماتها المالية المقررة 2 % من الناتج القومي للدفاع. استمر ترامب بمهاجمة برلين باتخاذ قرار سحب 9500 جندي أمريكي من ألمانيا، وهي الخطوة التي أحدثت صدمات عبر الناتو، وعبر ألمانيا التي تعتمد بشكل شبه كلي على الناتو والولايات المتحدة فيما يتعلق بضمانات الأمن. ولم يكتفِ ترامب بهذه القرارات وإنما زاد من المخاوف الألمانية حينما انتقد التعاون في مجال الطاقة مع روسيا قائلًا: “أعتقد أنه أمر سيئ للغاية بالنسبة لحلف الناتو، ولا أعتقد أنه كان يجب أن يحدث. علاوة على ذلك، فإن ألمانيا تدفع فقط ما يزيد قليلًا على 1٪ (للدفاع)، وأعتقد أن هذا غير مناسب أيضًا”. في إشارة واضحة إلى سياسته الانعزالية التي تزيد من القلق الأمني لشركاء الولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم ألمانيا.
صعود الرئيس ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية وتياره السياسي الشعبوي واحتمالات عودة هذا التيار مرة أخرى إلى البيت الأبيض، بدت معها التطمينات الأمريكية بالدفاع عن الأمن الأوروبي في مهب الريح، ولم يعد من الممكن الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية كحليف يمكن أن يشكل خط الدفاع الأول عن الأمن الألماني، مما دفع الأخير إلى الاستجابة السريعة لتلك التحديات وتبني سياسة أمنية وخارجية مغايرة لتلك السياسة التي طالما اتخذتها برلين لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ برلين العسكري.
ثالثًا- صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا:
تشهد القارة الأوروبية نموًّا متصاعدًا لقوى اليمين المتطرف، الذي برز على الساحة السياسية الأوروبية كأحد أكثر الظواهر السياسية أهميةً خلال العقدين الأخيرين. ويتبنى هذا التيار خطابًا معارضًا للهجرة والأجانب، ومنتقدًا الطبقة السياسية الحاكمة، ورافضًا سياسات الوحدة الأوروبية. ويعكس الصعود الداخلي لهذه التيارات تغيرات واسعة وراديكالية على مستوى السياسات الخارجية للدول التي تصعد بها هذه التيارات، فلم يخلُ أي برنامج من برامج الأحزاب المتطرفة من التشكيك في مؤسسات الاتحاد الأوروبي والتحالفات العسكرية وتبني سياسات حمائية وقومية.
مؤخرًا في الانتخابات الفرنسية حيث حبست أوروبا أنفاسها قبل أن تتنفس الصعداء على إثر سقوط ماري لوبان اليمينية المتطرفة التي كانت على بعد خطوة واحدة من الإليزيه والتي عادت مرة أخرى إلى البرلمان الفرنسي، والتي توعدت بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي وتقويض حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي يزيد من الصعوبات الأمنية والسياسية بالنسبة لألمانيا. ففرنسا ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، والتي تتحمل الكثير من الأعباء الأوروبية كذلك، حيث ينظر إلى كل من ألمانيا وفرنسا على أنهما قيادة الاتحاد الأوروبي بعد انسحاب بريطانيا.
وتتزايد المخاوف بشأن الأمن الأوروبي، فألمانيا أكبر اقتصاد في القارة تمتلك أحد أضعف الجيوش في القارة أيضًا، ولم تعد المعادلة التي تبنتها برلين بعد الحرب العالمية الثانية بالارتكاز على التجارة والاقتصاد من أجل بناء علاقات وتأثير عالمي ذات جدوى في ضوء المتغيرات والمستجدات الحالية، فروسيا التي كان ينظر إليها في ألمانيا على نطاق واسع بأنها شريك تجاري واقتصادي استراتيجي، باتت خطرًا ومصدرًا يُهدد الاستقرار والأمن الأوروبي، والولايات المتحدة التي تتزعم حلف شمال الأطلسي لم تعد شريكًا موثوقًا بعد ترامب واحتمالات التغيرات المستقبلية في الإدارات الأمريكية، ولا سيما بروز صراع جديد مع الصين واحتمالات اندلاع حرب باردة جديدة يقول كثيرون إنها قائمة بالفعل، ولم يعد الشركاء الأوروبيون كذلك يمكن أن يدفعوا الفاتورة الأمنية بدلًا من ألمانيا في الدفاع عن الأمن القومي وأمن القارة الأوروبية، مما دفع برلين إلى التخلص من سياسة الاعتماد على الغير في الدفاع والأمن التي انتهجتها طوال ما يقرب من ثمانية عقود.