يشهد إقليم القرن الأفريقي مجموعة من التحولات المتسارعة على كافة المستويات، سواء الأوضاع الداخلية لدول الإقليم، أو توازنات العلاقات البينية، أو تحولات الفاعلين الدوليين في ظل احتدام التنافس على ساحة الإقليم؛ حيث يعد القرن الأفريقي من أقل أقاليم القارة الأفريقية -وربما العالم- استقرارًا، حيث مر بدورات متعاقبة من التحولات الحادة والمعقدة على مدار العقود الماضية.
توجد عدة اتجاهات رئيسية لهذه التحولات والتي تشمل مؤشرات ذات طبيعة داخلية، وأخرى ذات طبيعة إقليمية، فضلًا عن المؤشرات المتعلقة بالعوامل الدولية والخارجية، وتتمثل هذه المؤشرات في إعادة تقييم دور الحدود باعتبارها من المحددات الرئيسية لطبيعة الإقليم، في ظل تنامي “ظاهرة الأقاليم الانفصالية”. على سبيل المثال، حالة تيجراي في إثيوبيا، وأرض الصومال وبونتلاند وجوبالاند في الصومال. فضلًا عن تجدد الصراعات الحدودية، مثل الصراع بين إثيوبيا والسودان في منطقة الفشقة. بالإضافة إلى ذلك، تحولات الحدود الإدارية كمجال جديد للصراعات، مثل العلاقة بين بونتلاتد وأرض الصومال.
كما تشمل مؤشرات التحولات في القرن الأفريقي تعثر العمليات السياسية الطبيعية، وتغير آليات الصراع، وظهور دور المجموعات المسلحة دون الدول، وتحولات الإرهاب ومكافحته، وتغيير التركيب الديني للإقليم، وانتشار الأنظمة السياسية الهجينة، وتمدد المجتمع المدني الوطني والعالمي، وتذبذب المؤشرات الاقتصادية والتنموية، وتداعيات تغير المناخ وتدهور البيئة، واضطراب توازنات القوى البينية الإقليمية، وتنامي أثر المنافسة الدولية على الأوضاع الداخلية للإقليم، وتعدد التصورات المتنافسة لموقع القرن الأفريقي في العالم.
في هذا السياق، تبدو الأوضاع في الصراع السوداني مع دخوله العام الثاني أكثر تشابكًا وتعقيدًا، بالنظر للتداعيات المختلفة للصراع على كافة الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، وبالنظر إلى الوضع الملتبس لمسارات التسوية المتعددة التي ظهرت منذ الشهر الأول للصراع دون جدوى حقيقية في تسويته.
وفي سياقٍ آخر، على الرغم من توقيع اتفاق بريتوريا للسلام في إثيوبيا نوفمبر 2022، فإن السلام لا يزال في الداخل الإثيوبي هشًا، في ظل حالة التوترات في الأقاليم الإثيوبية المختلفة، وهو ما ظهر جليًا في التوترات بإقليم الأمهرا، ومدى انعكاسات هذا الاتفاق على حالة السلم في إقليم تيجراي، والاستقرار في البلاد ككل، مع اتخاذ الأزمة الداخلية في إثيوبيا بعدًا آخر، وتحديدًا مع تصاعد الصراع بين مليشيا “فانو” الأمهرية والحكومة المركزية.
بالإضافة إلى ذلك، أفرزت الأزمات الإقليمية في القرن الأفريقي مجموعة من التداعيات والارتدادات السلبية على دول الإقليم، يأتي في مقدمتها تهديدات السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية للدول، وتنامي انتشار وتمدد نفوذ الجماعات الإرهابية، وتزايد موجات اللاجئين ومعدلات النزوح الداخلي، والانعكاسات على اضطرابات حركة الملاحة الدولية والأمن البحري في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وعودة نشاط القرصنة والسطو المسلح على السفن ولا سيما قبالة السواحل الصومالية.
على هذا الأساس، يُسلط إصدار “أزمات القرن الأفريقي والأمن الإقليمي والمصري”، الصادر عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية (يونيو 2024)، في إطار فعاليات مؤتمر “صراعات القرن الأفريقي وتداعياتها على الأمن الإقليمي والمصري”، الضوء على الأزمات الداخلية في دول القرن الأفريقي، والأزمات الإقليمية، والقضايا الإقليمية، وعلاقات مصر بدول القرن الأفريقي.
بناءً على ما تقدم، يُناقش المحور الأول من الإصدار “الأزمة السودانية”، وذلك من خلال استعراض المتغيرات والسيناريوهات بعد عام من الأزمة السودانية، والاستجابات الإقليمية الحذرة إزاء أزمة السودان، وعوائق دور المنظمات الإقليمية والدولية في التسوية السودانية.
فيما يتناول المحور الثاني “الأزمة الإثيوبية”، من خلال عدة موضوعات أبرزها اتفاق بريتوريا للسلام في إثيوبيا، وانعكاسات هذا الاتفاق على استقرار أقاليم إثيوبيا، ودور مليشيا “فانو” في تعميق الأزمة الداخلية في إثيوبيا.
وارتباطًا بالسابق، يستعرض المحور الثالث من الإصدار، “الأزمات الإقليمية”، من خلال توضيح تأثيرات الداخل في السياسة الخارجية للصومال، وتداعيات اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال على الأمن الإقليمي، ودوافع تفاقم التوترات بين إثيوبيا والصومال على القرن الأفريقي، وتحديات الوساطة الكينية في الأزمة الصومالية-الإثيوبية.
ثم ينتقل المحور الرابع إلى مناقشة “قضايا إقليمية” وهي: تداعيات أزمات القرن الأفريقي على أمن البحر الأحمر، واتجاهات الإرهاب في القرن الأفريقي.. تنظيم الشباب نموذجًا، والتغيرات البيئية وأثرها في أمن واستقرار القرن الأفريقي، والأدوار الإقليمية المتطورة لمنظمة “إيجاد” في القرن الأفريقي.
فيما يتناول المحور الخامس، “مصر والقرن الأفريقي”، وذلك من خلال مجموعة من الموضوعات وهي: السياقات المتغيرة للقرن الأفريقي وتوجهات السياسة المصرية، وأولويات مصر إزاء السودان بعد عامٍ من الصراع الداخلي، وملامح التعاون المصري الإريتري في القرن الأفريقي، ودوافع تحول التحالفات بين مصر ودول القرن الأفريقي.