بدأت «المنظمة الصهيونية» بعد أن أنشأت مؤسساتها الرئيسية، فى فتح المجال أمام كل مناصرى الصهيونية حول العالم، لتقديم كل الدعم الممكن من أجل قيام وطن قومى يهودى فى فلسطين، من خلال تحويل هذا الدعم بأشكاله المتنوعة إلى وقائع على الأرض، تخدم حلم إقامة «دولة إسرائيل». لذلك وفى غضون أحداث الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، قام «حاييم وايزمان» الذى كان يشغل حينذاك منصب «رئيس الاتحاد الصهيونى البريطاني» بداية 1918 قبيل انتهاء الحرب، بتشكيل اللجنة الصهيونية المعنية بدراسة «حالة فلسطين» وتقديم التقارير التى تصدرها للحكومة البريطانية. وأعاد وايزمان هيكلة مكتب فلسطين ليشمل أقسام (الاستيطان، الأراضى، الهجرة، المالية، التعليم، الإحصاء)، مما سمح له بعد أن تولى منصب رئيس المنظمة الصهيونية العالمية عام 1920، للتعامل مع تلك الأقسام باعتبارها بنية تحتية لـ«دولة تحت التأسيس».
هذه النقلة النوعية، تعد إحدى اللبنات الرئيسية لإنشاء دولة إسرائيل، ويعود الفضل فى إنفاذها إلى عقلية وايزمان التنظيمية، التى استشرفت بأن التحركات التى تجرى فى عواصم العالم المختلفة وفى فلسطين ذاتها، لن تحقق حلم قيام الدولة دون أن تمتلك الأخيرة بنية إدارية تحتية جاهزة للدوران فور الوصول للحظة الانطلاق. كما اكتسبت هذه الأقسام التى بمثابة الوزارات فى الواقع خبرات متراكمة، امتدت من 1920 وحتى 1948، مما جعلها بالفعل وفق وقائع التاريخ تبدأ العمل كوزارات مسئولة قبل هذا التاريخ بسنوات على هامش فترة «الانتداب البريطانى»، الذى كان يحكم ويدير دولة فلسطين. تلك النقلة المؤسسية لم تكن إنجاز حاييم وايزمان المحورى الوحيد، فقد حرص على استثمار جنسيته البريطانية، بتوثيق علاقات امتدت طويلا مع شخصيات نافذة داخل الحكومة البريطانية، أشهرهم ديفيد لويد جورج الذى تولى رئاسة الوزراء، وآرثر جيمس بلفور الذى تولى حقيبة الخارجية، وونستون تشرشل وآخرون.
وعبر تلك العلاقات الوثيقة، تمكن وايزمان من انتزاع «وعد بلفور» عام 1917، الذى مثل حينها ثمرة لجهود مناصرى الصهيونية داخل الحكومة البريطانية. اكتسب «وعد بلفور» أهميته وتأثيره؛ فى مسألة قيام دولة إسرائيل عندما تم إدراجه ضمن صك «الانتداب البريطانى» على فلسطين الصادر من عصبة الأمم، مما عنى حينها أن القانون الدولى بات يضمنه ويحصنه. الوعد جاء على شكل رسالة قصيرة صدرت بتاريخ 2 نوفمبر 1917، موجهة من وزير الخارجية البريطانى اللورد «آرثر جيمس بلفور» إلى رئيس الجالية اليهودية فى بريطانيا اللورد «ليونيل وولتر دى روتشيلد»، بعد موافقة مجلس الوزراء، فجاء نصها على النحو التالى: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين، وستبذل أقصى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بأى عمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى أى بلد آخر». كانت الحرب العالمية الأولى تمثل ذروة المشهد السياسى الدولى الذى صدر الوعد فى غضونه، فيما كانت بريطانيا وفرنسا تخططان للاستيلاء على الأراضى العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية بعد الحرب.
فقد جرى بينهما اتفاق تقسم بمقتضاه المناطق العربية، بحيث يكون كل من سوريا ولبنان تحت السيطرة الفرنسية، بينما يخضع العراق وشرق الأردن وجزء من فلسطين يشمل (حيفا وعكا والمنطقة الممتدة من غزة إلى البحر الميت بما فيها صحراء النقب) للسيطرة البريطانية، على أن تكون باقى فلسطين التى تشمل القدس تحت إدارة دولية. وقع البلدان على تلك الاتفاقية سرا فى 1916، ولم يتم الإعلان عنها جزئيا إلا 1917 بعد اندلاع الثورة الروسية، فقد كان هناك تعهد بريطانى سرى آخر مع الشريف حسين أمير مكة، بأنها ستدعم الاستقلال العربى عن الخلافة العثمانية بعد انتهاء الحرب. لتأتى تفاعلات الحرب العالمية فتحمل القوات البريطانية على دخول القدس والاستيلاء عليها فى ديسمبر 1917، وتستكمل بعدها احتلال كامل فلسطين أكتوبر 1918 وتفرض عليها حكومة عسكرية، لتضرب بكلتا الاتفاقيتين عرض الحائط وتمضى قدما فى حصاد مكاسب الحرب التى انتصرت فيها.
لاحقا أسس «مؤتمر باريس للسلام» 1919 «عصبة الأمم»؛ وأدخل إلى القانون الدولى مفهوم الوصاية الذى صار معروفا باسم «نظام الانتداب»، حيث فسرت (المادة 22) من ميثاق عصبة الأمم الانتداب، كونه خضوع أراضى الدول المهزومة لـ«وصاية الدول المتقدمة» بالنيابة عن عصبة الأمم، إلى أن تتمكن من حكم نفسها بنفسها، كما اعترفت نفس المادة بأن المقاطعات العربية «دول مستقلة» خاضعة للمساعدة الإدارية من قوة الانتداب.
أمام نفوذ بريطانيا العظمى المتنامى بعد خروجها منتصرة فى الحرب العالمية الأولى، تم منحها بمؤتمر سان ريمو أبريل 1920 الانتداب على كامل فلسطين وشرق الأردن والعراق. اشتمل صك الانتداب على فلسطين حينها على ديباجة و28 مادة؛ ووافق عليه مجلس «عصبة الأمم»، وقد أكدت الديباجة التزام بريطانيا بـ«المشروع الصهيونى» مستخدمة ذات عبارات «وعد بلفور» ! وأضافت بريطانيا المنتصرة حينها لصك الانتداب حجية لم ترد فى وعد بلفور، وهى اعترافها بـ«الصلة التاريخية» التى تربط الشعب اليهودى بفلسطين. فى الوقت الذى تكرر فى الديباجة أكثر من مرة الإشارة إلى السكان الأصليين لفلسطين، باعتبارهم «الطوائف غير اليهودية» وهذا يشمل المسلمين والمسيحيين الذين كانوا وفق التعداد البريطانى المعتمد 1922 يمثلون 90% من السكان. رغم ذلك تم تكريسهم داخل مسمى «الطوائف»؛ وأفردت لهم مجموعة من المواد، أشارت لمبدأ عدم الانتقاص من حقوقهم المدنية والدينية، ليس باعتبارهم شعبا أصليا يحق له تقرير مصيره، إنما بتأكيد كونهم «طوائف» طوال الوقت، وفى مختلف نصوص مواد «صك الانتداب» البريطانى.