هناك وجهة نظر ترى أنه من السابق لأوانه الحديث الآن، وبشكل مفصل عن مستقبل غزة، فالحرب لا تزال دائرة. ورغم الهدن الإنسانية، فإن هناك تصميما إسرائيليا على العودة للقتال مرة أخرى، وبالتالى من الصعب تحديد ملامح المستقبل، ونحن لا نعرف بعد النتيجة والمحصلة النهائية للحرب، وكيف سيتم تحديد الرابح والخاسر، وكيف سيكون شكل الواقع على الأرض عندما تنتهى هذه الحرب.
والفكرة السابقة وجيهة تماما، ولكن هناك وجهة نظر أخرى، أطرحها فى هذا المقال، وتستند إلى فكرة أن العديد من الدول ومراكز الفكر العالمية بدأت تطرح رؤى وسيناريوهات لمستقبل غزة، وأن بعض قادة الدول الذين يقدمون هذه المقترحات قد جاءوا إلى العواصم العربية لمناقشتها مع المسئولين العرب.
وبالتالى فإن هذا التطور يتطلب منا معرفة الأفكار التى يطرحها الآخر والاشتباك معها، وطرح مجموعة او المعايير الخاصة بنا، و التى قد تتفق او تختلف مع الأفكار التى تأتى إلينا من الخارج، وبالتأكيد تعكس فى المقام الأول مصالحنا القومية.
وفى ضوء الواقع الذى نراه حتى الآن، ومصالحنا القومية، والمطروح على الساحة من أفكار، يمكن طرح المعايير التالية للتعامل مع مستقبل غزة.
أولا: لا يمكن القبول بعودة احتلال إسرائيل لقطاع غزة مرة أخرى، حتى لو كان لفترة قصيرة أو انتقالية، والواقع أن فكرة عودة الاحتلال أصبحت تتردد بقوة داخل تيار اليمين الإسرائيلى المتطرف، بل يطالب البعض بعودة الاستيطان فى غزة. وهناك إرهاصات لرغبة إسرائيلية فى استمرار احتلال قطاع غزة لفترة من الزمن بعد توقف القتال، منها قيامها بتدمير شبه كامل لشمال غزة، وتهجير سكانه إلى الجنوب لهدف عسكرى هو تقليل اى مقاومة فى أثناء وجودها المستقبلى بالشمال، وهو ماظهر أيضا فى رفضها عودة سكانه فى أثناء الهدنة الإنسانية، وتحذيرهم من أنها لاتزال منطقة حرب لا يجب العودة إليها. وتقوم الفكرة الإسرائيلية بشأن تدمير البنية التحتية فى الشمال، على انه حتى لو توقف القتال فستكون هناك استحالة فى عودة السكان لمناطق دمرت فيها المساكن والخدمات.
ومن الأرجح، أن تستخدم إسرائيل احتلالها غزة كورقة للتفاوض سواء لإطلاق المزيد من الرهائن خاصة العسكريين منهم، أو ضمان عدم مشاركة حماس فى أى ترتيبات لإدارة قطاع غزة فى المستقبل.
وبالتالى ورغم كل هذه الخطط الإسرائيلية، فمن المهم التأكيد كأحد المعايير المصرية على عدم قبول عودة إسرائيل لاحتلال قطاع غزة، أو تقليص مساحته من خلال إيجاد مناطق أمنية إسرائيلية داخل القطاع، وعلى حدودها معه، وضرورة انسحاب إسرائيل الكامل من القطاع.
ثانيا: أى أفكار تتعلق بمستقبل غزة لابد أن تتضمن وضع نهاية للحصار الإسرائيلى للقطاع، وإعادة تشغيل المطار والميناء، وبما يسهم فى عودة الحياة الطبيعية لسكان القطاع، ويحرك عجلة الاقتصاد به.
ثالثا: لابد من التعامل بحذر مع الأفكار المتعلقة بتدويل قطاع غزة. وبالتأكيد قد تكون هناك فرصة للذهاب لمجلس الأمن وإصدار قرار حول القضية الفلسطينية ككل وليس قطاع غزة فقط، وبشكل يستهدف الاعتراف بدولة فلسطينية، فى إطار حل الدولتين، وعلى حدود ما قبل ٥ يونيو ١٩٦٧.
ولكن يجب أن يكون هناك حذر من بعض الأفكار التى أصبحت تتردد فى عدد من العواصم الغربية، باللجوء إلى قرارات دولية تتعلق بإدارة قطاع غزة فى المستقبل، وتحديد ترتيبات الحكم ومن الذى يتولى الإدارة. ولدينا تجارب سابقة فى العالم العربى توضح فشل مثل هذا التدخل الدولى فى تحديد ترتيبات الحكم، وتعيين مبعوثين دوليين أسهموا فى تعقيد المشكلات أكثر من حلها، وأصبح تعديل هذه القرارات الدولية يتطلب توافقا لم يعد موجودا، وبالتالى دخلت هذه التجارب فى ورطة دائمة، تحقق مصالح الأطراف الخارجية ولا تحل المشكلة.
رابعا: عند التفكير فى ترتيبات أمنية للقطاع، فمن الوارد التفكير فى وجود قوات دولية لحفظ السلام سواء قوات للأمم المتحدة (ما يسمى المناطق الزرقاء على الحدود كما فى حالة لبنان)، او قوات متعددة الجنسيات، ولكن من الصعب القبول بوجود مثل هذه القوات الدولية، واستمرار دور لإسرائيل فيما يتعلق بأمن غزة.
كذلك من المهم الحذر من سعى بعض الدول لإيجاد مساحات للنفوذ لها داخل قطاع غزة من خلال إعلان رغبتها فى المشاركة بقوات متعددة الحنسية او ضمان لترتيبات إدارة القطاع، وبما يمس باعتبارات الامن القومى المصرى.
خامسا: أى ترتيبات تتعلق بمستقبل قطاع غزة سوف يكون مصيرها الفشل إذا لم يتم ربطها بترتيبات الحكم فى الضفة الغربية، وإذا لم تكن جزءا من رؤية شاملة لحل القضية الفلسطينية، تقوم على إنشاء دولة فلسطينية. ومن ثم فإن طرح الأفكار المتعلقة بقطاع غزة يجب أن يرتبط بطرح رؤية للتسوية الشاملة ليس فقط للقضية الفلسطينية ولكن الصراع العربى الإسرائيلي، وأهمية عودة الربط بين الأمرين.
والتسويه الشاملة وإنشاء دولة فلسطينية ليست بالمستحيلة، وهناك الكثير من الأفكار المطروحة، ومنها ما أشار إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى والمتعلق بدولة فلسطينية منزوعة السلاح وبترتيبات أمنية دولية. وهناك أفكار خلاقة أخرى تتعلق بقضية القدس واللاجئين والمستوطنات وغيرها. ومن المهم ألا يكتفى المجتمع الدولى بمجرد الحديث عن إنشاء دولة فلسطينية، ومن الضرورى إنشاء مسار جاد وخريطة طريق للوصول لذلك.