وقّع وفد ميليشيا الحوثي و”عبدربه منصور هادي”، في الثالث عشر من ديسمبر 2018 في السويد، اتفاقًا لوقف إطلاق النار في محافظتي الحديدة وتعز، عُرف باسم “اتفاق استكهولم”. وقد نص الاتفاق على بدء هدنة، وانسحاب الحوثيين والقوات الحكومية من محافظة الحديدة، واستبدالها بأخرى تابعة للأمم المتحدة، وإشراف الأخيرة على ميناء الحديدة، وإدخال المساعدات للمدنيين، بجانب تبادل الأسرى والمعتقلين بين الجانبين.
غير أنه، وبعد مضيّ ثلاثة أشهر من توقيع ذلك الاتفاق، يدعو المشهد اليمني الراهن إلى التساؤل عن مدى التزام الطرفين ببنود الاتفاق، ومدى تحقيقه للأهداف المرجوّة منه، ومصيره مقارنةً بالمحادثات اليمنية السابقة التي تُكرر خرق الحوثيين لها.
تعقد الوضع الراهن
منذ بدء سريان الاتفاق، وفي خرقٍ واضح للهدنة، قام الحوثيون بإطلاق قذائف عدة على مديرية الدريهمي (شمال الحديدة)، والجبيلة، وقرية بني مغاري (جنوب شرق مدينة الحديدة). كما قصف الحوثيون الأحياء السكنية، وعززوا مواقعهم في مدينة الحديدة، ورفضوا تسليمها وموانئها إلى الأمم المتحدة، بعد أن أعلنوا من جانبٍ واحد إعادة انتشارهم في موانئ البحر الأحمر، ورفضوا السماح لقافلة تابعة للأمم المتحدة بمغادرة المدينة عبر طريق صنعاء.
وتكرر استهداف الحوثيين لعدة أهدافٍ بارزةٍ بعيدة عن الحديدة، بما في ذلك قاعدة لدولة الإمارات العربية المتحدة في “المخا”، وهي منشأة عسكرية يمنية تديرها الحكومة في محافظة “لحج”. وعلى إثر ذلك تزايد الوجود العسكري للتحالف الذي تقوده السعودية في المواقع الرئيسة على ساحل البحر الأحمر.
الحكومة اليمنية تؤكد -من جانبها- خرق الحوثيين لوقف إطلاق النار، بينما يلقي الحوثيون باللوم على الحكومة اليمنية.
في هذا الإطار، تتزايد احتمالات تصاعد الحرب في الحديدة، إثر مقاطعة الحوثيين اجتماع “لجنة إعادة الانتشار” في 8 يناير 2019، وهي الهيئة التي يرأسها “باتريك كاميرت”، الجنرال المتقاعد من البحرية الهولندية، والذي يقود مفاوضات إعادة الانتشار تمهيدًا لبعثة المراقبة. ناهيك عن تهديد التحالف في أواخر يناير باستخدام “قوة أكبر” لدفع المتمردين اليمنيين إلى تنفيذ اتفاق استكهولم، والالتزام بالهدنة، وتبادل الأسرى، وصولًا لإطلاق النار على فرق الرقابة الأممية ومنع تحركاتها.
وفي نهاية فبراير، تعلل الحوثيون باستمرار وجود الألغام في كلٍ من الصليف ورأس عيسى كذريعةٍ لعدم الالتزام بمقتضيات المرحلة الأولى من إعادة الانتشار، والتي قضت بانسحاب الميليشيات الحوثية من هذين الميناءين لمسافة 5 كلم، مقابل انسحاب القوات الحكومية مسافة كيلو متر واحد بالتزامن مع نزع الألغام من المنطقة التي يتم الانسحاب منها.
وفي مارس، حشدت ميليشيا الحوثي أعدادًا كبيرة من المقاتلين في الحديدة، وأرسلت تعزيزاتٍ مسلحة إلى جبهات القتال في جنوب المدينة. وساعدت إيران تلك الميليشيا في استهداف السفن في البحر الأحمر من خلال ميناء اللحية شمال مدينة الحديدة على حدود محافظة حجة، وذلك للحيلولة دون تنفيذ الانسحاب، ومنع المراقبين الدوليين من أداء مهامهم، تمهيدًا للإطاحة باتفاق استكهولم.
إشكاليات تطبيق وقف إطلاق النار
يمكن فهم تعقد الوضع الراهن بفعل عددٍ من الإشكاليات التي قوضت فعالية اتفاق استكهولم، والتي سمحت بتجدد اندلاع القتال بين الطرفين. بصفةٍ عامة، كلما تضمنت اتفاقات وقف إطلاق النار تفاصيل تتعلق بماهيته، وما يخرقه من انتهاكات، وما يشمله من مناطق، وكيفية وتوقيت دخوله حيز التنفيذ، أثّر ذلك بالإيجاب في فعالية وفرص تطبيقه على أرض الواقع. وعادةً ما تشمل اتفاقات وقف إطلاق النار تحديد “خطوط السيطرة”، والمناطق العازلة ومنزوعة السلاح، وترتيبات رصد تنفيذ الاتفاقات، بما تشمله من آلياتٍ للإبلاغ عن الخروقات، وسبل التحقق منها، والخرائط والأطر الزمنية التفصيلية للتنفيذ. وبجانب الأمور السابقة، فقد تتضمن تلك الاتفاقات أحكامًا خاصة تتعلق بالإفراج عن السجناء، وإزالة الألغام، وتدفق المساعدات الإنسانية في مناطق الصراع. والأهم من ذلك، كيف يساهم وقف إطلاق النار في عملية السلام؟ ذلك أن اتفاق وقف إطلاق النار لا يعدو كونه جزءًا من عمليةٍ أوسع لوقف العنف، ومعالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع.
بيد أنه، وعلى النقيض من غالبية تلك الاتفاقات، لم يتضمن اتفاق استكهولم تفاصيل تقنية تحدد نطاق وطبيعة ومدة وقف الأعمال القتالية، وما المقصود بالانتهاكات، وآليات وقف القتال إذا تكرر اندلاعه من جديد. وعلى الرغم من موافقة مجلس الأمن على قرارٍ يدعم نشر نظامٍ للرقابة على مدى الالتزام بالهدنة، ورئاسة الأمم المتحدة للجنة تنسيق إعادة الانتشار، والاتفاق على تواجد 30 مراقبًا للإشراف على عملية الانسحاب؛ إلا أن الانسحاب من ميناء الحديدة لم يتم.
وجديرٌ بالذكر، أن اتفاق استكهولم لم يتضمن أي تعريف محدد لوقف إطلاق النار، ما ساهم في تكرار خرقه. كما لم يحسم بعض القضايا الخلافية كتلك التي تتصل بالاقتصاد والمطار، بجانب عددٍ من القضايا الأخرى، مثل: أي من قوات الأمن سيدير الحديدة في أعقاب إعادة الانتشار؟ ومن الذي يجب عليه تأمين المنشآت؟ وإلى أين تذهب عائدات ميناء الحديدة الجمركية؟ هل للبنك المركزي اليمني الذي تديره الحكومة اليمنية أم لبنوك الحوثيين؟ وهو ما يتصل بوجود تفسيراتٍ متباينة تطال بعض بنوده.
وفيما يتصل بمطار صنعاء، عرضت الحكومة اليمنية اقتراحين: يتمثل أولهما في إعادة الحركة للمطار الذي يتحكم التحالف بأجوائه، على أن يقتصر على الرحلات الداخلية فقط، بينما يقترح ثانيهما توقف الطائرات المتجهة من صنعاء أو إليها في مطارٍ خاضع لسيطرة الحكومة لتفتيشها. غير أن اتفاق استكهولم فشل في تسوية وضع المطار الخاضع لسيطرة الحوثيين. ومن ثم، يتطلب الأمر جولاتٍ جديدة من المحادثات تضع بنود الاتفاق موضع تنفيذ، وتبحث مدى التزام كل طرفٍ بالالتزمات الواقعة عليه. وبدون ذلك، يصعب تحقيق النتائج المرجوة منه.
تباين في تفسير اتفاق استكهولم
لا شك أن الاتفاق رهنٌ بتنفيذ كل طرفٍ من أطراف الصراع لالتزاماته، وتجسيدها على أرض الواقع. ولكن في السنوات الماضية، تكرر خرق ميليشيا الحوثي للاتفاقيات الدولية والمبادرات الموقعة مع الحكومة اليمنية، ووضع العراقيل أمام تنفيذها، بهدف كسب الوقت وإعادة التفاوض على اتفاقياتٍ جديدة لتحقيق أهدافها. ومن الأمثلة على ذلك، امتناع الحوثيين عن المشاركة في مشاورات جنيف -والتي كان من المقرر عقدها في سبتمبر 2018- قبل انعقادها بساعات.
إذ يستند المتشككون في التزام الحوثيين باتفاق استكهولم إلى أحداث سبتمبر 2014، حين اجتاح الحوثيون العاصمة صنعاء وغيرها من المحافظات الشمالية، ووقعوا اتفاق سلام دعا إلى الانسحاب التدريجي لقواتهم إلى معاقلهم الجبلية. ولكن عقب التوقيع على الاتفاق، تجاهلوا شروط الانسحاب لمزاعم أمنية، إلى أن وضع المتمردون الرئيس الانتقالي اليمني “عبدربه منصور هادي” رهن الإقامة الجبرية.
وعلى صعيد اتفاق استكهولم، تُصر ميليشيا الحوثي على إثارة الجدل حول تفاصيل الاتفاق، ومضامينه، وكيفية تنفيذه. وهو ما يمكن فهمه في ظل الأهمية الاستراتيجية الكبرى لميناء الحديدة، بوصفه المدخل والمعبر الرئيس لأغلب المساعدات الإنسانية ومواد الإغاثة والإمدادات، التي يعتمد عليها ثلثا سكان اليمن في استيراد احتياجاتهم الأساسية. فعلى الرغم من اتفاق الطرفين على الانسحاب إلى حدود المدينة، وإعادة تنظيم الوحدات العسكرية وقوات الأمن المحلية؛ إلا أن الحوثيين قاموا بتجنيد عددٍ كبير من السكان المحليين في المدينة، ما يفسر صعوبة إخلائها.
ويؤكد الحوثيون على قيامهم بالفعل بإعادة الانتشار من خلال نقل قواتهم القتالية من موانئ الحديدة، ورأس عيسى، وسليف، وفقًا لاتفاق استكهولم، في حين ينص الأخير على الانسحاب من هذه الموانئ الثلاثة ثم من مدينة الحديدة. ومن ثم، يتبنى الحوثيون تفسيرًا مغايرًا لتفسير الحكومة اليمنية وقوات التحالف؛ فقد تركت ثغرات اتفاق استكهولم للحوثيين الحرية في تسليم المنافذ لأنفسهم.
أما الحكومة اليمنية، فترى أن اتفاق استكهولم يفترض انسحاب الطرف الآخر. وعليه، فإنه يظل اتفاقًا افتراضيًّا حتى يتحقق انسحاب الحوثيين من الحديدة. وبالتالي، يتطلب الأمر تشكيل لجنة التنسيق وتدشين عملها ميدانيًّا. كما تُحمّل الحكومة اليمنية الحوثيين المسئولية عن خرق وقف إطلاق النار، وبخاصةٍ في ظل تزايد تعزيزاتهم بالقرب من البحر الأحمر، واستمرار تهريب الأسلحة، وحفر الخنادق داخل الحديدة وحولها.
سيناريوهات متفائلة
على الرغم من القصور الذي يعترى اتفاق استكهولم، واستمرار الاشتباكات بين الحوثيين والحكومة اليمنية؛ إلا أن الاتفاق لا يزال هو الخيار الأفضل بعيدًا عن خيار المواجهة العسكرية. وفي هذا السياق، تتعدد السيناريوهات المتفائلة، التي يمكن إجمالها في ثلاثة سيناريوهات.
السيناريو الأول- تفعيل الأمم المتحدة لاتفاق استكهولم: رغم تأزم المشهد اليمني الراهن، إلا أنه لا يمكن التقليل من أهمية اتفاق استكهولم؛ ذلك أنه أتاح الفرصة للحوار والخروج من دائرة الحرب، والانتقال إلى مناقشة قضايا وقف إطلاق النار، وتخفيف التوتر، وتبادل الأسرى. وفي ضوء تلك الأهمية، يمكن لدور الأمم المتحدة الفاعل أن يضمن تنفيذه. وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال قرار مجلس الأمن رقم 2451، الذي أكد على تنفيذ الاتفاق، والعمل على تبادل ما يقرب من 15 ألف أسير. وبالإضافة إلى ذلك، دعت الأمم المتحدة لتسهيل دخول المراقبين الدوليين إلى الحديدة، للإشراف على تنفيذ وقف إطلاق النار، وإعادة انتشار القوات المتحاربة لمدة ستة أشهر.
ويتطلب تفعيل الاتفاق كذلك الضغط على الطرفين للحيلولة دون انسحاب أحدهما منه. وقد يتطلب ذلك التهديد بفرض عقوباتٍ دولية على الحوثيين، خاصةً في ظل ثقل الأطراف الدولية الداعمة له. وبالفعل، طالبت كل من السعودية والإمارات واليمن الأممَ المتحدة بالضغط على الحوثيين لدعم اتفاق وقف إطلاق النار في مدينة الحديدة. كما يتطلب الأمر التوصل إلى اتفاقٍ مفصل حول إعادة الانتشار مع إعادة تحديد المواعيد الزمنية لها، من خلال جولةٍ جديدة من المحادثات تشمل تبادل الأسرى.
السيناريو الثاني- الوساطات الإقليمية: تكررت دعوة إيران للعب دور الوساطة في اليمن. ومن شأن ذلك أن يظهر قوة إيران من ناحية، ويضغط على الحوثيين لإقناعهم بالمشاركة البناءة خاصة في الحديدة، من ناحيةٍ أخرى. وتشمل تلك المشاركة السماح لبعثة المراقبة التابعة للأمم المتحدة بحرية التنقل بالحديدة، وهو أمر لم يتحقق بعد، بسبب مخاوف الحوثيين الأمنية. ويمكن لبروكسل ومسقط المساعدة في ذلك أيضًا.
السيناريو الثالث- إعادة التفاوض على “الحديدة”: قد يحاول الحوثيون من خلال المفاوضات إضاعة الوقت للحيلولة دون تجدد اندلاع المواجهات العسكرية من جانب، وتحقيق مكاسب عسكرية على الأرض، من جانبٍ آخر. وهو ما تجلى واضحًا منذ بداية المسار السياسي والمفاوضات بين الحكومة اليمنية والحوثيين، على نحو مكّنهم من إعادة ترتيب أوضاعهم، وتصنيع المعدات العسكرية، وامتلاك التقنيات المتقدمة، بما في ذلك الطائرات بدون طيار بخبراتٍ إيرانية.
بيد أن إعادة التفاوض من شأنها أن تكون خيارًا مستبعدًا في ظل رفض الحكومة اليمنية أي محاولة لإعادة التفاوض على الحديدة أو إعادة تفسير أحكامها، حيث تتمسك الحكومة اليمنية بتفاهمات اتفاق استكهولم، وإن طالبت المجتمع الدولي بوضع خارطة واضحة لمبادلة الأسرى من جانب، وتنفيذ الاتفاق من جانبٍ آخر.
وبجانب ذلك، رفضت الحكومة اليمنية الذهاب إلى جولةٍ جديدة من المشاورات دون نتائج ملموسة تتصل بإطلاق سراح المعتقلين وتدفق المساعدات الإنسانية. كما أن التعثر في تطبيق اتفاق إعادة الانتشار في محافظة الحديدة -والذي تمت تجزئته إلى مراحل- يعطي مؤشرًا قويًّا على انعدام النتائج المرجوة من المفاوضات بين الحكومة والحوثيين على المديين القصير والطويل.
سيناريوهات متشائمة
على النقيض من السيناريوهات الثلاثة السابقة، تتعدد السيناريوهات المتشائمة، التي يمكن إجمالها في سيناريوهين.
السيناريو الأول- انهيار اتفاق استكهولم: ويدعم ذلك تكرار خرق الحوثيين له، خاصةً في مدينة الحديدة قرابة 970 مرة منذ دخوله حيز التنفيذ. كما يدلل على ذلك أيضًا تهربهم من الانسحاب من موانئ الحديدة الثلاثة، وتعنتهم في تسليم السجناء، وعدم تقديم القوائم النهائية بأسمائهم، والتي تم الاتفاق عليها في إطار اتفاق تبادل السجناء، وتراجع المواعيد النهائية لسحب القوات ومبادلة الأسرى. ناهيك عن تبادل الخصوم الاتهامات، وقيام الميليشيات بدفع مزيدٍ من التعزيزات والمقاتلين إلى الحديدة، وبناء التحصينات، ومهاجمة المدنيين بشكلٍ يومي، واستهداف مواقع القوات الحكومية، ما دفع الحكومة اليمنية إلى التحذير من مخاطر انهيار الاتفاق، وإطالة أمد الصراع في بيان ٍرسمي لها.
السيناريو الثاني- جولة جديدة من التصعيد العسكري: قد يكون متوقعًا إجبار الحوثيين على الالتزام بالاتفاق من خلال تكثيف الضربات العسكرية من قبل قوات التحالف والحكومة اليمنية، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بسياقات ما قبل اتفاق استكهولم، والدوافع التي ساهمت في توقيعه، والتي كان من بينها اقتراب الحكومة اليمنية من تحرير ميناء الحديدة عسكريًّا، إلا أن ذلك لم يتحقق بفعل تهديد الحوثيين بحرقه. فمن شأن التعديل العسكري لتوازنات القوى بين الطرفين أن يقوض من سياسة الأمر الواقع التي تتبعها ميليشيا الحوثي.
إجمالًا، تُدلل أدبيات وقف إطلاق النار على الدور الإيجابي له في تغيير الكيفية التي ينظر بها أطراف الصراع إلى بعضهم بعضًا، ما يمهد الطريق للسلام، إلا أنه لن يتجاوز خفض مستويات العنف دون وجود عمليةٍ سياسية تشارك فيها أطراف النزاع وتلتزم بها. ولذلك، يكمن المخرج الحقيقي من الصراع المسلح في اليمن في التعامل الجاد مع أسبابه، واستعادة مؤسسات الدولة، بالاستناد إلى مرجعيات الحل السياسي المتوافق عليها.