صدر التقرير السنوي لمؤتمر ميونخ للأمن في نسخته الخامسة والخمسين لعام 2019 تحت عنوان “اللغز الأكبر: من سيلتقط القطع؟” The Great Puzzle: Who will Pick up the Pieces?. هذا العنوان الصادم المُعبِّر عن حالة كبيرة من الغموض والحيرة بشأن مستقبل الأمن العالمي، انعكس بوضوح في معالجة أوراق المؤتمر لقضايا الأمن في القارة الإفريقية التي تعد أحد أكبر مصادر هذا الغموض. فبجانب التقرير، نشر الموقع الرسمي للمؤتمر من بين منشوراته إصدارًا خاصًّا من دورية The German Times، حمل عنوان The Security Times، تضمن عددًا من التحليلات التي تناولت مختلف القضايا الأمنية العالمية، والتي جاءت متسقة -إلى حدٍّ بعيدٍ- مع توجهات التقرير السنوي. كذلك، حملت الكلمات التي ألقاها عددٌ من زعماء العالم وكبار صانعي السياسات الأمنية أهمية كبرى؛ إذ تضمنت صياغة أكثر عملية للتحديات الأمنية العالمية وسبل مواجهتها.
وبينما لا تُعبِّر أوراق المؤتمر بأي حال عن إجماع رسمي أوروبي؛ إلا أنها تعبر عن صوت أوروبي مهم نظرًا لما يحتله المؤتمر من موقع بارز باعتباره الأكثر تمحورًا حول قضايا الأمن، سواء في تشخيصه للمشكلات، أو في طرحه حلولًا مقترحةً لها.
وفي ظل التطورات العالمية والإقليمية المتلاحقة، كان لإفريقيا نصيب كبير من اهتمام أوراق مؤتمر ميونخ لهذا العام، التي رأت في القارة الإفريقية مصدرًا أساسيًّا لتهديد الأمن الأوروبي، وأحد أكثر الملفات حاجةً للمراجعة والتطوير في المستقبل. ففي كلٍّ من المستويات الثلاثة لأوراق المؤتمر، كان الحضور الإفريقي قويًّا، بما جعل من الضروري الوقوف على ملامح الصورة الكبيرة التي رسمتها أوراق وفاعليات مؤتمر ميونخ للأمن لعام 2019 لموقع إفريقيا من الأمن العالمي.
ويمكن التوصل إلى ملامح بناء فكري بشأن إفريقيا يقوم على عددٍ من المحاور الأساسية، شملت:
- أن الإرهاب كقضية أمنية في إفريقيا يمثل ظاهرة محلية لا علاقة حقيقية بينها وبين الاتجاهات الدولية للإرهاب في الشرق الأوسط وأوروبا.
- انضمام بعض الحركات الإرهابية في إفريقيا جنوب الصحراء لـ”داعش” أو “القاعدة”؛ هو أمر دعائي لا يعني بأي حال وجود رابط تنظيمي أو حركي بين الجانبين.
- هناك تواجد عسكري أمني “زائد عن الحاجة” للقوات الأوروبية والدولية في إفريقيا لا يتناسب مع حجم الإرهاب وطبيعته المحلية في سياقه الإفريقي.
- التدخل العسكري الغربي في مواجهة المشكلات الأمنية الإفريقية يضر بإفريقيا، ولا يفيد أوروبا.
- تمثل الآلية الأمثل في مواجهة التحديات الأمنية في إفريقيا، وفي مقدمتها الإرهاب، تحميل المسئولية كاملة للأطراف الوطنية المحلية الإفريقية.
- التهديد الأمني الأكثر خطورة الذي تطرحه إفريقيا على أوروبا والعالم لا يتمثل في الإرهاب، بقدر ما يتمثل في تيارات الهجرة المتزايدة.
- المهاجرون الأفارقة إلى أوروبا تزداد أعدادهم بصورة غير معقولة، ولم يصبحوا راغبين في الانخراط الثقافي في أوروبا، ولم تعد لدى أوروبا القدرة على التحكم فيمن يعبر حدودها من الأفارقة.
وقد قامت الأوراق المختلفة الصادرة عن المؤتمر بتأسيس هذا البناء من خلال الاستعانة بعدد كبير من الأدلة - والشواهد والوقائع نناقشها تفصيلًا في المحاور التالية.
1- الزحام الأمني في إقليم الساحل الإفريقي
من بين أهم معالجات المؤتمر للقضايا الإفريقية إفراد قسم خاص من التقرير السنوي لعام 2019 لإقليم الساحل الإفريقي. ومن وجهة نظر التقرير، يمثل إقليم الساحل الإفريقي نطاقًا ممتدًّا لعدم الاستقرار، حيث يواجه الإقليم حزمة من التحديات الأمنية التي يعزز بعضها بعضًا، بما جعل الكثير من المحللين يعتبرون الساحل الإفريقي أكثر مناطق العالم هشاشة.
كما يرى التقرير أن مساحة إقليم الساحل الإفريقي الشاسعة وطبيعته الصحراوية تمثل واحدة من أهم التحديات الأمنية. وفي الوقت الذي تقل فيه بحدة المناطق المأهولة بالإقليم، ومن ثمّ يقل التواجد الأمني المستدام؛ تُعد المنطقة مجالًا مفتوحًا للجماعات الإرهابية والإجرامية العابرة للحدود التي تنخرط في مدى واسع من الأنشطة غير القانونية، كالاتجار بالبشر، وتهريب الأسلحة والمواد المخدرة، بما يُمثل المصدر الأساسي لتمويل التنظيمات الإرهابية والإجرامية على السواء. وفي ظل هذا الغياب الأمني، كثيرًا ما تنخرط هذه التنظيمات في منافسة شرسة للسيطرة على خطوط التهريب عبر إقليم الساحل، بما يسفر عن اشتباكات عنيفة، ويعوق التجارة الشرعية، ويتسبب في أضرار اقتصادية جسيمة.
ويُعد إقليم الساحل الإفريقي واحدًا من أكثر مقاصد العمليات العسكرية لدول غير إفريقية، فبجانب بعثة الأمم المتحدة لاستعادة الاستقرار في مالي MINUSMA، تظهر عملية “برخان” التي تقودها القوات الفرنسية، وأربع بعثات أوروبية أخرى تتولى تدريب قوات الجيش والشرطة في مالي والنيجر، بجانب مجموعة “الدول الخمس” G5 التي تمثل المظهر الإقليمي الأبرز لحفظ الأمن في الإقليم، والتي تضم: موريتانيا، ومالي، وتشاد، والنيجر، وبوركينافاسو والتي تشكلت عام 2017.
وقد رصد التقرير عددًا من المؤشرات المؤكدة للتدهور المطرد في الأوضاع الأمنية في إقليم الساحل الإفريقي. فمنذ عام 2016 يتضاعف سنويًّا عدد الخسائر المترتبة على أحداث العنف ضد المدنيين من جانب الجماعات المتطرفة، ليسجل عام 2018 أكثر من 1500 واقعة اعتداء على المدنيين، وهو ما يُمثِّل انتكاسة فاقت معدلات العنف عام 2012 قبل التدخل العسكري الفرنسي في مالي. ويعكس هذا التنامي في معدلات العنف في العام الماضي ارتفاعًا في قدرات الميليشيات المتطرفة في الساحل.
وقد خلق هذا الوضع حالة فريدة وصفها التقرير بمصطلح “الزحام الأمني”، في إِشارة إلى تعدد الفاعلين وتراجع الفاعلية.
2- الطابع المحلي للإرهاب في إفريقيا
من بين أبرز الأفكار التي طرحتها أوراق مؤتمر ميونخ التأكيد على الطابع المحلي للإرهاب في إفريقيا، وتوضيح الفارق الكبير بينه وبين الحالة في الشرق الأوسط. ولعل هذا الأمر يُعد أحد مبررات تراجع أوروبي محتمل عن الانخراط المباشر في مواجهة التنظيمات الإرهابية في إفريقيا.
ووفقًا لأوراق مؤتمر ميونخ، فإن التنظيمات الإرهابية في إفريقيا جنوب الصحراء تمثل تهديدًا محليًّا وإقليميًّا بدرجة أكبر من كونها تهديدًا عالميًّا. فبالنظر للأوضاع في إفريقيا جنوب الصحراء فإن التنظيمات الرئيسية تبدو شديدة المحلية والارتباط بسياق جغرافي ومجتمعي محدد. فتنظيم “الشباب المجاهدين” في الصومال، وتنظيم “بوكو حرام” في شمال نيجيريا، وتنظيم “القاعدة في المغرب الإسلامي” في مالي، لا تعتمد على الإنترنت في تجنيد أعضائها، خاصة مع تمركز هذه الجماعات في بعض أكثر مناطق العالم فقرًا واحتياجًا لأساسيات البنية التحتية. وفي المقابل، تبدو الاعتبارات المحلية -كالانتماءات القبلية- هي المصدر الأساسي في تحقيق التضامن بين أعضاء التنظيم الإرهابي، والمصدر الرئيسي لإمداده بأعضاء جدد. كما يلعب الفقر دورًا أساسيًّا في ترسيخ جذور التنظيمات الإرهابية في بيئاتها المحلية في إفريقيا جنوب الصحراء، ذلك أن هذه التنظيمات عادةً ما تكون هي المشغل الأول لسكان المجتمعات المحيطة، سواء في الأعمال القتالية، أو الأعمال المساندة التي تستوعب نسبة كبيرة من النساء والأطفال. الأمر الذي يخلق رابطًا عضويًّا بين التنظيمات الإرهابية والمجتمعات المحلية بغض النظر عن الروابط الفكرية والعقائدية.
وتؤكد العديد من الشواهد حقيقة أن إعلان هذه الجماعة الإرهابية أو تلك من الجماعات المتوطنة في إفريقيا جنوب الصحراء “بيعتها” لتنظيمات إرهابية ذات طابع دولي، كـ”القاعدة” أو “داعش” من بعدها؛ إنما يتم لأغراض إعلامية بالأساس من دون وجود أي ارتباط تنظيمي أو عملياتي على أرض الواقع. وتفرض هذه الحقيقة ضرورة إدماج الاعتبارات المحلية بصورة أكبر في سياسات مكافحة الإرهاب في إفريقيا جنوب الصحراء، سواء على مستوى السياسات، أو على مستوى الفاعلين المنخرطين على الأرض.
3- التمييز بين الإرهاب القديم والجديد في إفريقيا
تأسيسًا على التمييز بين التنظيمات الإرهابية في إفريقيا جنوب الصحراء ونظيرتها في الشرق الأوسط، قللت أوراق مؤتمر ميونخ من أهمية تواتر إعلان تنظيمات إرهابية إفريقية مبايعتها لتنظيمات شرق أوسطية، وفي مقدمتها “داعش”. فهذه التنظيمات الجديدة ما هي إلا فصائل منشقة عن التنظيمات الإرهابية الإفريقية ذات الجذور المحلية القوية، ولا تربطها علاقة حقيقية بموجات الإرهاب العالمي القادمة من الشرق الأوسط.
وقد قدّرت بعض الدراسات عدد المقاتلين المنتمين لـ”داعش” في القارة الإفريقية بأكثر من 6 آلاف مقاتل، أكثر من نصفهم يتمركزون في شمال نيجيريا، في إطار ما يُعرف بالدولة الإسلامية في غرب إفريقيا. كما تنشط مجموعات مشابهة في منطقة جاو في مالي بالقرب من القاعدة العسكرية الألمانية، فضلًا عن تواجد مشابه في الصومال.
وتُشير المؤشرات إلى وجود عددٍ من الأسباب وراء تعدد الانشقاقات في التنظيمات الإرهابية، وخروج من يبايع “داعش” منها بغض النظر عن وجود رابط حركي وتنظيمي. فنتيجة لطول أمد انتشار التنظيمات الإرهابية في عدد من البؤر الإفريقية، تمكنت تنظيمات (الجيل الأول) من إكساب النشاط الإرهابي طابعًا “مؤسسيًّا” كما بدأت في بناء شبكة من التفاعلات السرية مع عدد من الأطراف من بينها الحكومات الرسمية ذاتها. إذ تشير الوقائع إلى أن تنظيم “الشباب” في الصومال يتقاسم عوائد التجارة غير المشروعة مع الحكومة الصومالية ومع بعض وحدات مهمة حفظ السلام الدولية المنتشرة على الأرض.
هذه الممارسات دفعت بعض الأعضاء الجدد وبعض الأعضاء القدامى الساخطين إلى التمرد والانشقاق على قادة جماعاتهم، ولم يجدوا مظلة أفضل من “داعش” لإعلان الانخراط تحتها، بما في ذلك من ميزة على المستوى الدعائي التعبوي، بغض النظر عن العوائد الحقيقية من الانضمام للتنظيم الذي طُرد من معاقله في العراق، وأصبح محاصرًا في بعض النطاقات الضيقة في سوريا.
4- الآثار السلبية للتدخل العسكري الغربي في إفريقيا
قيّمت أوراق مؤتمر ميونخ للأمن التدخل العسكري الأوروبي لمكافحة الإرهاب في إفريقيا تقييمًا بالغ السلبية، إذ اعتبرته أحد مصادر استدامة التحديات الأمنية القادمة من القارة الإفريقية. فقد تعددت حالات الانخراط الأوروبي في جهود مكافحة الإرهاب واستعادة الاستقرار وفرض الأمن في أكثر من موقع في القارة. ففي ظل مسئولية العديد من الدول الغربية عن تدريب القوات العسكرية والأمنية الإفريقية، أصبحت إفريقيا ساحة “لتجريب” العديد من التقنيات والتكتيكات الجديدة. ولعل السبب وراء هذا التصور هو إدراك الجانب الأوروبي المسئول عن التدريب أن إخفاق أي “تجربة” جديدة لفرض الأمن في إفريقيا ليست له أي تداعيات ذات قيمة، في ظل التردي العام للأوضاع الأمنية.
على سبيل المثال، اشتركت القوات المسلحة الألمانية في أول مهامها القتالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في الكونغو في إطار عملية تدخل الاتحاد الأوروبي، كما قامت الأمم المتحدة بأولى مهام حفظ السلام المشتركة في تاريخها مع الاتحاد الإفريقي في حالة دارفور، بجانب التدخل الأوروبي في إعداد وتدريب أول قوات قتالية متعددة الجنسيات في الساحل. كل هذه العمليات المنتشرة في نطاق جغرافي واسع في القارة الإفريقية -كما ذهب التقرير- لم يُكتب لها النجاح الكامل، ولم تقدم نتائج حاسمة. وأدى تعاقب حالات التدخل من دون نتائج حاسمة إلى تراجع المصداقية والثقة في قدرة الأطراف الدولية على تقديم تطور حقيقي للأمن في مناطق الصراعات الإفريقية. وينتهي التقرير هنا إلى أنه من الضروري أن يتم تغيير التوجه الدولي تجاه التدخل في الصراعات الإفريقية بما يسمح بمشاركة أكبر وأكثر فاعلية للأطراف المحلية الإفريقية، باعتبارهم شركاء في بناء السلام وليسوا مجرد “موضوعًا” لإجراءاته.
5- التحديات الأمنية الناجمة عن “تكالب” المهاجرين الأفارقة على أوروبا
تضمّنت كلمة المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” في مؤتمر ميونخ للأمن إشارةً مباشرة للتحدي الأمني الذي تنتجه إفريقيا كتهديد مباشر متعدد الأبعاد للأمن الأوروبي، مع التركيز على قضية تدفقات المهاجرين من الشباب الأفارقة كأبرز أبعاد هذه التهديدات. وفي سبيل مواجهة التحديات الأمنية القادمة من القارة، رأت “ميركل” ضرورة انتهاج سياسة تنطلق من مدخل تنموي، بحيث تكون الأوضاع الاقتصادية في إفريقيا أقل طردًا للشباب الباحث عن فرص في حياة أفضل. كما تضمّنت كلمة “ميركل” إشارة إلى عجز المدخل الأمني عن مواجهة التحديات القادمة من إفريقيا.
هذا التوجه أيّدته العديد من أوراق مؤتمر ميونخ، حيث عرضت قضية هجرة الأفارقة باعتبارها التهديد الأكبر للأمن في أوروبا، على النحو الذي أصبح من الممكن معه الحديث عن “تكالب” إفريقي على أوروبا، مع معدلات الزيادة السكانية الكبيرة التي تشهدها القارة الإفريقية منذ عقود، والتي تعد الأعلى في التاريخ الإنساني، والتي انعكست بشدة على التزايد الكبير في عدد المهاجرين من إفريقيا إلى أوروبا، والذي ارتفع بين عام 1960 و2000 من 20 مليونًا إلى 60 مليونًا.
وبعيدًا عن الأرقام، فإن هذه التحولات الكمية تصاحبها تحولات نوعية قد تُمكِّن المهاجرين الأفارقة من تغيير مصير أوروبا في المستقبل. فموجات الهجرة السابقة كانت مصحوبة بشرطين أساسيين؛ أولهما أن المهاجرين الأفارقة في أوروبا سيعيشون كأوروبيين ثقافيًّا واجتماعيًّا وليس كجالية إفريقية في المهجر، وثانيهما أن الكلمة النهائية في تحديد قبول أي مهاجر هي للسلطات الأوروبية من دون أن يتم “إجبار” المجتمعات الأوروبية على استقبال أفارقة غير مرغوب فيهم كالقادمين من مناطق صراعات تنتشر فيها التوجهات المتطرفة. هذان الشرطان أصبح توفّرهما في المستقبل محل شك، وهو ما جعل قبول أوروبا للمزيد من الأفارقة تهديدًا لأمنها القومي.
آفاق مستقبلية
أمام هذا الموقف الأوروبي الآخذ في التشكل، والذي عكسته أوراق مؤتمر ميونخ للأمن؛ يمكن الوقوف على خمس ملاحظات مهمة تتعلق بالمستقبل:
1- أن الاتجاه الغالب على أوراق مؤتمر ميونخ يمهد لتراجع أوروبي عن الانخراط الأمني المباشر في قضايا القارة الإفريقية، سواء من خلال إبراز أهمية التراجع عن المواجهة المباشرة والاعتماد على وكلاء من الجيوش الوطنية أو حتى بعض الأطراف المحلية، أو من خلال التقليل من التأثير المحتمل للصراعات الإفريقية على الأمن الأوربي، أو بنقل التركيز الأكبر إلى قضية الهجرة باعتبارها التحدي “الأمني” الأبرز. كل هذه المؤشرات تجسد مقولات تيار أوروبي “دفاعي” في مواجهة التحديات الأمنية القادمة من إفريقيا بعد أن سيطر التيار “الهجومي” على هذا الملف لسنوات.
2- لا يجد الحديث عن انسحاب أو تراجع أوروبي محتمل عن الانخراط في جهود فرض الأمن في إفريقيا ما يبرره على أرض الواقع في ظل استمرار التحديات الأمنية الكبيرة التي تفوق قدرات الدول الإفريقية على المواجهة. كما أن الحديث عن تحول ملف المهاجرين من إفريقيا إلى أوروبا ليكون التحدي الأمني الرئيسي في الوقت الراهن لا يجد ما يبرره في ظل الانخفاض القياسي في أعداد المهاجرين مقارنة بسنوات سابقة.
3- إذا كانت المتغيرات الإفريقية تعجز عن تبرير ظهور هذا التوجه الأوروبي في إعادة صياغة العلاقة مع إفريقيا على المستوى الأمني، فإن المتغيرات الدولية قد تكون هي الأكثر قدرة على تبرير هذا التوجه. فقد شهد العامان الماضيان دورًا أمريكيًّا متزايدًا في إفريقيا أسفر عن عملية إعادة ترتيب شاملة لعدد من المواقع المهمة في إفريقيا من بينها القرن الإفريقي، بجانب تصاعد الدور الروسي واتساع نطاقه على الأرض لينافس فرنسا في بعض مواقعها التقليدية كإفريقيا الوسطى، مع استمرار التمدد الصيني في القارة الإفريقية من المدخل الاقتصادي بما يتجاوز قدرة أي لاعب دولي آخر. وتؤكد محصلة هذه الأوضاع، والإعلان عن نوايا أوروبية في “ترشيد” تواجدها في إفريقيا الحقيقة التاريخية المتعلقة بكون الاهتمام الأوروبي بالقضايا الإفريقية هو اهتمام نسبي، تحدده متغيرات دولية لا علاقة للقارة الإفريقية بها.
4- بالجمع بين الاعتبارات الأوروبية الأمنية والسياسية؛ فإن الخطر الأكبر الذي ظهر خلال الشهور الأخيرة من الانخراط الأوروبي أمنيًّا وعسكريًّا في القارة الإفريقية إنما يتعلق بما أسفر عنه من خلافات بين القوى الأوروبية الرئيسية، الأمر الذي جعل من بعض البؤر الساخنة في إفريقيا نقاط اشتباك بين بعض الدول الأوروبية على النحو الذي كشف عنه التنافس الفرنسي الإيطالي في ليبيا، الأمر الذي قد يمثل تهديدًا غير مسبوق للأمن الأوروبي منذ نهاية الحرب الباردة.
5- عبّرت كلمة الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي” في مؤتمر ميونخ عن الرؤية الإفريقية لقضايا الأمن في أولى مشاركاته الدولية بعد توليه الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي لعام 2019.
إذ تضمنت التأكيد على عدد من المبادئ الأساسية التي تستهدف إيجاد صيغة أكثر توازنًا لعلاقة إفريقيا بالعالم في المجال الأمني، تمثلت في:
- أولوية قضايا السلم والأمن في إطار استهداف إنهاء الصراعات الإفريقية عام 2020 في ظل مبادرة “إسكات المدافع”.
- التركيز على معالجة القضايا الأمنية من مدخل شامل يجسده العمل المصري الإفريقي المشترك لتأسيس مركز الاتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية في القاهرة.
- الدور المحوري للجهود الإفريقية لا يعني بحال الاستغناء عن الشركاء الدوليين الذين لهم دور مهم في إرساء منظومة الأمن وتحقيق التنمية المستدامة في إفريقيا.
- الإدراك الإفريقي للأبعاد المختلفة لمشكلة الهجرة واللجوء، والتي تتطلب جهدًّا دوليًّا مشتركًا يجمع الدول الإفريقية بدول جوارها الأوروبي.