تفاقمت أزمة قوائم الانتظار في مطلع عام 2018 إلى درجة خطيرة، حتى إن بعض المرضى كان عليهم الانتظار لفترة تتجاوز العام، الأمر الذي استلزم إحداث إصلاح جذري وفوري في القطاع الصحي في مصر. من هنا انطلقت مبادرة الرئيس “عبدالفتاح السيسي” لإنهاء قوائم انتظار مرضى الجراحات والتدخلات الحرجة بالمجان في يوليو 2018. وأهم ما ميز هذه المبادرة هو اعتمادها أساسًا على إصلاح نظام الرعاية الصحية، ليس فقط على ضخ المزيد من الموارد، وهي فلسفة مختلفة عما اعتدنا عليه لعقود سابقة.
كانت نسبة المصابين بالأمراض غير السارية بين الموجودين على قوائم انتظار الجراحات مرتفعة للغاية، حيث تتسبب تلك الأمراض في حوالي 84% من إجمالي الوفيات في مصر، وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية عن الصحة في مصر عام 2018، خاصة أمراض القلب والأوعية الدموية المسئولة عن حوالي 46% من الوفيات، بجانب الأمراض الأخرى كالأورام وأمراض الرئة المزمنة. ويرجع ذلك إلى انتشار عوامل الخطر السلوكية والبيولوجية المسببة لهذه الأمراض، مثل: استخدام التبغ، والأنظمة الغذائية غير الصحية، والسمنة، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع الكولسترول في الدم.
تفاقم الأزمة
تباينت الأسباب التي أدت إلى تفاقم أزمة قوائم الانتظار، فكان هناك نقص شديد في المستلزمات والأجهزة الطبية، وبالتالي لم تتوفر الاستعدادات الجراحية اللازمة أو غرف العمليات المجهزة لإتمام الجراحات، وبالأخص الجراحات الدقيقة. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك سوء في توزيع القوى البشرية الطبية في المستشفيات الحكومية؛ فهناك فائض أطباء في بعض المنشآت الصحية الحكومية، وهناك عجز في منشآت أخرى؛ بالإضافة إلى غياب الرقابة والمتابعة على المستشفيات والمخازن الطبية التابعة لها.
وقد شكّلت الإجراءات الإدارية والقوانين المنظِّمة لنظام العلاج على نفقة الدولة جزءًا كبيرًا من أزمة قوائم الانتظار. فقد كانت القرارات الصادرة للعلاج على نفقة الدولة لا تضمن بالضرورة تغطية علاج المريض بشكل كامل. فعلى سبيل المثال، كان المريض الذي يعاني من ضيق بالشرايين القلبية يحصل على قرار علاج لتركيب دعامات قلبية على نفقة الدولة، ولكنْ بحد أقصى دعامتان اثنتان فقط، حتى ولو استلزمت الحالة الطبية للمريض أكثر من ذلك، وبالتالي يتم إعادة تسجيل المريض مرة أخرى على قائمة الانتظار، لاستصدار قرار جديد للعلاج، بغرض إكمال الجراحة الأولى.
استراتيجيات الحل والاستدامة
تبنت القيادة السياسية مجموعة من الاستراتيجيات التي كان من شأنها سرعة حل أزمة قوائم الانتظار وتوفير الخدمات العلاجية بشكل أسرع للمواطنين. فقد تم حصر كافة الاحتياجات الطبية للمستشفيات من مستلزمات وأجهزة طبية، وتم إعداد مناقصة عالمية موحدة، تم عبرها تدبير الاحتياجات اللازمة بأسعار مخفضة، بدلًا من قيام المستشفيات وهيئات وزارة الصحة المختلفة بشراء احتياجاتها، كل منها بمفرده بأسعار باهظة.
وتم إطلاق مبادرة السيد الرئيس “عبدالفتاح السيسي” لإنهاء قوائم انتظار مرضى الجراحات من خلال وزارة الصحة والسكان، بالتعاون مع عدد من منظمات المجتمع المدني، والرقابة الإدارية، والبنك المركزي المصري، ووزارة التعليم العالي، التي قدمت الدعم من خلال المستشفيات الجامعية، والمستشفيات الخاصة، ومستشفيات الجيش والشرطة، وبلغ عدد المستشفيات المشاركة في تنفيذ العمليات الجراحية ضمن المبادرة 305 مستشفيات من الجهات المشاركة المختلفة.
وقد تضمنت المبادرة تنفيذ عدد من الخطوات المهمة، شملت ما يلي:
– إطلاق موقع إلكتروني لحصر كافة الحالات التي تستوجب إجراء عمليات جراحية والصادر لها قرارات علاج على نفقة الدولة.
– إنشاء غرفة عمليات مركزية تعمل على مدار الساعة لاستقبال المكالمات على خط ساخن تم تخصيصه لتسجيل بيانات المرضى المسجلين على قوائم الانتظار، واستقبال الاستفسارات والشكاوى، وتوجيه المرضى للمستشفيات التي سيتم إجراء الجراحات بها.
– تعديل ساعات العمل الخاصة بالعاملين بالمستشفيات للتمكن من إجراء الجراحات على مدار اليوم.
– إعادة ترتيب الحالات الموجودة على قوائم الانتظار، بعد إعادة تقييمها، وإعطاء الأولوية للحالات الأكثر خطورة. وقد أسفرت عملية إعادة تقييم الحالات عن تحويل عدد كبير من مرضى الكبد، وصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف حالة، إلى العلاج الدوائي بدلًا من الجراحة.
– تفعيل الدور الرقابي، وهو ما ساهم في إلغاء القرارات الصادرة لحالات غير مستحقة للعلاج على نفقة الدولة، والتي وصل عددها إلى حوالي 37 ألف قرار؛ وهو ما ساهم في توفير حوالي 420 مليون جنيه؛ فالعلاج على نفقة الدولة مشروط بألا يكون المواطن متمتعًا بتأمين صحي، وأن يكون غير قادر على تحمل تكاليف العلاج.
– سرعة ودقة إنهاء الإجراءات الإدارية والمالية، من أجل تقليل الهدر في الوقت والمجهود لكل الأطراف المعنية، وذلك عبر استخدام تطبيق إلكتروني.
نجحت المبادرة، والتي نُفذت على مرحلتين بتكلفة تجاوزت 2 مليار جنيه، في إجراء 300 ألف و874 عملية جراحية، تضمنت 125 ألفًا و822 عملية قسطرة قلب، و19 ألفًا و774 جراحة قلب مفتوح، و101 ألف و725 جراحة رمد، و12 ألفًا و655 جراحة مخ وأعصاب، و13 ألفًا و501 جراحة عظام، و15 ألفًا و555 جراحة أورام، فيما تم الانتهاء من 2077 زراعة قوقعة، و194 زراعة كلى، و283 زراعة كبد. وقد قللت المبادرة من مدة انتظار المرضى لإجراء العمليات الجراحية، والمساواة بينهم في جميع التخصصات من مدة انتظار وصلت أحيانًا إلى 400 يوم، إلى حوالي 17 يومًا فقط (انظر الجدول المرفق).
جراحات تم تنفيذها لإنهاء قوائم الانتظار
ولضمان استمرار النجاح المتحقق؛ تم تشكيل لجنة للقضاء على قوائم انتظار الجراحات والتدخلات الطبية الحرجة، والتي ضمت أربع لجان فرعية لإحكام الرقابة والمتابعة على منظومة إنهاء قوائم الانتظار، وهي: لجنة الدعم اللوجستي، ولجنة الدعم الفني، ولجنة الإدارة والتحكم، ولجنة التمويل، بالإضافة إلى تكوين وحدة مخصصة للتخطيط الاستراتيجي لتحويل الحالات لجهات العلاج المختلفة واقتراح إعادة توزيع القدرات الاستراتيجية لمستشفيات وزارة الصحة.
وتختص لجنة الدعم اللوجستي بمتابعة توفير المستلزمات الطبية والقوى البشرية، وتحديد القدرات التشغيلية للمستشفيات، ورفع الطاقة التشغيلية إلى الحد الأقصى. فيما تتابع لجنة الدعم الفني مشكلات المستشفيات وتوفير الدعم الفني؛ بهدف تحسين جودة البيانات وتنقية قواعد البيانات من المكررين والمتوفين، واستكمال وتصحيح بيانات المرضى بالاستعانة بقواعد بيانات التأمين الصحي ونفقة الدولة لبناء قاعدة بيانات متكاملة، وعمل الإحصائيات اللازمة حول الإنجاز ومعدلات التشغيل ورصد الظواهر المتكررة، واقتراح حلول لتفادي حدوثها مرة أخرى. وتتولى لجنة الإدارة والتحكم مسئولية متابعة كافة الحالات المحولة إلى المستشفيات، ومتابعة الإجراءات الطبية، وتذليل العقبات طبقًا للطاقة الاستيعابية لكل مستشفى في التخصصات المتوفرة، مع ضمان توفير المستلزمات اللازمة للحالات ومتابعة القرارات وتحويلها. وتقوم لجنة التمويل بتجميع الحالات التي تم إجراء عمليات جراحية لها، ورفع تقارير بالتكاليف وكذلك المتبقي، سواء من ميزانية الوزارة أو نفقة دولة أو تأمين صحي أو من حساب التبرعات.
وارتكزت إدارة المبادرة على توحيد قواعد البيانات بين نفقة الدولة والتأمين الصحي لمنع صرف العلاج أو الإنفاق على نفس التدخل من أكثر من مصدر، واحتواء قاعدة البيانات الموثّقة على كافة التفاصيل والإجراءات التي تمت طبيًّا وماليًّا لكافة المرضى، وبما يسهّل تحديد الاحتياجات الفعلية في المستقبل، بجانب توحيد مصدر البيانات الموثقة والصحيحة لحجم الإنفاق وإتاحة جميع المعلومات لكافة الجهات ذات الصلة بشفافية ووضوح، لدعم اتخاذ القرار على أسس سليمة، وهو ما يمكن من تحديد الاحتياجات الفعلية بدقة. وكذا تم التأكد من التزام كافة أفراد الفريق الطبي بتطبيق القوانين واللوائح والالتزام بالمعايير، بما يضمن تقديم الخدمات الصحية للمرضى بطريقة لائقة، وتحقيق الاستجابة لمتطلبات حالة كل مريض على حدة، ووضع نظام للرقابة المالية والتدقيق، بما يضمن إحكام الرقابة على تنفيذ القرارات بكفاءة وفاعلية.
واستكمالًا لنظام المناقصات الموحدة، الذي تم وضعه لحل أزمة عدم توفر الأجهزة والمستلزمات الطبية، تم إصدار قانون رقم 151 لسنة 2019 بشأن إنشاء الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية وهيئة الدواء المصرية، والتي تعمل على توفير المستلزمات والأجهزة الطبية اللازمة لجميع الجهات الحكومية والجهات الطالبة، وتوفيرها في الوقت المناسب، وفقًا للمواصفات والمعايير المحددة، لإجراء العمليات الجراحية دون انتظار؛ بالإضافة إلى توفير المستحضرات الدوائية، ومطابقة شروط وإجراءات التخزين الجيد للمستحضرات والمستلزمات الطبية، وكذا إجراء الربط الإلكتروني لمخزون المستحضرات والمستلزمات الطبية على مستوى الجمهورية بالمنظومة الخاصة بهيئة الشراء الموحد، من أجل ضمان استمرار تقديم خدمات صحية وطبية لائقة للمواطنين.
لقد ساهمت مبادرة إنهاء قوائم انتظار العمليات الجراحية، بجانب العديد من المبادرات الطبية الناجحة التي تم تطبيقها على مدار العامين الماضيين كمبادرة 100 مليون صحة، في تمهيد الطريق نحو تطبيق نظام التأمين الصحي الشامل، وخففت من العبء الذي كان من المتوقع أن يقع على كاهل النظام إذا تم تطبيقه دون تلك المبادرات، وذلك من خلال قاعدة البيانات المتكاملة، والتي كانت نواة لإنشاء قاعدة بيانات منظومة التأمين الصحي الشامل والمسجل بها حاليًّا حوالي مليون و800 ألف منتفع في 6 محافظات.
ختامًا، يمكن القول إن قوائم انتظار العمليات الجراحية هي إحدى سمات القطاعات الصحية الممولة من القطاع العام، فمصر ليست الدولة الوحيدة التي تُعاني من هذه الأزمة. على سبيل المثال، إنجلترا التي وصلت فيها مدة انتظار المرضى لإجراء العمليات الجراحية إلى 18 أسبوعا وفقًا لصحيفة “الإندبندنت” البريطانية. ولكن دائمًا ما تسعى الحكومات جاهدة لحل تلك الأزمة عبر تنفيذ المبادرات والإجراءات الإصلاحية، والتي من شأنها تخفيض مدة انتظار المرضى. ولا يمكن إغفال النجاح الكبير الذي حققته مصر في حل هذه الأزمة، والذي ارتكز بشكل كبير على إصلاحات في الجهاز الإداري للمنظومة الصحية، ذلك أن الإدارة الجيدة للموارد المتاحة من موارد بشرية، ومادية، وإعادة توزيعها بشكل منتظم؛ ساعد على الاستغلال الأمثل لتلك الموارد في حل الأزمة دون الاعتماد بشكل أساسي على ضخ المزيد من الموارد المالية، والتي كان من الممكن أن تُهدر أيضًا في غياب الإدارة الجيدة، وهو ما يؤكد الدور الهام لكل من الإصلاح الإداري والحوكمة لإنجاح أي منظومة.