هل تتجه النية الى تصفية بنك الاستثمار القومي؟ هذا التساؤل مطروح الآن على الساحة المصرية بشدة، خاصة بعد ان أشار صندوق النقد الدولي في اتفاقه الأخير الى ضرورة مراجعة دور البنك في الاقتصاد القومي، فضلا عن بعض التغييرات التي يشهدها البنك مثل سحب شهادات الاستثمار التي كان يصدرها وإيقافها، اعتبارا من اول فبراير 2021، بحيث انخفضت الموارد من هذه الشهادات من 491 مليار جنيه نهاية يونيو 2020 الى 59 مليارا في نهاية مارس 2023. وكان قد سبقتها تسوية أموال التأمينات لدى البنك ونقلها الى وزارة المالية في إطار التسوية التي تمت وفقا لقانون التأمينات الاجتماعية رقم 148 لسنة 2019، فضلا عن إلغاء الإعفاء الضريبي الذي كان يتمتع به البنك عند الاستثمار في اذون وسندات الخزانة، ولذلك انخفضت استثماراته في الأوراق المالية الحكومية من 347 مليار جنيه عام 2020 الى 53 مليارا في مارس 2023 وغيرها من الإجراءات التي تبدو للوهلة الأولى محاولة لتصفية البنك. وهو ما طالب به البعض واقترحوا نقل أصوله وخصومه الى صندوق مصر السيادي، نظرا لتشابه عمل الاثنين. بينما يطالب البعض الآخر بإعادة تبعيته مرة أخرى الى وزارة المالية لأن وجود البنك مستقلا عن الخزانة العامة يمثل تعدديـة في الفكر المالي الذي ينبغي ان يتوحد سواء في مجال الاستخدامات او الموارد، خاصة ان جانبا كبيرا من الإنفـــاق العـام بالموازنــــة يرتبــط بالاستثمارات التي يتولاها البنك.
وهنا يتضح لنا أن البنك يتعرض لظلم كبير في هذا النقاش نتيجة غياب الفهم والإدراك الواضح لطبيعة الدور الذي لعبه ويلعبه في المجتمع. إذ أنشىء البنك بالأساس لإعادة استغلال المدخرات المحلية افضل استغلال ممكن، ولهذا تطور استخدام فائض أموال الادخار خلال العقود الماضية بدءا من إنشاء صندوق مستقل عن الخزانة العامة، يتولى استثمار هذه الأموال وفقا للقانون رقم 419 لسنة 1955، ثم صدر القرار الجمهوري رقم 273 لسنة 1962 بالإذن لوزير الخزانة باستثمار هذه الأموال، وتم بعد ذلك إنشاء صندوق الاستثمار وفقا للقانون رقم 45 لسنة 1966، لتؤول إليه فوائض إيرادات القطاع العام وتوجيهها لتمويل الاستخدامات الاستثمارية، وبعد ذلك صدر القانون رقم 53 لسنة 1973 بشأن الموازنة العامة للدولة والذي نص في مادته رقم (21) على إنشاء صندوق استثمار الودائع والتأمينات كبديل عن صندوق الاستثمار، على أن تكون له الشخصية الاعتبارية المستقلة ويرأسه وزير المالية، ويختص بتوظيف الأموال المتاحة للاستثمار من الأوعية الادخارية وهيئات الادخار والتأمينات، وبجمع الأموال وما في حكمها، ما عدا الودائع الادخارية لدى البنوك. ثم صدر القرار الجمهوري رقم 1743 لسنة 1974 والذي اعتبر صندوق استثمار الودائع والتأمينات هيئة عامة يديرها مجلس إدارة برئاسة وزير المالية على أن يستثمر هذه الأموال في تمويل المشروعات الاقتصادية وإقراض الجهات الداخلة في الموازنة العامة. وقد استمر صندوق استثمار الودائع والتأمينات في أداء مهامه إلى أن صدر القانون رقم 119 لسنة 1980 بإنشاء بنك الاستثمار القومي، والذي آل إليه رصيد هذا الصندوق والبالغ 3848 مليون جنيه في ذلك الوقت، وبدأ نشاطه اعتبارا من السنة المالية 1980/1981.
وهنا يتعين الوقوف على حقيقة الدور الذي يلعبه البنك في المجتمع، إذ إنه ووفقا للمادة الثانية من قانون إنشائه يقوم بتمويل جميع المشروعات المدرجة في الخطة العامة للدولة، وذلك عن طريق الإسهام في رءوس أموال تلك المشروعات أو عن طريق مدها بالقروض أو غير ذلك من الوسائل. ومتابعة تنفيذ تلك المشروعات مكتبيا وميدانيا. يضاف الى ذلك استخدام الأوعية الاستثمارية في أغراض الاستثمار.
وهكذا ووفقا لهذه الأحكام، فقد قام البنك باستخدام فائض أموال كل من صندوقي التأمينات، وحصيلة توفير البريد وشهادات الاستثمار، في تمويل الأغراض التنموية بالبلاد، وتحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية للدولة عن طريق تحسين البنية الأساسية والمادية وتوفير البيئة المناسبة لانطلاق العملية الإنتاجية. وأسهم فى العديد من مشروعات البنية الأساسية من طرق وكباري وصرف صحي وخلافه. فضلا عن تمويل مشروعات خدمية وإنتاجية وتوفير القروض الميسرة لمشروعات استصلاح الأراضي والإسكان الاقتصادي، والمساهمة في رؤوس أموال العديد من الشركات الاستراتيجية المهمة، من أهمها الأسمدة والغاز والبتروكيماويات والسكر والاسمنت وتكنولوجيا المعلومات، بالإضافة الى مؤسسات مالية مصرفية وغير مصرفية. ناهيك عن تمويل الهيئات الاقتصادية، والمشروعات التصديرية والمناطق الصناعية، بالإضافة إلى ما يقرضه البنك للشركات القابضة والوحدات التابعة لها، سواء الخاضعة للقانون رقم 203 لسنة 1991، أو غير الخاضعة له، وكذا الشركات المشتركة والخاصة.
وتكمن المشكلة الأساسية في كون هذه المشروعات إما أنها لاتدر عائدا ماليا يتناسب مع المنفق عليها، أو أنها لاتدر أي عائد مالي على الإطلاق، رغم أهميتها الاقتصادية أو الاجتماعية. حيث يلتزم البنك في أحوال كثيرة بتمويل مشروعات غير ذات مردود مالي، رغم ارتفاع العائد الاجتماعي والاقتصادي لها، مما يزيد من تكلفة القروض التي يتحمل بها والذي يحملها بدوره إلى الخزانة العامة للدولة، وهذا أمر طبيعي ومنطقي ومرغوب فيه أيضا، نظرا لما يعنيه من تزايد في استخدام المدخرات المحلية طويلة الأجل لتمويل الاستثمارات العامة للدولة. إذ إن التمويل الأفضل للاستثمارات يجب أن يأتي أساسا من المدخرات طويلة الأجل، وهي بالأساس ودائع صناديق الادخار والمعاشات بالإضافة إلى الودائع طويلة الأجل لدى الجهاز المصرفي. أما الموارد السيادية والجارية للدولة فهي تقوم بالأساس بتمويل الإنفاق الجاري في الموازنة والمتمثل في الأجور والدعم وأعباء المعاشات …الخ.
من هنا كان من الضروري أن يضطلع بنك الاستثمار بدوره الاستثماري ولكن بطريقة اقتصادية تضمن له الحصول على عائد مربح، وتمكنه من سداد الديون المستحقة عليه لهذه الأوعية الادخارية، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه في ظل الوضع القائم. من هذا المنطلق أصبح من الضروري العمل على إعادة هيكلة البنك بحيث يصبح أحــد بنـــوك الاستثمار، مع العمل على حل التناقض مع الصندوق السيادي بتحديد مهام كل منهما على وجه التحديد. وان يتخذ الإجراءات اللازمــة للتسجيل لدي البنك المركزي المصري، ويخضــع تبعا لذلك لإشرافه ويلتزم بمعايير الأداء والجـدارة الائتمانية ومعايير السيولة والاحتياطات وغيرها من المعايير المصرفية اللازمة.