الإعلان الإسرائيلي المفاجئ عن بدء عملية “درع الشمال” لتدمير نفق قام “حزب الله” اللبناني بحفره من إحدى قرى الجنوب اللبناني صوب الأراضي الإسرائيلية، أربك المحللين والمراقبين للأوضاع والتطورات الإقليمية. وطرحت العملية تساؤلات عدة عن خلفياتها، وتداعياتها المباشرة وغير المباشرة على الجبهات المفتوحة بين إسرائيل وكلٍّ من سوريا ولبنان، وحتى قطاع غزة.
بدايةً، يمكن القول إنه كان بإمكان إسرائيل بعد اكتشافها النفق أن تتريّث وتمتنع عن الإعلان عن كشفه انتظارًا لتفجيره عند بدء تشغيله، وعندما يكون عددٌ من رجال “حزب الله” بمعداتهم داخله. لكن السلوك الإسرائيلي يُثير التساؤل: لماذا اتُّخذ قرار الكشف عن النفق في هذا الوقت المبكر، والتضحية بإمكانية تكبيد الحزب خسائر أكبر في مرحلة لاحقة؟
الحسابات الداخلية
لا تزال أصداء انسحاب “أفيجدور ليبرمان” (زعيم حزب “إسرائيل بيتنا”) من الائتلاف الحاكم، وتوصية جهاز الشرطة الإسرائيلي للمرة الثالثة بتقديم رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” للمحاكمة في قضايا فساد واستغلال للنفوذ؛ تلعب دورًا كبيرًا في توجهات “نتنياهو” الذي استعجل الإعلان عن عمليةٍ ربما بدت دعائية بشكل واضح، ويستهدف منها ما يلي:
1- محو الصورة التي حاول وزير الدفاع المستقيل “ليبرمان” تثبيتها، والتي توحي بأنه الأكثر حرصًا من “نتنياهو” على أمن إسرائيل، حيث جاءت استقالة الأول تحت دعوى رفض الأخير القيام بعملية عسكرية ضخمة ضد حركة “حماس” لتأمين سكان الجنوب الأكثر تعرضًا للهجمات المسلحة للحركة.
2- تأكيد قدرة الائتلاف الحاكم، الذي تقلصت قوته داخل الكنيست إلى ٦١ صوتًا، على العمل بقوة في المجال الأمني، رغم الخلافات الحكومية التي يقودها على وجه الخصوص “نفتالي بينت” زعيم حزب “البيت اليهودي” الطامع في تولي حقيبة الدفاع خلفًا لـ”ليبرمان”.
3- التغطية على الحملات الإعلامية الشرسة التي يتعرض لها “نتنياهو” من خصومه ومنافسيه السياسيين على خلفية اتهامه بالفساد والمطالبة باستقالته.
4- تفعيل قرار “نتنياهو” بالاحتفاظ بحقيبة الدفاع لنفسه عبر عملية تستدعي تقليديًّا توافق الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية على القرارات الأمنية الحساسة على وجه الخصوص.
ويمكن القول إن “نتنياهو” قد حقق الأهداف الأربعة السابقة دون أن يورط إسرائيل في حرب مع “حزب الله”. وهي مهارة سياسية يمكن أن تزيد من شعبيته في الأمد المنظور، بدعوى أنه الوحيد القادر على قيادة إسرائيل سياسيًّا، وتحقيق أمنها عسكريًّا.
ويبدو أن حزب الليكود كان متنبهًا إلى إمكانية اتهام رئيس الوزراء من جانب خصومه بأنه استعجل الإعلان عن اكتشاف النفق على الحدود الشمالية لأسباب انتخابية، فعمد إلى تسريب معلومات عن حقيقة معرفة إسرائيل بأمر نفق “حزب الله”، حيث أشار موقع “واللا” walla الإخباري إلى أن عملية “درع الشمال” انتظرت ثلاث سنوات قبل تنفيذها. وأوضح أن المؤسسة العسكرية أجرت مناقشات مكثفة حول الوقت المناسب للتعامل مع أنفاق الحزب. وأضاف الموقع أنه خلال تلك السنوات تم تأجيل العملية للسماح للجيش الإسرائيلي بالتعامل مع التهديدات الأخرى. كما أوضح أنه منذ أكثر من عامين كشف فريق خاص، بمساعدة فرع المخابرات في القيادة الشمالية، المشروعَ السري لـ”حزب الله” وهو الأنفاق. وأشار إلى أن التنسيق للعملية تم في عهد وزير الدفاع السابق “موشيه يعالون”، والوزير المستقيل مؤخرًا “أفيجدور ليبرمان”.
ويهدف هذا التسريب ليس فقط إلى تبرئة “نتنياهو” من اتهام محتمل باستعجال العملية لأسباب انتخابية، بل أيضًا التأكيد على أن “ليبرمان” كان على علم بوجود أنفاق “حزب الله” عندما شغل منصب وزير الدفاع، ولم يضغط لمواجهة الأخطار التي تُشكّلها هذه الأنفاق على أمن سكان الشمال، بينما حاول أن يُوحي للجمهور الإسرائيلي بأن حرصه على أمن سكان الجنوب هو ما دفعه إلى ترك منصبه وسحب حزبه من الائتلاف الحاكم.
والمثير في الأمر أن التعريض بمصداقية “ليبرمان” كهدف من أهداف العملية جاء واضحًا على لسان وزير البناء والاستيطان “يوآف جالنت” أمام الكنيست، حيث وجه خطابه للأعضاء الذين ينادون بتوجيه ضربة قوية لـ”حماس” وإنهاء سياسة ضبط النفس التي تتبعها إسرائيل قائلًا: “ستكون هناك معركة أخرى في غزة في ظل انعدام الخيارات الأخرى لإقناع “حماس” بالتخلي عن العمليات، ولكن نحن من سيحدد توقيت وظروف المعركة المقبلة وليست “حماس” كما في المعارك المقبلة”.
الأوضاع الإقليمية والدولية
لم تكن الأوضاع الداخلية وحدها هي المؤثرة في قرار حكومة “نتنياهو” بالإعلان عن عملية “درع الشمال”، بل لعبت تطورات إقليمية ودولية عديدة دورًا كبيرًا في هذا الشأن، ومن أهمها:
1- الانطباعات السلبية التي خلّفتها تصريحات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” والتي أظهرت إسرائيل في صورة دولة ضعيفة في حاجة إلى الحماية من جانب دول أخرى. ومن أمثلة تلك التصريحات ما قاله “ترامب” من أنه لولا المملكة العربية السعودية لكانت إسرائيل في ورطه كبيرة. وتصريحه أيضًا بأن الوجود الأمريكي العسكري والأمني والسياسي في منطقة الشرق الأوسط لم يعد يستهدف تأمين إمدادات النفط، بل يستهدف فقط حماية إسرائيل.
2- قبل تصريحات “ترامب” السابقة، نشرت مجلة “The Atlantic” في يوليو الماضي (2018) تقريرًا عن إسرائيل يَصُبّ في الاتجاه ذاته بعنوان: “لماذا تخشى إسرائيل من الوجود الإيراني في سوريا؟”. وقد ورد في التقرير “أن إسرائيل، رغم الدعم الأمريكي والقوة العسكرية، دولة صغيرة ذات بنية تحتية محدودة، ولديها مطار دولي وحيد، وبضع محطات كبرى لتوليد الطاقة، وشبكة كهربائية، حذر خبراء إسرائيليون من خطر تعرضها لهجمات”.
ونقلت المجلة الأمريكية عن مسئولين أمنيين أن إسرائيل تتخوف من سيناريو كارثي قد يتحقق لو تطورت الأسلحة التي تتوفر لدى إيران وحليفها اللبناني “حزب الله”، بما يكفي لضرب البنية التحتية المدنية والعسكرية، ولشل الحياة اليومية في إسرائيل.
3- اتهام المعارضة الإسرائيلية لـ”نتنياهو” بأنه يرهن أمن إسرائيل بجهات لا يمكن الثقة بها، مثل تركه أمر معالجة الوجود العسكري الإيراني في سوريا لروسيا، وتحجيم قدرة تل أبيب على الرد المباشر على مثل هذا التهديد. فضلًا عن سعي إيران وتركيا و”حزب الله” للتحكم في مصير سوريا دون أي مشاركة إسرائيلية بالرغم من التأثيرات المؤكدة لتسوية الأوضاع في تلك الدولة على أمن إسرائيل مستقبلًا.
4- التصريحات المتكررة من جانب زعيم “حزب الله” “حسن نصر الله”، بأن المعارك القادمة مع إسرائيل ستدور داخل أراضيها، وأن الصواريخ التي يمتلكها لا تمثل التهديد الوحيد لحزبه على الدولة العبرية.
هذه العناصر الأربعة صبت في عكس الاتجاه الذي حرصت إسرائيل على تأكيده منذ إنشائها عام ١٩٤٨، وهو قدرتها على ردع خصومها منفردة، ومنعهم من تصور إمكانية القضاء عليها في غياب الحماية الأمريكية والدولية. وفي هذا الشأن يمكن إدراك -ولو جزئيًّا- مغزى ما صرّحت به وزيرة العدل الإسرائيلي “إيليت شاكيد” بقولها: “علينا أن نفهم أنه من المستحيل الاعتماد على الاتفاقيات الدولية مع المنظمات الإرهابية، ونأمل انتهاء الجيش من أعماله على الحدود الشمالية في أقرب وقت ممكن”.
ورغم عدم قدرة إسرائيل على الرد المباشر على تصريحات الرئيس “ترامب” السابقة، إلا أنها سعت بقوةٍ للرد غير المباشر عبر عملية “درع الشمال” لتأكيد قدراتها الاستخباراتية والعملياتية على ردع خصومها الإقليميين، وعدم الاعتماد على حماية الآخرين. وقد أشار المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” “عاموس هرئيل” إلى هذا بوضوح في معرض تعليقه على العملية بقوله: “إن الحملة العسكرية التي أطلقها الجيش الإسرائيلي عند الحدود مع لبنان لتدمير أنفاق حفرتها منظمة “حزب الله” قد أحبطت خطة هجومية قيمة للحزب كان يخطط لها في حال نشوب حرب، وعمل عليها سرًّا”.
خلاصة القول، لم تستهدف إسرائيل تصعيدًا عسكريًّا مع “حزب الله” عندما بدأت عملية “درع الشمال”، بل كانت حريصة على التأكيد على عدم رغبتها في الانجرار إلى معركة شاملة بعدم حشدها لقواتها على الحدود مع لبنان، وعدم استدعاء الاحتياط. والأهم من ذلك إعلانها بوضوح عن أن العملية تتم داخل أراضيها ولا تنتهك قرار وقف إطلاق النار الموقّع عام ٢٠٠٦.
وعلى الجانب الآخر، أظهر “حزب الله” أيضًا عدم رغبته في التصعيد على الأقل حتى الآن، ولكن لا يستبعد أن يحاول القيام بعملية نوعيه محدودة لتقويض النجاحات الإسرائيلية الأخيرة ضده وضد إيران من جهة، ومحو الصورة التي باتت مستقرة في أذهان جزء من جمهوره والمتعاطفين معه بأنه لم يعد حزبًا مقاومًا لإسرائيل ورادعًا لها كما يدعي، بل مجرد ذراع لإيران التي تهدد لبنان والمنطقة بأكملها بعدم الاستقرار من جهة أخرى.