شكل احتضان روما للاجتماع الأخير (12 – 13 نوفمبر 2018) حول الأزمة الليبية في باليرمو، دلالة ليس فقط على المساعى الإيطالية لإزاحة غريمتها فرنسا من صدارة المشهد الليبي، ولكن على محاولة الانتقال من سياستي الحذر والمزاحمة المناطقية، خاصة في غرب وجنوب ليبيا، إلى توسيع أدوارها كلاعب رئيسي في صياغة قواعد اللعبة في المنافسة على هذا البلد، بمعنى ألا يتم بناء التسوية النهائية دون أن تكون متوائمة مع الحد الأدنى من أهدافه ومصالحه.
لكن ذلك المسعى الإيطالي يصطدم بكثرة المنافسين الإقليميين والدوليين على ليبيا، الذين يملكون بدرجات متفاوتة تحالفات أو وكلاء داخليين يلقون بتأثيراتهم في موازين القوى السياسية والميدانية، والأهم أن أولئك المنافسين لديهم -في الوقت نفسه- مصالح ثنائية مع روما تتصل بخيارات السياسة الإيطالية، سواء تجاه الأزمة الليبية أو تجاه قضايا وملفات في مناطق أخرى، الأمر الذي يخلق حالة من التنافس الخارجي المقيد على ليبيا. لذا، فإن التساؤل المطروح، هنا: كيف تدير روما سياساتها تجاه الأزمة الليبية، في ظل تشابك مصالحها مع الفاعلين الخارجيين المنافسين على هذا البلد؟
أولًا- التنافس على ليبيا.. ملامح اللعبة المقيدة:
مثلما أفرزت الأزمة الليبية، على مدار أكثر من سبع سنوات، نمطًا من انتشار القوة بين الفاعلين الداخليين، وسط غياب لاعب مركزي يمكنه فرض قواعد اللعبة على الآخرين؛ فإن تعددية الفواعل الإقليمية والدولية المتسابقة على النفوذ في هذا البلد أفرز -على الجانب الآخر- لعبة المنافسة المقيدة Restricted Competition”. هذه اللعبة تعني أن أي فاعل خارجي يلعب دورًا في أزمة داخلية في بلدٍ ما يخضع غالبًا لقيود متعددة من المنافسين الآخرين الساعين بدورهم لتكريس مصالحهم وأدوارهم في الأزمة ذاتها، ويتحدد ربح أو خسارة ذلك الفاعل الخارجي بمدى قدرته على تحييد قيود المنافسين عليه أو تأثيرهم على مصالحه. وتتجلى ملامح تلك اللعبة في ليبيا في ثلاثة قيود، هي:
1- المسارات الثنائية: ذلك أن مصالح الفاعلين الخارجيين في ليبيا ترتبط بمسارات ثنائية مع نظرائهم المتنافسين على هذا البلد، فالسباق بين إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة ومصر والجزائر وتونس وغيرها، لا يمنع وجود علاقات ثنائية وثيقة في مجالات سياسية وأمنية واقتصادية، وفي مناطق وقضايا أخرى، سواء داخل الشرق الأوسط أو أوروبا أو إفريقيا جنوب الصحراء.
2- المسارات الإقليمية: ذلك أن طبيعة قضايا وملفات الأزمة الليبية تأخذ نمطًا عابرًا للحدود من الاتصال والتمدد بين عدة فاعلين، بما لا يمكن لأحد منهم التأثير فيها بمفرده، وهو أمر يبرز في ملفات مثل: منع تدفق الهجرة، والإرهاب، والطاقة، وغيرها التي تبدو ساحة مفترضة إما للتعاون أو الصدام بين القوى المتنافسة على ليبيا.
3- توازنات الداخل الليبي: حيث إن موازين القوى الداخلية في الأزمة الليبية تميل لصالح الجيش الوطني الليبي، كونه يسيطر على الشرق والهلال النفطي ومناطق عدة في الجنوب مقارنةً بحكومة الوفاق الوطني وحلفائها الميليشياويين في غربي البلاد. وينسحب ذلك الخلل بدوره على موازين القوى بين اللاعبين الخارجيين المرتبطين بتحالفات في الداخل الليبي.
هذه القيود تفرض على اللاعبين الخارجيين المتنافسين على ليبيا الاتجاه أكثر إلى المرونة، وعدم الحدية في سياساتهم، لأنهم بحكم منطق التفكير الرشيد ينزعون إلى تعظيم مصالحهم، سواء في الأزمة التي يتنافسون عليها أو المسارات الثنائية أو الإقليمية الأخرى، وهو أمر يمكن من خلاله فهم تطور إدارة السياسة الإيطالية في ليبيا منذ عام 2011، سواء على صعيد طبيعة مصالحها المتشابكة، أو أدوراها وأدواتها، أو الأنماط المتعددة للعلاقات مع المنافسين على هذا البلد.
ثانيًا- مصالح إيطاليا في ليبيا.. خيارات متشابكة:
تشكل ليبيا فضاءً حيويًّا لحركة الدولة الإيطالية والدفاع عن أمنها ومصالحها في جنوب البحر المتوسط، وهو أمر برز جليًّا منذ احتلال روما لهذا البلد بين عامي 1911 و1943، مرورًا بسعي الحكومات الإيطالية المتعاقبة لاستيعاب نظام “القذافي”، وإقامة شراكات وثيقة معه، ووصولًا إلى المساعي الراهنة لاستعادة النفوذ الإيطالي في هذا البلد في السنوات التي تلت سقوط ذلك النظام في عام 2011.
بدا ذلك الاهتمام الإيطالي مدفوعًا بمصالح رئيسية، بعضها قديم مستمر، والآخر نشأ بعد انتشار الفوضى إثر سقوط نظام “القذافي”، ومن أبرزها: الحفاظ على إمدادات الطاقة، خاصة النفط والغاز، مع تنويع خياراتها باتجاه الاعتماد على دول أخرى، وتوسيع الاستثمارات والتجارة، والحد من تدفقات الهجرة عبر السواحل الليبية في جنوب البحر المتوسط، وأخيرًا الحد من تأثير الفاعلين الخارجيين على تلك المصالح، خاصة مع اتساع رقعة التدخل الخارجي في ليبيا بعد سقوط نظام “القذافي”.
تلك المصالح الإيطالية تبدو متشابكة ومقيدة في آن واحد مع المنافسين الإقليميين والدوليين على ليبيا، على أكثر من صعيد، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- تداخل خيارات الطاقة والاستثمارات، فبالنظر إلى اعتماد الداخل الإيطالي على استيراد أكثر من 80% من احتياجاته من الطاقة، شكلت الأزمة في ليبيا بعد سقوط نظام “القذافي” مهددًا مباشرًا لها، خاصة أن هذا البلد كان يمد روما بحوالي 30% من احتياجاتها النفطية عبر امتيازات شركة إيني الإيطالية. ومع تأثر تلك الإمدادات بالاضطرابات في ليبيا وفشل المرحلة الانتقالية، تراجعت واردات إيطاليا من النفط الليبي إلى ما دون 10% في عام 2015، كما تعرض خط الغاز الليبي-الإيطالي (جرين ستريم في غرب ليبيا) الذي يمد روما بنسبة 12% من احتياجاتها، لتهديدات من حين لآخر من قبل ميليشيات غرب ليبيا (إحصاءات معهد الدراسات الدولية في ميلانو ispi).
عزز ذلك سياسة روما لتنويع خيارات الطاقة. وهنا، بدا اللاعبون الإقليميون والدوليون في الساحة الليبية يشكلون أحد الرهانات البديلة لاحتياجات الطاقة الإيطالية. فمثلًا، تصاعدت أهمية مصر كلاعب رئيسي في مجال الغاز بالنسبة لإيطاليا بعد اكتشاف حقل ظُهر في عام 2015، والذي تتولاه شركة إيني، ويتوقع أن تصل استثماراته إلى 12 مليار دولار. كذلك، تبرز الجزائر كخيار بديل لإيطاليا، خاصة في مجال الغاز. وزادت أهمية تلك البدائل مع المخاوف التي طرحتها أزمة أوكرانيا في عام 2014 من تعطل إمدادات الغاز الروسي التي تمر عبر إيطاليا إلى أوروبا بسبب العقوبات المتبادلة.
الأمر ذاته بالنسبة للاستثمارات الإيطالية، إذ برزت ليبيا كشريك رئيسي لروما قبل سقوط نظام “القذافي”، حيث بلغ حجم التبادل التجاري قرابة 25 مليار دولار في عام 2008؛ إلا أن ذلك الحجم انخفض بشكل حادٍّ إلى ما دون 10 مليارات دولار في السنوات التي تلت سقوط نظام “القذافي” وحتى عام 2017، بخلاف تأثير الاضطرابات الليبية على أعمال أكثر من مائة شركة إيطالية تعمل في مجالات النفط والبنية التحتية وغيرها. ودفع ذلك أيضًا إيطاليا إلى البحث عن رهانات بديلة وتوسيع الشراكات التجارية، خاصة مع الجزائر ومصر. ولعل زيارة “جوزيبي كوتي” رئيس وزراء إيطاليا إلى الجزائر في نوفمبر 2018، تضمنت تعبيرًا عن رغبة بلاده في رفع التبادل التجاري من 8 إلى 10 مليارات يورو. بينما تسعى روما أيضًا إلى رفع حجم التبادل التجاري مع القاهرة، والذي يصل حاليًّا إلى 5.5 مليارات دولار، وفقًا لوزارة الخارجية المصرية.
2- تشابك رهانات مواجهة تدفق الهجرة غير الشرعية، إذ فاقمت أزمة ليبيا تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا، خاصة مع غياب قوة أمنية مركزية، وانتشار شبكات التهريب المحلية، حتى إن إجمالي عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى السواحل الإيطالية من شمال إفريقيا بلغ 650 ألف شخص في السنوات التي تلت عام 2014، وفقًا لمنظمة الهجرة الدولية. وازدادت وطأة تلك الأزمة في ظل تراجع المعبر اليوناني للمهاجرين واللاجئين، بعد الاتفاق التركي-الأوروبي في مارس 2016، كما أن العملية البحرية الأوروبية (صوفيا) في البحر المتوسط التي أُطلقت خلال عام 2015 للحد من الهجرة غير الشرعية بدت نتائجها عكسية على روما، حيث دفعت ذلك المهربين إلى سلوك الطريق البحري الليبي نحو إيطاليا لتوقعهم قيام البحرية الأوروبية بإنقاذ المهاجرين.
واتجهت روما إلى خيارات متنوعة لمواجهة الهجرة غير الشرعية تتشابك أيضًا مع المنافسين الإقليميين والدوليين على ليبيا، منها بناء تحالفات مع قوى داخلية ليبية، سواء كانت حكومة الوفاق أو ميليشيات مسلحة أو قبائل في مناطق الغرب والجنوب، لضبط الحدود ومنع تدفق المهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء للمرور بليبيا وصولًا إلى إيطاليا. فضلًا عن المطالبة بتوزيع عادل لأعباء الهجرة في أوروبا بين دول المواجهة المباشرة (إيطاليا)، ودول الداخل مثل فرنسا وألمانيا، وهو ما يزال محل انقسام أوروبي. أضف إلى ذلك التعاون مع الدول المتوسطية كمصر والجزائر وتونس لتعزيز التعاون الثنائي في مكافحة الهجرة غير الشرعية.
3- متطلبات العمل الجماعي ضد تهديدات الإرهاب، ذلك أن تصاعد التنظيمات الإرهابية في ليبيا وتمدد تهديدها لأمن دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط ككل فرض على السياسة الإيطالية التعاون الأمني مع هذه الدول لمكافحة تلك التنظيمات. ذلك أن هزيمة داعش في سرت نهاية 2016، أفرزت تأثيرين على السياسة الإيطالية؛ أحدهما فرار مقاتلي التنظيم إلى الجنوب الليبي، وبالتالي بدا هنالك احتمال لانخراطهم في شبكات الجريمة المنظمة التي تعمل في مجال الهجرة غير الشرعية على الحدود الجنوبية الليبية، والآخر الخشية الإيطالية من التداخل بين الإرهاب والهجرة، خاصة مع انتقال ظاهرة “الذئاب المنفردة” إلى أوروبا في السنوات الماضية، خاصة فرنسا وبلجيكا وألمانيا.
في ظل اتجاهات التشابك تلك للمصالح الإيطالية في ليبيا، وكذا تعرضها للتراجع النسبي في أعقاب سقوط نظام “القذافي”، بدا أن اللاعبين الخارجيين في ليبيا يمثلون قيودًا على مصالح روما، حال عدم تعاونهم. وعلى الجانب الآخر، لا يمكن إغفال كونهم رهانات بديلة في الملفات الثنائية الإقليمية في مجالات الطاقة ومكافحة الهجرة والإرهاب.
Source: stratfor , France and Italy Each Go Their Own Way on Libya, 5 september 2018, https://worldview.stratfor.com/article/france-and-italy-each-go-their-own-way-libya
ثالثًا- انتقالات إيطاليا في ليبيا.. من الحذر إلى التغلغل:
مع تعرض المصالح الإيطالية لتهديدات في ليبيا، وارتباطها بخياراتها الأخرى، سواء دول شمال إفريقيا أو القوى الدولية، أخذ الدور الإيطالي في ليبيا انتقالات متعددة. ويمكن هنا التفرقة بين ثلاث مراحل أساسية لذلك الدور منذ عام 2011.
المرحلة الأولى: التردد والحذر، وهي التي برزت خصوصًا مع عسكرة الثورة ضد نظام “القذافي” في عام 2011، وحتى ما قبل اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015. ففي بداية الأزمة، ترددت إيطاليا بين مساندة تدخل الناتو لدعم المسلحين في شرق ليبيا، أو الإبقاء على الشراكة مع “القذافي”. لكن روما سمحت في الأخير باستخدام قوات “ناتو” لأراضيها لشن هجمات ضد نظام “القذافي”، بعدما علق الأخير معاهدة التعاون بين البلدين الموقعة في عام 2008، والتي كان قد أبرمها آنذاك “برليسكوني” و”القذافي”، وقضت باعتذار روما عن الاستعمار، ودفع خمسة مليارات يورو على مدى 25 عامًا لبناء شبكات وبنى تحتية، مقابل غلق ليبيا سواحلها أمام المهاجرين غير الشرعيين.
بعد ذلك، سعى الإيطاليون إلى بناء شراكات مع الحكام الجدد في ليبيا، حيث وقّعت حكومة رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق “ماريو مونتي”، إبان حكم المجلس الوطني الانتقالي، مذكرة تفاهم مع حكومة “عبدالرحيم الكيب” الانتقالية في يناير 2012 تتعلق بوضع نظام للسيطرة على الحدود الليبية، وتوفير التدريب الأمني، خاصة على حماية المنشآت النفطية، والمساعدة في نزع سلاح الميليشيات. لكن ذلك لم يلقَ إنفاذًا على الأرض في ضوء تشرذم الفرقاء الليبيين، وتعثر الاستحقاقات الانتخابية الليبية في عامي 2012 و2014 في إحلال الاستقرار، ثم نشوب حرب أهلية في صيف 2014 قسمت البلد بين حكومتين وتحالفات سياسية متضادة في الشرق والغرب، وهو ما خلق مناخًا مواتيًا لبروز داعش في سرت في عام 2015.
ألقى ذلك المناخ الليبي المضطرب بوطأته على زيادة تدفق الهجرة والإرهاب، وتراجع إمدادات النفط لروما، حتى إن رئيس الوزراء الأسبق “ماتيو رينزي” اعتبر آنذاك أن تدخل قوات الناتو في ليبيا كان خطأ. لكن ذلك، لم يدفع الإيطاليين للتدخل المباشر خشية الحساسية التاريخية من الإرث الاستعماري، بخلاف العزوف الغربي عن التورط في الصراع الليبي، لذا فضلت روما دعم الحوار الأممي آنذاك خلال عام 2015 بين الفرقاء الليبيين للتوصل إلى تسوية سلمية.
المرحلة الثانية: التغلغل والمزاحمة المناطقية. جاء البروز الفعلي المباشر لإيطاليا في تفاعلات الصراع الليبي، إثر توقيع اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، حيث رأت روما ذلك الاتفاق فرصة للدفاع عن مصالحها. لذا، حشدت لدعم حكومة الوفاق الليبي برئاسة “فايز السراج” لدخول طرابلس في مارس 2016. وركزت روما في هذه المرحلة على تكريس النفوذ المناطقي في منطقتي الغرب والجنوب الليبي لمنع تدفق الهجرة، وضمان إمدادات الغاز والنفط، مع السعي للانفتاح على الجيش الوطني الليبي بقيادة “خليفة حفتر”، كونه لاعبًا أساسيًّا في الشرق. وبرزت هنا عدة اتجاهات للحركة الإيطالية في ليبيا، من أبرزها:
– الدعم العسكري لحكومة الوفاق في مواجهة داعش، إذ نشرت روما في أكتوبر 2016 قوة عسكرية في مصراتة غربي ليبيا لأغراض إنسانية لمعالجة جرحى المعارك التي تخوضها قوات البنيان المرصوص الموالية لحكومة الوفاق ضد داعش في سرت.
– توقيع رئيس الوزراء الإيطالي “باولو جينتلوني” آنذاك مذكرة تفاهم مع نظيره الليبي “فايز السراج” في الثاني من فبراير 2017، لتعزيز مكافحة الهجرة غير الشرعية، تتضمن إقامة مخيمات لاستقبال المهاجرين، وتدريب ودعم حرس السواحل الليبي، بخلاف وصول بوارج إيطالية إلى طرابلس في أغسطس 2017 بعد موافقة مجلس النواب الإيطالي.
– توطيد شراكات روما مع القبائل في جنوب ليبيا. فعلى سبيل المثال، رعت وزارة الداخلية الإيطالية نهاية مارس 2017 اتفاق مصالحة بين التبو وأولاد سليمان في جنوب ليبيا بغرض السيطرة على الحدود، ومنع اقتصاديات التهريب.
– الانفتاح تدريجيًّا على تحالفات الشرق الليبي، خاصة بعد تمدد “خليفة حفتر” قائد الجيش الوطني الليبي إلى عدة مناطق في الجنوب، في النصف الثاني من عام 2017. ومن بعدها، تصاعدت التصريحات الإيطالية عن أهمية استيعاب “حفتر” في أية تسوية سياسية في ليبيا، ومن ثمّ كانت أول زيارة للرجل إلى روما في سبتمبر 2017.
– الإعلان عن نشر قوة عسكرية إيطالية في شمال النيجر قوامها 470 فردًا على الحدود مع جنوب ليبيا في سبتمبر 2017 للمساهمة في الجهود الإقليمية في الساحل الإفريقي لمنع تدفق الهجرة غير الشرعية، وهو ما تم البدء فيه بالفعل على الأرض في سبتمبر 2018.
المرحلة الثالثة: مساعي اللاعب الرئيسي، وهي المرحلة التي برزت كرد فعل إيطالي على الجهود الفرنسية للرئيس “إيمانويل ماكرون” لتسوية الأزمة الليبية، عبر احتضان باريس لفرقاء الأزمة في مايو 2018، والاتفاق على عقد انتخابات في العاشر من ديسمبر من هذا العام. ولقي ذلك معارضةً حادةً من روما التي اعتبرت أن المناخ غير مواتٍ أمنيًّا وسياسيًّا لذلك الاستحقاق الانتخابي. وزاد من ذلك، نتائج الانتخابات التشريعية في مارس 2018، التي شهدت صعودًا لأحزاب يمينية متطرفة وشعوبية (مثل: حزب رابطة الشمال، وحركة خمسة نجوم)، والتي كانت قد وجهت انتقادات للسياسة الإيطالية تجاه ليبيا، وخاصة إزاء الهجرة.
وخشيت روما –على ما يبدو- من أن تفرض فرنسا تشكيل قواعد اللعبة في ليبيا، في ظل تحالفها مع الجيش الوطني الليبي الذي تميل له موازين القوى الميدانية مقارنة بحلفاء إيطاليا المتنازعين في غرب ليبيا، لا سيما وأن العاصمة طرابلس شهدت نزاعًا ميليشاويًّا في أغسطس 2018 قبل أن تتدخل الأمم المتحدة للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار.
في هذا الإطار، بدأت الحكومة الإيطالية الجديدة بقيادة “جوزيبي كونتي” السعي للانتقال من النفوذ المناطقي في غرب وجنوب ليبيا إلى مرحلة اللاعب الرئيسي الذي يضطلع بتأثيرات في رسم إطار لقواعد اللعبة بين المتنازعين الليبيين. لذا، أقدمت روما على احتضان اجتماع باليرمو حول الأزمة الليبية في نوفمبر 2018، والذي بدا موجهًا أكثر لمنافسة غريمتها فرنسا على تصدر المشهد الليبي، بالنظر إلى اتفاق الفرقاء المتنازعين في هذا البلد على دعم الخطة الأممية المعدلة لعقد مؤتمر وطني جامع في يناير 2019، وإرجاء الانتخابات الليبية إلى هذا العام، والأهم ضمان سريان اتفاق الترتيبات الأمنية في طرابلس.
وصب ذلك الاجتماع في دعم السياسة الإيطالية، من زاويتين. الأولى الإصرار على رفض جهود باريس لعقد تلك الانتخابات الليبية في ديسمبر 2018. الثانية تأمين الرهان على التماسك الأمني لحليفها الرئيسي (حكومة الوفاق الليبي) التي تعرضت لاهتزاز بعد أزمة اقتتال ميليشيات العاصمة. وعزز من السعي الإيطالي للعب دور رئيسي في الأزمة الليبية محاولة الحفاظ على مكاسبها في مسألة تراجع تدفقات الهجرة، إذ أعلن وزير الداخلية “ماتيو سالفيني” في ديسمبر 2018 انخفاض أعداد المهاجرين القادمين من سواحل ليبيا بنسبة تصل إلى 92%، وفقًا لوكالة آكي الإيطالية.
بموازاة ذلك، واصلت الحكومة الإيطالية سياسة الانفتاح على “حفتر”، سواء عبر التمسك بحضوره إلى إيطاليا في مؤتمر باليرمو، ثم دعوته مرة أخرى لزيارة روما في الأسبوع الأول من ديسمبر 2018، حيث التقى مجددًا “جوزيبي كونتي”، في محاولة إيطالية لتمهيد الأجواء لإنفاذ الخطة الأممية الجديدة بدءًا من يناير 2019.
رابعًا- أنماط إدارة روما للمنافسة.. مسارات متعددة:
لم يكن الانتقال الإيطالي من الحذر والتغلغل المناطقي إلى محاولة ممارسة دور اللاعب الرئيسي، بمعزل عن إدارة سياساتها تجاه اللاعبين الرئيسيين الآخرين في ليبيا. إذ انتهجت سياسة مرنة تجاه هؤلاء المنافسين لتخفيض حدة تأثير قيودهم، وتحويلها إلى فرص لتعزيز مصالحها في ليبيا، وبرزت هنا عدة أنماط أساسية، هي:
النمط الأول: اختزان أوراق الضغط ضد المنافسين، وبرز في إدارة علاقات إيطاليا بمصر بدرجات متفاوتة، سواء إبان حكومات “ماتيو رينزي” أو “جنتيليوني” أو الحكومة الشعبوبية الحالية لكونتي. فمع إدراك روما أن القاهرة تملك قوة مؤثرة في الداخل الليبي، بحكم تحالفها مع الجيش الوطني الليبي، وكونها أيضًا رهانًا بديلًا لروما في مجال الاستثمارات والطاقة، فقد مارست نمطًا مرنًا من توسيع التعاون الثنائي مع اختزان أوراق الضغط والتلويح بها، إما لتفريغ ضغوط داخلية، أو المساومة حول أي تغيرات محتملة قادمة في الأزمة الليبية.
لوحظ ذلك مثلًا في تفاعلات أزمة الطالب الإيطالي “جوليو ريجيني” الذي اكتُشفت جثته في القاهرة في فبراير 2016. إذ أخذت السياسة الإيطالية في المرتين اللتين صعّدتا فيهما ضد القاهرة بخصوص تلك القضية نوعًا من الضغط السياسي أكثر من كونه عقوبات فعلية قد تدفع القاهرة لرد فعل مضاد قد يؤثر على مصالح روما سواء الثنائية أو في ليبيا. ففي المرة الأولى، أوقفت إيطاليا التزويد المجاني لمصر بقطع غيار إف 16 في يونيو 2016 بعد موافقة مجلس الشيوخ، إلا أن استثماراتها وتعاونها الأمني والسياسي ظلت باقية دون تأثر، كما لم يتضمن القرار الإيطالي وقتها منع الإمداد بهذه القطع لمصر مقابل مالي. أما المرة الثانية التي شهدت تعليق مجلس النواب الإيطالي لعلاقته البرلمانية مع نظيره المصري في نوفمبر 2018، فلم يعقبها أيضًا أي تأثير على الاستثمارات والتعاون الأمني الإيطالي مع مصر.
بل إنّ المفارقة أن إثارة قضية “ريجيني” مؤخرًا، جاءت في أعقاب مساعي الحكومة الإيطالية الحالية لرفع مستويات التعاون مع مصر، كما برز في زيارتي نائب رئيس الوزراء “لويجي دي مايو” ووزير الخارجية الإيطاليين “موافيرو ميلانزي” على التوالي في أغسطس ونوفمبر 2018، فضلًا عن التعاون مع مصر في الملف الليبي، كما تجلى في حضور الرئيس “السيسي” اجتماع باليرمو الأخير.
النمط الثاني: تقليص تباين المصالح مع المنافسين، ويظهر ذلك مثلًا في إدارة علاقات روما مع الجزائر وتونس. فالجزائر وكما أسلفنا تمثل خيارًا إيطاليًّا لتنويع مصادر استيراد الطاقة، بخلاف أنها تملك أوراقًا مؤثرة في غرب وجنوب ليبيا. ومع ذلك، فإن الجزائر تتحفظ على سياسة الهجرة الإيطالية التي تسعى لتحويل دول شمال إفريقيا إلى حارس أمني متقدم لاحتجاز المهاجرين أو توطينهم أو إعادتهم إلى بلدانهم. بالمثل، تُولِي إيطاليا أهمية كبيرة لتونس مع اقترابها جغرافيًّا من سواحلها، وامتلاكها جالية كبيرة، بخلاف كونها تحوز مرتبة رئيسية في أعداد المنتمين لداعش (وإن كانت قد انخفضت من ستة آلاف إلى 2900 مقاتل، بحسب تقرير لمجموعة صوفان نشرت نتائجه في عام 2017).
وتكمن معضلة إيطاليا وتونس في مسألة استعادة بعض المواطنين المتورطين في أعمال إرهابية، أو التعاون في مسألة الهجرة. إذ ترفض تونس التوجه الإيطالي لعمل مراكز احتجاز للمهاجرين في إفريقيا أو استقبالهم بديلًا عنها. وبرز ذلك واضحًا في اعتراض تونس على تصريحات وزير الداخلية الإيطالي “ماتيو سالفيني” في يونيو 2018، عندما قال إن تونس لا ترسل مهاجرين شرفاء وإنما مساجين. لكن ذلك لا يمنع وجود تعاون أمني واستخباري بين البلدين في مجال مكافحة الإرهاب والهجرة، أو حتى التنمية، ففي يوليو 2018 أعلنت وزيرة الدفاع الإيطالية “إليزابيتا ترينتا” استعداد الحكومة لتقديم مساعدات عسكرية أكبر لتونس للسيطرة على مياهها الإقليمية ومكافحة الهجرة.
النمط الثالث: تعديل موازين القوى التنافسية، إذ تأخذ العلاقات الإيطالية الفرنسية طابعًا صداميًّا مصلحيًّا حول ليبيا برغم اتفاقهما على استقرار هذا البلد، إذ تتضارب تحالفاتهما الداخلية بخلاف نزاعهما على الجنوب الليبي الذي يمثل أهمية لباريس لربطه بمصالحها في الساحل الإفريقي. في مقابل ذلك، سعت إيطاليا إلى اجتذاب كل من الولايات المتحدة وروسيا لدعم دورها كلاعب رئيسي في ليبيا. فبالنسبة لروسيا فإن الإيطاليين يسعون للانفتاح عليها كما يظهر في تصريح وزير خارجية إيطاليا “موافيرو ملانيزي” في نوفمبر 2018، عندما قال إنه من غير المعقول تجاهل روسيا في حل الأزمة الليبية.
وتكمن أهمية موسكو لإيطاليا بخصوص ليبيا أو مصالح ثنائية، لعدة اعتبارات، الأول: امتلاك موسكو شراكات وثيقة مع “حفتر”، فضلًا عن تعاونها مع حكومة الوفاق وفصائل ليبية، خاصة أنصار “القذافي”. والثاني: دخول موسكو المنافسة على النفط الليبي إثر توقيع اتفاق بين المؤسسة الوطنية الليبية للنفط وشركة روسنفت الروسية في فبراير 2017. والثالث: أن موقع روما كموزع للغاز الروسي لأوروبا يواجه منافسة من قبل ألمانيا، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، حيث تسعى برلين للسيطرة على إمدادات نقل الطاقة إلى أوروبا عبر مشروع “نورد ستريم 2” الذي سيضخ كميات كبيرة من الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر أنابيب في بحر البلطيق، دون المرور بأوكرانيا.
أما بالنسبة للولايات المتحدة التي ترى أزمة ليبيا ملفًّا أوروبيًّا، فثمة ميل أكبر باتجاه سياسة إيطاليا، خاصة أن الجانبين تعاونا في مكافحة داعش في سرت، لكن المعضلة أن إدارة “ترامب” تقصر اهتمامها على مكافحة الإرهاب في ليبيا عبر قيادة الأفريكوم، وربط ذلك بمصالحها في الساحل الإفريقي، دون الضغط لتسوية الصراع. لكن الانفتاح الإيطالي على واشنطن يساعدها في دعم مصالحها في ليبيا في أمرين: أحدهما، التواجد ضمن الجهود الإقليمية في منطقة الساحل لمنع تدفق الهجرة باتجاه الحدود الليبية الجنوبية، والآخر، دعم جهودها لرسم قواعد اللعبة في ليبيا في مواجهة فرنسا، وإن كانت الأخيرة تملك ورقة ضغط على روما، خاصة مع تواجدها المكثف في الساحل الإفريقي ورعايتها قوة دول الساحل الإفريقي الخمس.
إجمالًا، يظل أن إدارة السياسة الإيطالية تتعامل بمنطق مرن مع المنافسين على ليبيا، حيث تدرك طبيعة الأوراق الضاغطة التي يمتلكونها ضدها، سواء في الملف الليبي أو في مجالات التعاون الثنائي، خاصة الطاقة والهجرة ومكافحة الإرهاب. لكن ومع ذلك، فإنها تتحين الفرص لتحويل الضغوطات إلى مدخل لتعظيم ربحها في لعبة المنافسة المقيدة على ليبيا، عبر اختزان أوراق الضغط وتعديل ميزان التنافس الخارجي بالقدر الذي يحقق مصالحها.