شرفت بالتحدث فى جلسة مخصصة لقضية الهوية ضمن جلسات الحوار الوطنى، وحسنا فعل القائمون على الحوار بفتح هذه القضية الشديدة الأهمية. للهوية الوطنية مكونان صراعى ونهضوي. استغرقنا كثيرا فى المكون الصراعى للهوية، فأضعنا وقتا طويلا ونزفنا موارد كثيرة، فى حين أهملنا المكون النهضوى لهويتنا، فأهدرنا فرصا للحاق بركب الأمم المتقدمة، ومازلنا بعد قرنين من بزوغ فجر النهضة الوطنية نبحث عن سر التقدم.
طرح المصريون قضية الهوية لأول مرة فى القرن التاسع عشر، فتناولوها بطريقة جدلية مركبة ربطت بين الهوية والنهضة، إذ لا تقدم لشعب مشتت الهوية، ولا هوية لأمة متخلفة عاجزة عن أن تعيش عصرها. أدرك الآباء المؤسسون أننا تخلفنا عندما فرطنا فى هويتنا الوطنية التى بنت حضارة مصر القديمة الرائعة، وأن علينا تحقيق نهضة جديدة نحصن بها هويتنا الوطنية من هويات وجيران عانينا لقرون نزعاتهم الاستعلائية والتوسعية. هذه هى الصيغة التى طورها مؤسسو الهوية والنهضة الوطنية المصرية الحديثة، فتعززت الهوية الوطنية المصرية، بينما كانت مصر تقفز بخطوات سريعة واسعة على طريق التقدم الثقافى والسياسى والاقتصادي؛ وليس مصادفة أن رفاعة الطهطاوى هو مؤسس الفكر المصرى الحديث، وهو أول من كتب عن هوية مصر الوطنية، وأول من أطلعنا على ما يجرى فى العالم، فدعانا للحاق به، وروجت تعاليمه قيم حب الوطن والفضول المعرفى والحرية والتفكير العلمي.
بدأت نهضة مصر الحديثة عندما شرع المصريون فى إدراك أنفسهم كأمة لها هويتها الخاصة بعد قرون طويلة ذابت خلالها شخصية المصريين وهويتهم ضمن جماعات أوسع. إنها نفس القرون التى فقدت مصر فيها استقلالها، فخضعت لسلسلة طويلة من حكام أجانب متعاقبين، بدءا من الفرس والإغريق وصولا إلى الأتراك العثمانيين. طرح المصريون سؤال الهوية عندما اشتعلت فيهم الرغبة فى الاستقلال عن الحكم الأجنبى الطويل، وعندما أصبحوا مهيئين لخوض الصراع من أجل الفوز بالاستقلال الوطني. الهوية الوطنية هى شرط الاستقلال، وهى مصدر الشرعية الأخلاقية والفكرية الذى يجعل الانفصال عن الآخر أمرا محببا مرغوبا. هذا هو المكون الصراعى للهوية الذى يحشد الأمة للكفاح من أجل التمايز والانفصال والاستقلال عبر تعيين حدود الجماعة الوطنية، وتحديد من يقع داخل إطارها، ومن يقف خارجه.
إخراج الآخر الخارجى من نطاق الجماعة الوطنية واستبعاده منها هو ما يمنح للهوية مكونا صراعيا.هذا بعد ضرورى لا غنى عنه للهوية، لكن الاستغراق فيه يستنزف طاقات الأمة ويصرفها عن البناء. استغرقنا وقتا أطول من المعتاد فى مرحلة تعيين حدود الجماعة الوطنية والتمايز عن الآخر بسبب التحديات الإضافية التى واجهت هويتنا الوطنية. تعرضت هويتنا الوطنية لتحد داخلى عندما انقلب بعضنا عليها، فسخر منها، واستهان بكفاح جيل المؤسسين، وأراد العودة لتذويب هويتنا الوطنية فى نفس الإطارات القديمة التى حرمتنا الاستقلال والندية والتكافؤ لقرون طويلة. هذا هو ما فعلته جماعة الإخوان والإسلام السياسى بنا، فكانوا الآخر الذى يعيش بيننا، والعدو من الداخل الذى فرض علينا إطالة أمد صراع الهوية بدلا من تركيز الطاقات من أجل التقدم والنهضة، وعلينا الانتباه لأن الاستغراق فى هذا الصراع يحقق هدف خصوم يريدون إلهاءنا عن نهوض شامل فى مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع.
غطت حقبة الازدهار المصرى الحديث نحو قرن ونصف قرن، بلور خلالها المصريون هويتهم الوطنية، وحققوا نهضة كبيرة وضعتهم فى مقدمة شعوب المنطقة والعالم النامى فى مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة والفنون والتعليم والعمران. عززت النهضة هويتنا الوطنية، فكان كل تقدم نحققه فى المجالات المختلفة يعزز هويتنا ويزيدنا ثقة فى الذات الوطنية ويؤكد صحة اختيارنا وجدارتنا بالانتماء للعصر.
بعدها جاء زمن غالبتنا فيه التحديات. تباطأت معدلات النمو والتطوير ووتيرة اللحاق بالعصر. اتسعت الفجوة بيننا وبين الشعوب الأكثر تقدما بعد أن كنا نجحنا فى تضييقها. سبقنا على سلم التقدم بعض ممن كنا نباهيهم بتقدمنا. ضعفت الثقة فى الذات الوطنية، وفى قدرتنا على الفوز فى سباق التقدم، وفى هذا السياق يعاد طرح سؤال الهوية.
الشعوب لا تطرح هويتها للنقاش إلا فى أوقات الأزمات ومراحل التحول الكبرى. قبل الانتهاء من مهمة مواجهة التحدى الإخوانى للهوية الوطنية، دخلنا فى تحد جديد يمثله انتشار الفردية المادية والأنامالية وحلم الهجرة والافتتان بالمغريات المادية للحضارة الاستهلاكية وضعف الثقة فى الذات الوطنية. إنها التحديات التى أفرزتها العولمة وثورة الاتصالات والفردية والنزعة الاستهلاكية والتفاوت الاجتماعى المتزايد.
لم تعد آليات الاستبعاد وتعيين حدود الجماعة الوطنية كافية فى مواجهة التحدى المستجد، فالسؤال من نحن لم يعد هو المهم، بعد أن حل محله السؤال عن جدارة الانتماء للعصر والقدرة على صنع المستقبل. الانتقال بين السؤالين هو انتقال من المكون الصراعى إلى المكون النهضوى للهوية.وبينما مازال علينا تعميق الشعور بالذات الوطنية عبر تعزيز الانتماء لتاريخ الوطن وثقافته، فإن الأولوية والتركيز يجب أن ينتقل إلى تحقيق نهضة تشمل الاقتصاد والسياسة وحكم القانون والعمران والتعليم والعلوم، وإلى غرس القيم الضرورية لتحقيق ذلك.
الإجابة عن سؤال الهوية تنبع من الماضى، بينما الإجابة عن سؤال النهضة تتوجه للمستقبل. من المهم أن نعرف من أين أتينا، والأهم هو أن نكون متأكدين من الوجهة التى نذهب إليها، ومن قدرتنا على الوصول إليها سالمين. هذا هو تحدى الهوية فى عصر الاستهلاك والرقمنة وثورة التكنولوجيا.