تخبط روسيا في معركة “التعبئة الجزئية” التي أعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير في 21 سبتمبر الجاري، سينعكس على الحرب التي تخوضها في أوكرانيا والتي تواجه فيها على التوازي تعثرًا على مختلف الجبهات أبرزها جبهة “خاركيف”. فعلى الرغم من محاولات الكرملين ووزارة الدفاع احتواء التداعيات السلبية لردود الأفعال الداخلية على قرار تعبئة الاحتياط؛ فإن مستوى الاستجابة لتلك المحاولات تبدو محدودة في ظل التقارير الإعلامية والصور التي تتناقلها وسائط التواصل الاجتماعي عن “الهروب الكبير” لمن ينطبق عليهم قرار الاستدعاء إلى مختلف دول الجوار في أذربيجان وجورجيا وتركيا وفنلندا وغيرها من الدول الأوروبية التي أعلنت استعدادها لقبول الفارين من روسيا.
في هذا الإطار، يمكن تناول أبعاد الإشكاليات الهيكلية الخاصة بعملية التعبئة بشكل عام في سياق الحرب الجارية، والانعكاسات المختلفة على الساحة الداخلية على النحو التالي:
الإشكالية الهيكلية
بشكل عام، تعد عملية التعبئة العسكرية إشكالية تاريخية في الحالة الروسية، بالنظر إلى ثلاثة اعتبارات رئيسية تمت دراستها في الحالات النادرة تاريخيًا التي قررت فيها روسيا اتخاذ قرار عملية التعبئة الذي يُنظر إليه باعتباره “قرارًا تاريخيًا”، منها محدودية التأهيل في برامج التجنيد، والتي تعكس فاعلية محدودة لمؤشر الكفاءة القتالية إذا ما قورنت بالقوة العاملة الرئيسية في الجيش، الأمر الآخر هي المعالجات التي أُجريت عام 2008 على النموذج التقليدي المتبع (الكادر والاحتياط)، في ظل توقيت الأزمة العالمية آنذاك، التي كانت تتطلب تقليل كلفة الإنفاق في هذا الجانب في الوقت الذي طلب فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقتها من وزير الدفاع أناتولي سيرديوكوف بناء جيش احترافي. وفق ما يُشير إليه معهد دراسات الحرب الأمريكي ISW، كان هناك تناقض في الاتجاهات التي تم اتباعها في هذا الصدد، واحد من تلك المؤشرات كان تقليل مدة خدمة التجنيد من عامين إلى 18 شهرًا، ثم خفضت إلى عام واحد، كانت النتيجية هي وجود قوات هجين من المحترفين (الكادر) بالإضافة إلى قوة أقل احترافًا من المجندين الذين يقضون عامًا في الخدمة العسكرية، وهو ما ظهرت تداعياته الحالية، فالجيل الذي كانت مدة خدمتة أطول قبل تقليص المدة أصبح أكبر عمرًا (تجاوز الثلاثين) من الفئات التي انضمت للخدمة المحدودة، وبالتالي تتطلب إعادة تأهيل. الاعتبار الثالث، هو البنية التحتية والبيروقراطية الخاصة بعملية التعبئة، وهي إشكالية أكبر من المتصور، بالنظر إلى أن عمليات التعبئة الواسعة لم تتم إلا عبر أجيال وعلى مدى زمني واسع، وبالتالي تحدث الأزمات التي انعكست في مشهد التعبئة الحالي.
ومن المتصور أن حالة التخبط الراهنة في العملية تقلل بالتبعية من القيمة المضافة التي يفترض أن تشكلها أي عملية تعبئة عسكرية مطلوبة، فمن الناحية العسكرية على الأقل هناك اعتباران كان من الأهمية وضعهما في الحسبان؛ الأول أنه لا يمكن التعامل مع قوة الاحتياط في ظل هذه الأوضاع على أنها القوة التي يمكنها سد الفجوة في الساحة الأوكرانية، خاصة وأن قرار التعبئة جاء مواكبًا لحالة شبه هزيمة على الأقل على إحدى الجبهات الرئيسية للحرب، وهو ما سيكون له انعكاس نفسي على أي قوة سيتم الدفع بها إلى هذه الجبهة، فرغم محاولة وزير الدفاع سيرجي شويجو الإشارة إلى أن تلك القوة لن يتم نشرها على الخطوط الأمامية، لكن تقليديًا لا يمكن ذلك، حتى في الخطوط الخلفية، تظل بحاجة إلى مستوى من التكوين العسكري، الذي يستغرق المزيد من الوقت، إضافة إلى أنه من المعروف الآلية التقليدية في دمج المدنيين والاحتياط بغض النظر عن طبيعة خطوط الانتشار، وهي آلية أقرب إلى الهيكل الهجين الذي يجمع ما بين الفئات المحترفة من الكادر والاحتياط ومن هم في مرحلة التدريب.
مرة أخرى حاول شويجو احتواء آثار التخبط التي تم الاعتراف بها علنًا كأخطاء، والتأكيد أكثر من مرة على أن تلك القوات سيتم نشرها في الخطوط الخلفية، بالإضافة إلى استدعاء ذوي الخبرات والتأهيل المناسب، إلا أن تزامن قرار التعبئة تزامن مع ضم دفعة من المجندين إلى الجيش، وفق ما أظهرته الصور التي بثتها وسائل الاعلام الروسية ووسائل التواصل داخل مراكز التجنيد، والتي تؤكد على تعبئة “المجندين” الجدد في الغالب، كما أظهرت ذويهم وهم يودعونهم إلى حيث لا يعلمون وجهتهم القادمة. إضافةً إلى ظهور مبرر جديد هو أن الخدمة ستكون في الأراضي الروسية، بما يعني محاولة الإبقاء على مشاركة المجندين في العملية العسكرية في “الدونباس” وليس داخل أوكرانيا وذلك بعد إجراء الاستفتاء الذي تقوم به والذي تُظهر نتائجه أن روسيا بالفعل بصدد ضم الإقليم إلى الاتحاد الروسي العام الجاري، لكن يظل من الصعوبة أن تتشكل هذه القناعة بسهولة.
الانكشاف الداخلي
تتمثل الدلالة الرئيسية لهذا المشهد في حالة الانكشاف الداخلية التي تواجهها القيادة الروسية، إذ إن مشهد “الهروب الكبير” لمن ينضوون تحت طائلة قرار الاستدعاء يتناقض تمامًا مع ما تم تصديره حول موقف الرأي العام الداخلي من الحرب في أوكرانيا إلى حد التناقض. فبنهاية الشهر الأول للحرب (مارس 2022) كشف استطلاع للرأي أجراه مركز “ليفادا” المستقل للاستطلاعات عن ارتفاع مستوى شعبية “بوتين” وتأييد عملية الجيش الروسي في أوكرانيا، حيث وصلت نسبة التأييد لـ”بوتين” إلى 83%، فيما بلغ حجم التأييد للعملية العسكرية 81%، وبغض النظر عن تشكيك التقديرات الغربية في نتائج هذه الاستطلاعات، لكن من الأهمية بمكان التطرق إلى مؤشرات الاستطلاع التي كشفت -على سبيل المثال- أن أكثر من 46% من المؤيدين للحرب كانوا يؤيدون العمليات التي يقوم بها الجيش بشكل عام وليس الحرب في أوكرانيا بالتحديد.
وبحلول نهاية أغسطس، كشفت نتائج الاستطلاعات التي أجراها المركز ذاته عن تراجع في مستوى التأييد إلى 76 %، ربما لا يبدو هامش الفارق الكلي لافتًا إلى حد كبير، لكنّ هناك مؤشرين لافتين، أولهما: أن 48% طالبوا بالاستمرار في الحرب مقابل 44 % منهم طالبوا ببدء مفاوضات السلام، وهو ما يعني أن هناك انقسامًا في الرأي العام حيال الاستمرار في الحرب رغم تأييدها. وثانيهما: أن 30% من عينة الاستطلاع أكدوا أنهم لا يدعمون الجيش، وهي شريحة أغلبيتها من الشباب الذين تتراوج أعمارهم ما بين (18- 24).
الأمر الآخر، في السياق ذاته هو عامل الانتقائية في عملية التعبئة، بالنظر إلى حجم الاحتجاجات التي عمت “داغستان” و”سيبريا”، مع الأخذ في الاعتبار أن تنامي الاحتجاجات في مناطق أخرى ضد القرار، وهو مؤشر سلبي آخر بالنظر إلى أن مناطق القوقاز كانت الأكثر تأييدًا لبوتين، وإن توسعت دائرة الاحتجاجات وفق التقارير الإعلامية إلى نحو 38 منطقة أخرى، على خلفية تصريحات “شويجو” بأن العملية ستكون تدريجية، سواء من حيث تعبئة العدد أو شمول المناطق، وقامت قوات الأمن الروسية بقمعها واعتقال العديد من المشاركين فيها وفقًا للقوانين التي جرى تعديلها مؤخرًا، وتتشدد حيال عقوبات الاعتراض على قرارات ذات طابع عسكري كالاستدعاء من الاحتياط؛ لكن تلك السياسات لم توقف الاحتجاجات التي يتوقع أن تتزايد بمرور الوقت، على التوازي مع استمرار التدفقات عبر الحدود الروسية مع دول الجوار والتي تقول السلطات الروسية إنها لم تعمل على إغلاقها.
ما يمكن تصوره في هذا السياق، أن حالة الاعتراض ربما تعكس في الوقت ذاته الموقف الفعلي للرأي العام الروسي من الحرب أوكرانيا، وليس مجرد قرار استدعاء قوة الاحتياط، وهذا التحول سيمثل الصورة الفعلية للتكلفة السياسية لهذه الحرب بتآكل القاعدة الاجتماعية المؤيدة لها، وتراجع الثقة في جانب متخذي القرار السياسي والعسكري بشأن هذه الحرب، خاصة إذا ما وضع إلى جانب ذلك المؤشر الاقتصادي مع تنامي كلفة الحرب في ظل عملية تعبئة مكلفة في الوقت ذاته.
مخارج أكثر صعوبة
قد لا يتوقف الأمر عند حيز تراجع الثقة، أو وجود معركة داخلية قبل الانتقال إلى معركة القتال في أوكرانيا، ففي ظل التصريحات المتتالية من “شويجو” حول “الحرب الشاملة” باتجاه أوروبا إن لم يتم وقف الدعم العسكري لأوكرانيا، ثم التلويح بالتصعيد النووي، والذي زاد عليه تأكيد وزير الخارجية البيلاروسي فلاديمير ماكي من أن الاحتمالات مفتوحة أمام تحميل القاذفات النووية، ضاعف من جهة المخاوف وعزز مشهد “الهروب الكبير” من التعبئة الجزئية، إلى جانب المخاوف التي تثيرها مثل هذه التصريحات في ضوء رد الفعل الغربي بأخذها على محمل الجدية أكثر من أي وقت مضي وضعًا في الاعتبار الأمر النووي الذي كان “بوتين” قد أصدره سابقًا.
العامل التالي الذي يزيد الأمر تعقيدًا هو السلاح الذي يلبي احتياجات هذا الكم الهائل من القوات، حتى وإن أُجريت عملية التعبئة بالتدريج، أو جرى نشر هذه القوات خلف الخطوط، في الأخير كان العدد الذي دفع به إلى الحرب في بدايتها حدود 130 ألف عسكري، وبالتالي فإن مضاعفة هذا العدد سيفرض على موسكو مضاعفة القدرات العسكرية، وهي نقطة غامضة، إذ أشارت القيادة العسكرية الروسية إلى أنه سيجري العمل على منح أولوية لسلاح الجو، في محاولة للتقليل من مخاوف الانتشار الواسع المطلوبة، والتلميح لتغير معادلة الاشتباك بعدم التعويل بشكل رئيسي على المدفعية، وهي نقطة أخرى تحتاج إلى فترة زمنية واختبار في الوقت نفسه.
في المقابل، يكسب الجانب الأوكراني بالنقاط نتيجة تلك الإخفاقات والثغرات والحاجة إلى المزيد من الوقت، فبالتزامن مع قرار التعبئة أعلنت واشنطن عن دفعة جديدة من الأسلحة الهجومية والدفاعية، وطالب الرئيس زيلينسكي بالمزيد من الدبابات والأسلحة التي تمكن القوات الأوكرانية من الحفاظ على الأراضي التي تمت السيطرة عليها.
أمام هذه المواقف يُعتقد أن موسكو ستلجأ إلى بدائل أخرى في ظل الحاجة إلى كفاءات قتالية، أكثر من الحاجة إلى كم أكبر من المجندين، ربما يفسر أحد البدائل هو إعلان مؤسس “فاغنر” -على خلاف مواقفه السابقة- بأنه أسس الشركة لخوض الحرب في إقليم “الدونباس”، وقد يكون هناك بديل آخر باللجوء إلى استدعاء المرتزقة من الساحات التي تعمل فيها روسيا ولا سيما في الشرق الأوسط، وإن كان من غير الواضح كيف يمكن تمويل هذه المليشيات في ظل الأوضاع الاقتصادية الضاغطة التي تواجهها روسيا في ظل العقوبات المفروضة عليها.
في الأخير، من المتصور أن موسكو دخلت مرحلة المغامرة في الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل المؤشرات الراهنة، فبدلًا من أن تواجه معركة استعادة زمام المبادرة في المناطق التي خسرتها، فإنها تواجه معركة أخرى في الداخل، وهي معركة لا تقل في خطورتها عن المعركة التي تواجهها في أوكرانيا، وقد تتسع هذه المغامرة إذا ما لجأت القيادة الروسية إلى بدائل أصعب في ظل التلويح بالتصعيد النووي كمحاولة للخروج من المأزق الحالي وإعادة توجهيه دفة المشهد في اتجاه آخر، وهو الأمر الذي تعزز مع مشهد اللقاء بين بوتين والرئيس البيلاروسي الذي طالب في وقت سابق بإعادة تشغيل القواعد النووية في بيلاروسيا، ولا توجد ضمانات حول إمكانية استخدام مثل هذه الأسلحة إذا ما قررت روسيا استخدامها فعليًا لتهديد للضغط على القوى الغربية، ما قد يخرج الحرب عن نطاق السيطرة وينقلها إلى مشهد مختلف تمامًا ستخرج فيه كافة الحسابات عن الاحتمالات المتصورة.