في 3 أغسطس 2023، نظمت مجموعة أحزاب الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، برئاسة عضو الكنيست “يوراي لاهاف هيرتزانو” زيارة إلى تايبيه – تايوان، استمرت لمدة أسبوع؛ لإحياء ذكرى افتتاح المكاتب التمثيلية بين إسرائيل وتايوان بعد مرور 30 عامًا على التعاون.
حسب بيان وزارة الخارجية التايوانية (الذي استقبلت الوفد الإسرائيلي) فإنّ الطرفين يتبادلان وجهات النظر حول قضايا إقليمية، وملف التنمية السياسية، والاقتصادية. وتعهد الطرفان بتعميق العلاقات المشتركة، وخاصةً في المجال التجاري، والأمن الدفاعي.
أولًا: إسرائيل-تايوان.. تجارة التكنولوجيا
حفاظًا على استمرار العلاقات الإسرائيلية-الصينية، فضلت الحكومات الإسرائيلية اقتصار علاقاتها مع تايوان على المجالات التجارية، والثقافية فقط دون تمثيل دبلوماسي رسمي، وهو ما لاقى موافقة صينية مشروطة بالالتزام بهذه الطبيعة في العلاقات.
وبالنظر إلى تاريخ العلاقات التجارية بين إسرائيل وتايوان، يتبين أنها تتميز بصفتين: (1) عميقة، مقارنة بنسبة التجارة المشتركة بين إسرائيل واليابان على سبيل المثال. إذ تبلغ قيمة التجارة المتبادلة بين الطرفين معدل ما يزيد عن 3 مليارات دولار (3.3 مليار)، في حين لا تزيد التجارة الإسرائيلية مع اليابان أكثر من 2 مليار ونصف مليار دولار.
طالما كان الميزان التجاري بين إسرائيل وتايوان لصالح الأخيرة، إلا أنه لم تقفز الصادرات الإسرائيلية إلى تايوان على الواردات إلا في فترتين زمنيتين فقط، كانت الأولى في 2004، والثانية في الوقت الحالي في 2022 و2023 (كما هو موضح في الصورة رقم 1).
رسم بياني يوضح أرقام الصادرات الإسرائيلية إلى تايوان، والواردات. (صورة رقم 1)
إعداد: الباحث، وفقًا لبيانات وزارتي التجارة الإسرائيلية والتايوانية، والمراكز البحثية الإسرائيلية.
(2) نوعية للغاية، إذ تتركز التجارة بين إسرائيل وتايوان على تجارة المنتجات ذات الطابع التكنولوجي الفائق، أي تجارة الرقائق، والدوائر الكهربية، والبطاقات الذكية smart cards (كما هو موضح في الصورة رقم 2)
على مدى العقود الثلاثة الماضية، وقعّت تايوان وإسرائيل 32 اتفاقية، تغطي مجالات مثل التكنولوجيا، والرعاية الصحية، والفضاء.
ومن خلال قراءة قائمة الصادرات الإسرائيلية الفعلية إلى تايوان، والمحتملة في 2024، يتبين التالي:
*أنّ الأجهزة البصرية الداخلة في صناعة أشباه الموصلات، وصناعة الساعات، والتصنيع الطبي يتجاوز 619 مليون دولار من مجمل الصادرات الإسرائيلية. علاوة على أنّه من المتوقع أن يزيد هذا الرقم ليصل إلى مليار و200 مليون دولار (1.2 مليار).
*أنّ المنتجات المتعلقة بالرقائق، والدوائر الكهربية، والبطاقات الذكية الداخلة في صناعة الأجهزة المنزلية تصل نسبتها إلى 155 مليون دولار، ومن المحتمل أن تصل إلى 216 مليون دولار.
*أما المنتجات الكيميائية، والصيدلانية فمن المرجح أن تحتل مرتبة متقدمة في قائمة الصادرات الإسرائيلية إلى تايوان، ليصل مجموعها المتوقع 300 مليون دولار.
رسم بياني يوضح نسب توزيع الصادرات الإسرائيلية من مجمل التجارة المتبادلة مع تايوان (صورة رقم 2)
المصدر: مؤشر التجارة العالمي
**يمكن القول في هذا السياق، إنّ تجارة التكنولوجيا الفائقة، وخاصةً في مجال الرقائق، وأشباه الموصلات هي المحدد الأول، والأساسي في العلاقات الإسرائيلية التايوانية خاصة في مجال التجارة.
ثانيا: التطلعات الإسرائيلية مع تايوان
يبدو أن إسرائيل تتطلع إلى مرحلة جديدة في طبيعة العلاقات مع تايوان. يمكن تقدير طموحات إسرائيل مع تايوان وفق الأبعاد التالية:
- تعاون تكنولوجي مؤسسي
حسب تصريحات رئيس الوفد الإسرائيلي الزائر إلى تايوان، قال: “ستكون إسرائيل سعيدة إذا سعت تايوان إلى توسيع تعاون شركاتها الخاصة في مجال صناعة الرقائق، وأشباه الموصلات مع الشركات الإسرائيلية، وتتطلع إسرائيل أن تفتتح تايوان مركزًا للأبحاث والتطوير”. وردّت الرئيسة التايوانية: “من الآن فصاعدًا، آمل أن نتمكن من الاستفادة من صناعاتنا التكميلية لبناء سلاسل توريد أكثر أمانًا ومرونةً”.
جدير بالإشارة إلى أنّ شركة تايوان لصناعة أشباه المواصلات الأكبر في تايوان والعالم، والتي تسيطر تقريبًا على 90% من التجارة المباشرة، وغير المباشرة في مجال صناعة الرقائق، وأشباه الموصلات بالتحديد، تعتزم افتتاح فرع لها في أريزونا-الولايات المتحدة؛ للاستفادة من التشريع الأمريكي الأخير، الذي من ضمن بنوده استثمار أكثر من 50 مليار دولار في تلك الصناعة وتوطينها.
- احتمال استثمار تايوان في الصناعات الدفاعية الإسرائيلية
حضرت وزيرة الشئون الرقمية “أودري تانج” (والتي حضرت أيضًا اجتماع وفد الكنيست الإسرائيلي) إسرائيل هذا العام لحضور مؤتمر “سايبر ويك” وتحدثت عن دفاع واستراتيجية الأمن السيبراني في تايوان. عطفًا على ذلك، كان قد أعلن مدير هيئة الإنترنت الوطنية الإسرائيلية عن تدشين مشروع “القبة الحديدية السيبرانية الإسرائيلية” بالتعاون مع دول الاتفاق الإبراهيمي، والولايات المتحدة، ودولًا أخرى ترغب في التعاون.
بالنظر إلى استراتيجية تايوان الوطنية للأمن السيبراني (2021 – 2024)، يُلاحظ تضمين سياسة إسرائيل للأمن السيبراني ضمن تفاصيل الاستراتيجية الوطنية. كما تمت الإشارة إلى أنّ تايوان ستستقطب التطبيقات العسكرية، والمدنية من حول العالم في مجال الأمن السيبراني. وعليه، يبدو أنّ إسرائيل ترغب في تقديم تطبيقها العسكري “القبة السيبرانية” لتايوان.
وفقًا لتقرير صدر عام 2022 عن مشروع المجتمع الرقمي، وهو مشروع تابع للمعهد السويدي أصناف من الديمقراطية، فقد صنفت تايوان كأكبر هدف للمعلومات المضللة الأجنبية في العالم على مدار العقد الماضي تقريبًا. ويقول السياسيون والباحثون التايوانيون: إنّ غالبية تلك الهجمات تنطلق من الصين، وتضاعفت بعد زيارة “نانسي بيلوسي” من الكونجرس الأمريكي إلى تايبيه-تايوان العام الماضي.
وفي تايوان في يوليو 2023، اجتمع المهندس الرئيسي السابق في نظام القبة الحديدية الإسرائيلية “جاكوب نيجل” مع مسئوليين عسكريين من الجيش التايواني، وبحسب موقع أكسيوس كان نيجل يشرح للمسئولين التايوانيين كيفية عمل القبة الحديدية، وصدها للطائرات بدون طيار. يتناسب ذلك مع التقارير التايوانية التي تفيد تزايد ظاهرة اختراق الطائرات الصينية بدون طيار المجال الجوي لتايوان.
- احتمال استثمار تايوان في الصناعات الدفاعية الإسرائيلية غير المأهولة
تتمتع تايوان بوصول محدود إلى سوق الأسلحة؛ بسبب علاقاتها الدبلوماسية المحدودة. في أغسطس 2019، أفيد أن تايوان كشفت عن طائرة بدون طيار مطورة حديثًا، تشبه إلى حد كبير الطائرة بدون طيار الإسرائيلية، هاربي. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يعرض فيها التايوانيون شيئًا يكاد يكون نسخة طبق الأصل من منتج إسرائيلي.
أما في المجال البحري، فتعاني تايوان من ثغرة أمنية حرجة، تعرضها لاحتمال شن الصين هجمات بحرية على كابلات الإنترنت البحرية الخاصة بتايوان؛ مما يتسبب بأن تواجه الأخيرة انقطاعًا تامًا في الإنترنت، وبالتالي عدم قدرتها على شن هجمات سيبرانية على الصين.
يُفسر ذلك، إعلان تايوان (في أغسطس 2023) عن غواصة بحرية غير مأهولة “Lei Tiger” لمهام المراقبة والاستطلاع؛ بهدف تأمين الكابلات البحرية التايوانية. وبحسب تصريحات مسئولي شركة “Ocean TechHub” المطور التايواني للغواصة المشار إليها، فتتطلع إلى التعاون مع القوة الامريكية التابعة للقيادة المركزية سنتكوم في الشرق الأوسط، المتخصصة في التطبيقات العسكرية غير المأهولة، باستخدام الذكاء الاصطناعي، وجدير بالإشارة إلى أنّ الشركات الإسرائيلية المتخصصة في تلك التطبيقات هي مطورة أساسية، وشريكة مع الجيش الأمريكي.
ثالثا: الأبعاد الجيواستراتيجية لإسرائيل
يمكن أن يُثار السؤال حول مدى تأثير الطموحات الإسرائيلية الجديدة مع تايوان، على استقرار علاقتها مع الصين؟، يمكن عرض الأبعاد الجيواستراتيجية التي تملأ ذهن صانع القرار الإسرائيلي، وهي:
- قانون الرقائق الأمريكي:
فرض القانون الأمريكي الذي تم تشريعه في أغسطس 2022، طابعًا سياسيًا جادًا على سلاسل الإمداد والتوريد الخاصة بصناعات الرقائق بشكل عام، وأشباه الموصلات بشكل خاص، التي تنتهي في الموانئ الصينية. وشدّد القانون على ما يمكن اعتباره “خلق سلاسل بين الدول الديمقراطية”، أي فرض قواعد الديمقراطية على مؤشر اقتصادي بحت، وهي سلال الإمداد.
لذلك تحاول إسرائيل أن تنضوي تحت المؤشر الجديد للديمقراطية حسب الرواية الأمريكية، وهي سلاسل الإمداد الخاصة بأشباه الموصلات، في محاولة منها للترويج أمام المؤسسات الأمريكية، بالتزام إسرائيل بالقيم الديمقراطية، وهو ما انعكس في تصريحات المسئولين الإسرائيليين أثناء زيارتهم إلى تايوان، بأنّ حكومة نتانياهو ترغب في استحضار القيم الديمقراطية لتعميق تعاونها مع تايبيه.
- الهرب من حرب الرقائق بين الصين وأمريكا:
في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، التي نُشرت في أكتوبر 2022، سلطت الولايات المتحدة الضوء على المنافسة متعددة الأبعاد مع الصين، والحاجة إلى منع الصين من أن تصبح أقوى، وتهديد الاستقرار العالمي، لا سيما في سياق التكنولوجيا المتقدمة وأشباه الموصلات، بما في ذلك عن طريق الحد من وصولها إلى الرقائق.
وعليه، فإن الوثائق الرسمية الأمريكية، وقوانينها تدعو دول العالم، بما فيها حلفاء الولايات المتحدة على وجه الخصوص، مراجعة شراكاتها مع الشركات الصينية، وسلاسل إمدادها، وتوريدها تجنبًا للعقوبات الأمريكية.
تشجع الولايات المتحدة القارة الأوروبية لعقد ما يمكن تسميته بـ “تحالف الرقائق”، عبر سن تشريعات تحظر التعامل مع الصين، أو على الأقل خلق بدائل أخرى، وهو ما انعكس بالفعل بعد إطلاق قانون الرقائق الأوروبي في فبراير 2023، الذي لا يتضمن قيودًا تجارية على الصين، لكنه ينص صراحة على أنّ الاتحاد الأوروبي سيكون جزءًا من سلسلة التوريد بما في ذلك الولايات المتحدة، واليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وتايوان.
- الانحياز الرقمي للولايات المتحدة على حساب الصين:
طالما كانت الولايات المتحدة تضغط على إسرائيل بتخفيض علاقاتها مع الصين، وقصرها على العلاقات التجارية البسيطة دون الانخراط في علاقات دفاعية وأمنية. وطالما سعت إسرائيل لموازنة استراتيجية في علاقاتها بين الصين والولايات المتحدة.
ولكن يبدو أن هناك مؤشرًا متناميًا بين إسرائيل وتايوان، يمكن إدراجه وسط حسابات مستقبلية لقياس العلاقات الإسرائيلية الصينية، لا يمكن الجزم بها في الوقت الحالي، باعتبار أنّ نتانياهو يتحضر لزيارة محتملة إلى الصين، وأخرى إلى الولايات المتحدة.
ولكن على المستوى التكنولوجي الرقمي، يبدو أنّ إسرائيل تنحاز رويدًا رويدًا إلى التحالف الغربي للرقائق، في حال اتسعت الاستثمارات المتبادلة بين إسرائيل وتايوان.
ختامًا، يمكن القول إن حرب الرقائق بين الولايات المتحدة والصين أصبح لها محددان أساسيان، المحدد الأول هو العنصر القيمي والأخلاقي، أي الامتثال لتحالف الدول الديمقراطية. والمحدد الثاني هو المحدد الجيواستراتيجي، الذي يعني هندسة سلاسل إمداد وتوريد جديدة لأشباه الموصلات، يقودها تحالف بقيادة الولايات المتحدة.
ترغب إسرائيل في البحث عن وضعها على خريطة هذه العلاقات الدولية الجديدة، التي قد تتحدد وفق نتائج حرب الرقائق، من خلال المطور الأول لأشباه الموصلات، وهي تايوان.
باحث بوحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية