المرحلة الثالثة للثورة الفلسطينية الكبري؛ امتدت من خريف عام 1938 وحتى صيف 1939، وهى ذات الفترة التى شهدت شن قوات الانتداب البريطانى هجوما عسكريا واسع النطاق ضد الثورة وقياداتها السياسيين والميدانيين. وسجل فى تلك الفترة اعلان الجانب البريطانى تراجعهم عن قرار التقسيم واستعدادهم لقبول بعض مطالب الثورة، مع استغلالهم الضغط الذى مارسوه على الثوار من أجل تأليب بعض الفلسطينيين عليهم..
ووفق خطة الاحتواء المزدوج التى اعتادت بريطانيا ممارستها طوال فترة الانتداب، طرحت كتاب ماكدونالد الأبيض فى عام 1939، واقترحت فيه فرض قيود على الهجرة اليهودية وعلى عمليات شراء الأراضي.كما وعدت بدولة موحدة مستقلة يجرى إعلانها خلال عشر سنوات، شرط أن تكون العلاقات الفلسطينية- اليهودية مواتية. قدم هذا الاقتراح باعتباره حصادا سياسيا للثورة الكبري، وبالرغم مما شابه من قصور، إلا أنه شكل مخرجا معقولا للثوار الفلسطينيين وحماية مؤقتة مقبولة من تداعيات الضربات العسكرية البريطانية الساحقة، وهكذا يمكن اعتبار أن الثورة كانت قد وصلت لنهايتها فى صيف 1939.
عقدت بعدها فى لندن مؤتمرات مع وفود العرب واليهود استغرقت بضعة أسابيع، هذه المؤتمرات كانت وسيلة لتبادل الآراء بصورة أكثر انفتاحا وواقعية بين الوزراء البريطانيين ومندوبى العرب واليهود،ما مكن الحكومة البريطانية على ضوء المباحثات المشار إليها، واستنادا للحالة السائدة فى فلسطين وتقرير اللجنة الملكية وتقرير لجنة التقسيم، من تقديم بعض المقترحات وعرضت تلك المقترحات على وفود العرب واليهود كأساس لتسوية متفق عليها.
لم تر الوفود الفلسطينية ولا وفود اليهود أن فى استطاعتها قبول تلك المقترحات، لذلك لم تسفر المؤتمرات عن اتفاق. بناء على ذلك وجدت الحكومة البريطانية نفسها حرة فى وضع سياستها الخاصة، واستقر رأيها على التمسك بصورة عامة بالمقترحات التى عرضت بشكل نهائى على وفود الفلسطينيين واليهود. وانتقلت لتتباحث معهما حول التزاماتها بموجب صك الانتداب على فلسطين، الذى أقر نصوصه مجلس عصبة الأمم فى سنة 1922 والتزمت به الحكومات البريطانية المتعاقبة زهاء عشرين عاما. وقد كانت لندن ترى أن بين هذه الالتزامات التزاما لم يقم أى خلاف حول تفسيره، وهو الالتزام الذى يبحث فى حماية الأماكن المقدسة والمبانى والمواقع الدينية، وتسهيل وتأمين الوصول إليها.
وكان لتضمن الانتداب البريطانى الجوهر الرئيسى لـوعد بلفور كما أسلفنا، خلق إشكاليات عدة ومعضلة كبرى تتعلق بتأهيل هذه الأرض لإنشاء وطن قومى لليهود، لذلك جاءت الالتزامات الأخرى التى كانت تتداول بين الحكومة البريطانية والوفد اليهودى تدور حول قضايا بعينها مثلت لب المشكلة.
كانت تلك الالتزامات البريطانية التى جاء البعض منها كنصوص قاطعة أو ما يشير إليها على الأقل، هى وضع البلاد فى أحوال سياسية وإدارية واقتصادية من شأنها أن تضمن إنشاء وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين، وتسهيل هجرة اليهود فى أحوال ملائمة وتشجيع حشد اليهود فى الأراضي، على أن يجرى ذلك بالتعاون مع الوكالة اليهودية.
وأيضا صيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بغض النظر عن العنصر والدين، وضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضع فئات الأهالى الأخري. واجمالا بالطبع وبما يتوافق مع الفلسفة الكلية لمفهوم «الانتداب»؛ هو وضع البلاد فى أحوال سياسية وإدارية واقتصادية، من شأنها أن تضمن ترقية مؤسسات الحكم الذاتي. المهم والمثير أن اللجنة الملكية ولجان التحقيق الأخرى التى سبقتها لفتت النظر إلى الغموض المحيط ببعض العبارات الواردة فى صك الانتداب،
كعبارة وطن قومى للشعب اليهودي، حيث وجدت فى هذا الغموض وفى ما نشأ عنه من الريبة حول الأهداف التى ترمى إليها الخطة السياسية، سببا رئيسيا للقلق والشحناء بين العرب واليهود. لذلك ووفق ما كانت الحكومة البريطانية تؤكد عليه خلال التباحث بينها وبين الوفدين، رأت أن مصلحة السلام ورفاه جميع أهالى فلسطين تحتم وضع تعريف صريح للخطة السياسية، ولأهدافها وكان من شأن اقتراح التقسيم الذى أوصت به اللجنة الملكية من وجهة النظر البريطانية وحدها يوفر مثل هذه الصراحة.
لكن بعد تعاقب لجان تقصى الحقائق التى نقلت عشرات التقارير من أرض الواقع الفلسطينى إلى الحكومة فى لندن، وجد أن تشكيل دولتين مستقلتين ضمن فلسطين إحداهما عربية والأخرى يهودية، يكون فى استطاعتهما سد نفقاتهما بذاتهما، ليس من الأمور الواقعية العملية. لذلك كان لزاما على الحكومة البريطانية أن تستنبط بدلا من التقسيم، سياسة أخرى من شأنها أن تفى بما تتطلبه الحالة فى فلسطين على وجه يتفق مع الالتزامات المترتبة عليها نحو العرب ونحو اليهود. وطرح فى تلك الفترة مجموعة من المفاهيم بالغة الأهمية؛ أبرزها أن عبارة «وطن قومى للشعب اليهودي» تفسح المجال لصيرورة فلسطين على مرور الزمن،
دولة أو مملكة يهودية. فى الوقت الذى لم تكن الحكومة تود أن تقارع الرأى الذى أعربت عنه اللجنة الملكية، وهو أن الزعماء الصهيونيين كانوا يدركون حين صدر تصريح بلفور أن نصوص ذلك التصريح هو بالكاد لا يحول دون قيام دولة يهودية فى النهاية. فى حين كان يقين الحكومة البريطانية هو الاعتقاد أن واضعى صيغة الانتداب الذى أدمج فيه وعد بلفور، لا يمكن أن يكونوا قد قصدوا تحويل فلسطين إلى دولة يهودية، خلافا لأاردة سكان البلاد العرب،كما انه لم يكن المقصود هو تحويل فلسطين إلى دولة يهودية.
لهذا قامت الحكومة البريطانية حينها؛ بإصدار بيان يزيل تلك الشكوك والالتباسات، أو هكذا اعتقدت.. وأن الغاية التى يرمى إليها وعد بلفور ليس خلق فلسطين يهودية برمتها، وهى تعتبر أن كل أمل كهذا غير ممكن التحقيق، وهى لا ترمى إلى مثل هذا الهدف.