توصلت القيادة السورية العامة بقيادة أحمد الشرع، في 24 ديسمبر 2024، إلى اتفاق مع بعض قادة الفصائل المسلحة التي شاركت في إسقاط الأسد، يقضي بحل المليشيات العسكرية، ودمجها تحت مظلة وزارة الدفاع التي تولى حقيبتها القيادي في هيئة تحرير الشام “مرهف أبو قصرة” المعروف باسم “أبو حسن الحموي”. ويمثل حصر السلاح بيد الدولة الرسمية أهم متطلبات المرحلة الانتقالية السورية. بيد أن ثمة تحديات جوهرية تواجه عملية تفكيك سلاح الفصائل، فبالإضافة إلى انتشار مظاهر التسلح على نطاق واسع في عموم المناطق السورية، ففي رؤية بعض المليشيات السورية فإن الاستمرار في تعزيز قدراتها العسكرية وحيازة السلاح يمثل مدخلًا مهمًا سواء لتأمين نفوذها أو تأمين مكاسبها. وفي ضوء ذلك، فإن ثمة تساؤلًا مطروحًا بشأن إمكانية ضبط سلاح الفصائل المسلحة، ومدى استجابتها للتخلي عن ترسانتها التسليحية.
مظاهر التسلح
ثمة العديد من المؤشرات التي تكشف عن تفشي انتشار السلاح في سوريا بصورة لافتة، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
حيازة الفواعل الرئيسية ترسانة تسليحية ضخمة: تمتلك بعض الفصائل السورية قدرات تسليحية ضخمة، من بينها “إدارة العمليات العسكرية”، و”فجر الحرية”، وكلاهما يضم مجموعة واسعة من الفصائل والكتائب المسلحة، ففي الأولى يوجد “هيئة تحرير الشام”، و”فيلق الشام”، و”جيش الأحرار”، و”حركة أحرار الشام”، و”جيش العزة”، و”الجبهة الشامية”، وحركة نور الدين الزنكي التركستانية، وفصائل “الجبهة الوطنية للتحرير”. فيما الثانية تمثّل تحالفًا من مجموعة فصائل مسلحة مدعومة من تركيا، منها “الجيش الوطني السوري” المكوّن من مجموعة فصائل كانت تشكل الجيش السوري الحر سابقًا، و”فرقة السلطان مراد”، و”فرقة السلطان سليمان شاه”، و”فرقة الحمزة”، و”جيش الإسلام” وفصائل “الجبهة الشامية”.
تنامي القدرات التسليحية للأكراد: ينتشر السلاح بصورة كبيرة في شمال وشرق الفرات بين وحدات حماية الشعب الكردية، والتي يبلغ تعداد عناصرها نحو 50 ألف مقاتل، مزوّدة بأسلحة أمريكية متقدمة وعربات وأسلحة خفيفة ومتوسطة، ومقسمة إلى كتائب عسكرية وقوى أمنية.
تفشي السلاح بيد المواطنين والعصابات الإجرامية: كشفت العديد من التقديرات والتقارير الإعلامية عن تفشي السلاح بيد المواطنين السوريين والعصابات الإجرامية، بعد سقوط الأسد في 8 ديسمبر 2024، حيث ترك عناصر الجيش السابق معدات عسكرية وذخائر على الطرقات وفي الأماكن العامة، وتم العثور على كميات هائلة من الذخيرة ومعدات عسكرية متنوعة، تشمل معدات ثقيلة ومتوسطة وخفيفة، في المستودعات وعلى أطراف الطرق.
انتشار السلاح بيد الأقليات الدينية: تشير بعض الاتجاهات إلى أن بعض المكونات الدينية السورية، خلال الفترة الأخيرة مع تصاعد العمليات الانتقامية لجيش الأسد ضد خصومه المحليين، بجانب النزعة الانتقامية للتنظيمات الإرهابية من الأقليات الدينية غير المسلمة، سعت إلى حيازة السلاح للدفاع عن نفسها وحماية أبناء الطائفة. ومع سقوط نظام الأسد، سعت هذه الأقليات الدينية والعرقية لتأمين قدر وافر من السلاح خوفًا من التوجهات المتشددة لهيئة تحرير الشام والفصائل الموالية لها، والتي تحمل توجهات عدائية ضد الأقليات التي تتباين مع توجهاتها العقائدية والسياسية. وفي ضوء ذلك، يمكن فهم انتشار السلاح مثلًا في أوساط الطائفة الدرزية في السويداء والتي أسست فصائل مسلحة عدة من بينها حركة “رجال الكرامة” و”رجال الشيخ وحيد البلعوس”، ومُهمتها تأمين وحماية عناصر الطائفة.
تحديات قائمة
برغم تأكيد الشرع أنه لن يسمح بأي حال من الأحوال بوجود أسلحة خارج سيطرة الدولة، سواء من الفصائل الثورية أو الفصائل في مناطق قوات سوريا الديمقراطية، إلا أن ثمة تحديًا هائلًا بشأن ضبط السلاح السائب، ووقف استخدامه العشوائي. ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
انفراد “هيئة تحرير الشام” بالحكم: أبدت قوى سياسية سورية، من بينها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والمجلس الوطني السوري، وكذلك بعض التنظيمات المسلحة القريبة من الكيانات المدنية، مثل الجيش الوطني السوري، رفضًا ضد هيمنة أحمد الشرع على مفاصل المشهد السوري، واتخاذ قرارات استراتيجية من دون التشاور، خاصة ما يتعلق بإعادة بناء المنظومة العسكرية الرسمية. وتجدر الإشارة إلى أن مكونات سورية معتبرة رفضت تعيين “مرهف أبو قصرة” وزيرًا للدفاع بالإضافة إلى معارضتها خطوات تشكيل حكومة البشير الانتقالية، وهو ما اعتبرته “مقدمة سلبية”. كما اعتبرت قوى مختلفة أن اختيار أبو قصرة لمنصب وزير الدفاع، وقبلها إعلان الجولاني عن إمكانية تجنيس المقاتلين الأجانب، يؤشر إلى السعي لتفصيل هياكل الدولة وفقًا لنسق عقيدي أيديولوجي ضيق، وليس بمعيار التوافق والقبول من الجميع.
معارضة المقاتلين الأجانب: معضلة أخرى تنتظر أحمد الشرع في المستقبل القريب، وهي موقع الجهاديين الأجانب في سوريا الجديدة، وهم يعدون بالآلاف، وبعضهم شكل فصائل مستقلة مثل: الحزب الإسلامي التركستاني، والقوقازيون، والطاجيك، والألبان، والشيشانيون، الأوزبك، والإيغور، ويشار إلى أن هذه المكونات ترفض التخلي عن قدراتها التسليحية، خصوصًا في ظل رفض قطاعات سورية مدنية وعسكرية تجنيس الأجانب أو إلحاقهم بالمنظومة العسكرية الرسمية.
عدم استبعاد انهيار الترتيبات الحالية: تشير بعض الاتجاهات إلى أن حل معضلة السلاح في سوريا بعد سقوط الأسد تبدو صعبة، بالنظر إلى وجود فصائل ذات ولاءات متباينة. ولذلك، فإن التوافق اللحظي حاليًا بين قوى المعارضة السورية، لا يعبر عن حالة ثقة بين مكوناتها، إذ إن ثمة شكوكًا متصاعدة بين مكونات المعارضة السورية، وعززت مؤشرات عدة هذه الشكوك فبالإضافة إلى رفض المكونات المسلحة الموالية للمعارضة المدنية اتخاذ حكومة تصريف الأعمال بقيادة محمد البشير قرارات لها طابع وبعد استراتيجي، منها الانفراد بملف الجيش، فقد تصاعدت المخاوف لدى تيارات سورية بعد إقدام متشددين على حرق شجرة عيد الميلاد في مدينة حماة في 23 ديسمبر 2024. وبالتالي، فإن ثمة قناعات غير معلنة لدى طيف واسع من المكونات السورية بأن الترتيبات القائمة في الوقت الحالي يمكن أن تكون مؤقتة.
استمرار المعضلة الكردية: في الوقت الذي أكد فيه الشرع على أنه لن يسمح على الإطلاق بأن يكون هناك سلاح خارج الدولة، سواء من الفصائل الثورية أو من الفصائل المتواجدة في منطقة قسد، فإن الأخيرة تصر على حكم فيدرالي في إطار دولة مركزية. كما أن “قسد” أعلنت رفضها التخلي عن السلاح في ظل استمرار المواجهات الحالية مع الفصائل الموالية لتركيا، والتي تستهدف تقويض مشروع الإدارة الذاتية الكردية. وهنا، يمكن فهم قيام وحدات الشعب الكردية خلال الأيام الماضية بالعمل على تعظيم قدرتها التسليحية الخاصة، وظهر ذلك في العمل مؤخرًا على تشكيل قوات كردية إضافية بجانب توسيع التنسيق العسكري مع فصائل من العشائر العربية، والمجلس العسكري السرياني، وذلك لمواجهة ضغط هيئة تحرير الشام. وفي ضوء ذلك، ليس من المرجح تخلي “قسد” عن السلاح، ويتعزز ذلك في ظل التشدد الأمريكي في منع توسع عمليات “فجر الحرية” التي تقودها فصائل موالية لتركيا نحو مناطق سيطرة الأكراد في الرقة والحسكة حيث تتواجد القوات الأمريكية، وقد أعلن وزير الدفاع الأمريكي في 11 ديسمبر 2024 عن العمل مع القوات الكردية لمواجهة الفصائل المدعومة من تركيا.
تعثر حل معضلة درعا: برغم افتتاح مراكز لتسوية أوضاع العسكريين في معظم المحافظات السورية، ابتداءً من 17 ديسمبر الحالي، لتشمل معظم قطاعات الجيش والقوى الأمنية والفصائل الرديفة، إلا أن الفصائل المسلحة في درعا لم تبادر لتسليم السلاح، واقتصرت التسويات في المحافظة فقط على العسكريين والأفراد المتطوعين في قوى الأمن والجيش السابق. وفي ضوء ذلك، فإن محافظة درعا تمثل في التوقيت الحالي عقبة أمام طموح الشرع لتفكيك سلاح الفصائل. والأرجح أن رفض فصائل درعا يرتبط في جانب معتبر منه بقرب اللواء الثامن الذي يقوده المتشدد “أحمد العودة” من روسيا، بالإضافة إلى شعور قطاعات واسعة من السكان المحليين والفصائل المسلحة في درعا بالقلق والتخوف من تهديدات واضحة من جيش الاحتلال الاسرائيلي لبعض القرى والبلدات في الريف الغربي لمحافظة درعا.
مخاوف التنظيمات العشائرية في إدلب: تتراجع الصورة الذهنية لهيئة تحرير الشام في مناطق نفوذها التقليدي في إدلب، والتي وصلت إلى الذروة قبل سقوط الأسد، وكشف عن ذلك احتجاجات أهالي إدلب ضد حكومة الإنقاذ التي شكلتها الهيئة. وفي ضوء ذلك، وفي ظل استمرار شكوك قطاع واسع من العشائر العربية ووجهاء القبائل بشأن ممارسات هيئة تحرير الشام، فمن المرجح أن ترفض الجماعات المسلحة من التنظيمات العشائرية والقبائل في إدلب وريفها التخلي عن السلاح أو حتى تسليمه للإدارة المسئولة عن المرحلة الانتقالية.
غياب الثقة في ضبط المنظومة الأمنية: هناك تيار سائد في أوساط المعارضة السورية يعي صعوبة ضبط المنظومة الأمنية في الشارع السوري، الذي لا يزال يعاني حالة من الفوضى بعد سقوط الأسد، وهو ما ظهر في انتشار ظاهرة السلاح السائب بين الأفراد والتشكيلات الإجرامية التي سعت إلى توظيف الحالة الراهنة لتحقيق مكاسب غير مشروعة. وفي ضوء ذلك، ثمة قناعة متزايدة لدى جمهور معتبر من الشارع السوري بأن عليهم امتلاك أسلحة للحفاظ على سلامتهم، وهي قناعة تأصَّلت مع تنامي نشاط العصابات الإجرامية، ناهيك عن استمرار الاضطرابات وتصاعد المواجهات بين الفصائل الموالية لتركيا وقوات سوريا الديمقراطية، بالإضافة إلى حالة الغضب المحلي من إدارة هيئة تحرير الشام في مناطق نفوذها التقليدي في إدلب. وفي ضوء ذلك، ربما يكون من الصعب محاصرة عملية انتشار السلاح السائب سواء لدى الفاعلين من غير الدولة السورية أو حتى بين الأفراد السوريين.
الحدود الهشة مع الجوار الجغرافي: ولعل ذلك ينطبق على عدد من الدول العربية المجاورة للحدود السورية الهشة، مثل لبنان والعراق والأردن، لا سيما في ظل تصاعد منسوب التوتر في الداخل السوري بعد إسقاط الأسد، ومساعي قوى إقليمية خصوصًا تركيا لدعم الجماعات الموالية لها من خلال إرسال العتاد والسلاح. كما أن الساحة السورية في التوقيت الحالي تمثل ساحة خصبة لتجارة السلاح العابر للحدود من خلال تهريب عصابات الإجرام المنظم للأسلحة إلى بؤر الصراعات في الإقليم مثل اليمن ولبنان وقطاع غزة. كما أن هشاشة الحدود السورية ربما تسمح للدول الأجنبية بالعمل على تدفق المرتزقة والسلاح في الداخل السوري، نظرًا لتداخل مصالحها، والرغبة في إدارة حرب بالوكالة على الأراضي السورية.
شكوك الأقلية العلوية: على الرغم من رسائل الطمأنة التي بعث بها هيئة تحرير الشام للأقليات السورية، وبخاصة الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد، إلا أن ثمة شكوكًا لدى العلويين من تحركات انتقامية ضدهم، خصوصًا وأن قوات المعارضة الإسلامية المتشددة تنظر إلى الطائفة العلوية على أنها موالية للرئيس السابق بشار الأسد، وتزايدت شكوك العلويين بعد بث انتشار مقطع فيديو في 25 ديسمبر 2024 على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر حريقًا داخل ضريح علوي في مدينة حلب مع وجود مسلحين يتجولون في الداخل، وهو ما أدى إلى خروج تظاهرات واسعة للعلويين ضد السلطة الانتقالية. كما تجدر الإشارة إلى أن أنصار الأقلية العلوية اتخذوا منذ إسقاط الأسد في 8 ديسمبر 2024 إجراءات أمنية غير رسمية، من خلال نصب نقاط تفتيش لمراقبة من يدخل ويخرج من القرى والتجمعات السكانية العلوية. وفي ضوء ذلك، من المحتمل أن تحتفظ الأقلية العلوية بجانب من القدرة التسليحية للتوظيف حال تأزم الأوضاع مع السلطة الجديدة.
انهيار الدولة الوطنية: إن لجم السلاح السائب في سوريا يبقى غير مرجح خلال المرحلة المقبلة، بالنظر إلى انهيار الدولة الوطنية السورية مقابل صعود الفاعلين من غير الدولة، وامتلاكها السيطرة على القرار. ويشار إلى أن انهيار الدولة السورية وفر بيئة مناسبة للانتشار العشوائي للسلاح بين الأفراد والجماعات، باعتباره من الأدوات المهمة لتأمين النفس والمصالح، خصوصًا مع غياب الثقة في قدرة الدولة على حمايتهم.
ختامًا، يمكن القول إن تحدي إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية السورية، وجمع السلاح السائب، يمثل أهم التحديات التي تواجه الإدارة الانتقالية الجديدة، وبرغم تهديد أحمد الشرع بتوظيف القوة الصلبة ضد الفصائل الممانعة الاندماج في منظومة وزارة الدفاع الجديدة، إلا أن ذلك لا يضمن حل المعضلة بالنظر إلى وجود مؤشرات كاشفة عن رفض قطاعات سورية وازنة مساعي هيئة تحرير الشام للانفراد بإدارة المشهد، ناهيك عن تصاعد المخاوف من التوجهات الأيديولوجية للهيئة بشأن بناء الجيش السوري الجديد.