على مدار الأشهر الأخيرة، تنامت المخاوف من إمكانية اندلاع صراع إقليمي على إثر التوترات المتزايدة بين إسرائيل وإيران ووكلائها بالمنطقة، لا سيما مع إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على مواصلة سياساته الاستفزازية سواء في الحرب الدائرة في قطاع غزة أو تجاه إيران، وهو ما يهدد بانتشار حرب أوسع نطاقًا في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، تشمل لبنان وإيران والقوى الكبرى.
وما يعزز من تلك المخاوف، هو إصرار نتنياهو على تبني استراتيجية تستند إلى الدفع للتصعيد الإقليمي بغرض تحقيق الانتصار السياسي، في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية الضارية على قطاع غزة والتي أخفق نتنياهو في تحقيق أهدافها المعلنة من وجهة النظر الإسرائيلية، وبالتالي فلم يعد أمامه خيارًا إلا التصعيد الإقليمي، ليثني الأنظار عن فشله ولينقذ مصيره السياسي المهدد، فضلًا عن العديد من الأهداف الاستراتيجية التي يحققها التصعيد، إلا أن ما يسعى إليه نتنياهو قد يجر المنطقة بأكملها إلى حرب إقليمية مدمرة.
في هذا السياق، يمكن قراءة أبرز ملامح استراتيجية التصعيد الإقليمي التي يتبناها نتنياهو مع تحديد أهدافها والتداعيات المحتملة التي قد تترتب عليها.
أبرز ملامح استراتيجية التصعيد الإقليمي لنتنياهو
تتمثل أبرز ملامح استراتيجية نتنياهو للتصعيد الإقليمي في التالي:
- تبني سياسات استفزازية تجاه إيران:
في أعقاب مقتل فؤاد شكر، أحد كبار قادة حزب الله، في غارة جوية إسرائيلية في بيروت وبعد ذلك بوقت قصير، مقتل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، بغارة جوية في طهران، بات الشرق الأوسط بأكمله على شفا حرب إقليمية تساهم فيها إسرائيل من خلال الاستمرار في تبني السياسة الاستفزازية لإيران ووكلائها في المنطقة، وهو ما يتضح خلال الأشهر الأخيرة من الممارسات الإسرائيلية المتعمدة والتي كانت آخرها عمليتا الاغتيال اللتان تم تنفيذهما ضد إيران وحزب الله في لبنان.
ولم تبدأ الاستفزازات الإسرائيلية باغتيال كلٍ من شكر وهنية، بل سبق ذلك العديد من الأحداث والتي كان آخرها الهجوم على قرية مجدل شمس التي تقع في مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل في 27 يوليو، والتي أعقبها مسارعة الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هيرتسوغ ووزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش، بدعم من مصادر في الجيش الإسرائيلي والولايات المتحدة، إلى نسب الهجوم إلى حزب الله، وتوعدا بالانتقام منه، بل إن سموتريتش زعم أن لبنان بأكمله لا بد أن يدفع الثمن.
وفي كل الأحوال، فكافة التقديرات تشير إلى أن نتنياهو يدفع بالأوضاع المعقدة في المنطقة نحو مزيد من التصعيد الخطير لتحقيق أهداف استراتيجية أساسية تشمل ضرب القدرة العسكرية لإيران، بما في ذلك المنشآت النووية، وتوجيه ضربة عسكرية ضد حزب الله، وإبعاده نهائيًا عن الحدود اللبنانية. فضلًا عن ذلك، فنتنياهو على استعداد لإدخال المنطقة بأكملها في دوامة صراع لا تنتهي، ولو استدرج معه كل القوى الإقليمية، حيث إنه من المؤكد أن تطور الصراع إلى ضربات متبادلة بين طهران وتل أبيب، قد يشمل الكثير من الدول العربية التي قد تجد نفسها في قلب الصراع، مما يزيد من مخاطر تفجر الأوضاع الإقليمية.
وبالتالي فإن تصرفات نتنياهو تحمل عواقب وخيمة على تصعيد الأزمة في الشرق الأوسط وهو ما يدفع بحتمية التصعيد من وجهة نظر نتنياهو خاصة في ظل تصاعد الضغوط على تل أبيب من أجل وقف إطلاق النار في غزة، وهو ما ينعكس على رغبة إسرائيل في جر إيران إلى حرب أوسع نطاقًا للحيلولة دون وقف إطلاق النار وتهدئة الحرب الدائرة في قطاع غزة.
- استخدام التصعيد الإقليمي لتعطيل المفاوضات :
يُتهم نتنياهو بعرقلة مفاوضات وقف إطلاق النار مع حماس، ويضع شروطًا جديدة في كل مرة يصل فيها الأطراف إلى أعتاب الاتفاق بهدف إطالة أمد الحرب، ويطالبه طاقم المفاوضات الإسرائيلي بإبداء مرونة أعلى في المفاوضات لكنه يصمم على تعطيل أي اتفاق، من جانب آخر حملت حركة حماس نتنياهو المسئولية في إفشال جهود الوسطاء وتعطيل التوصل إلى اتفاق بوضع عراقيل وشروط جديدة في ملف تبادل الأسرى وبالتراجع عن بنود سبق أن جرى الاتفاق عليها ليحول دون إنجاز صفقة ولا سيّما ما يتعلق منها بمفترق نتساريم ومعبر رفح وممر فيلادلفيا، وقبلها عبر رفضه الوقف الدائم لإطلاق النار والانسحاب الشامل من قطاع غزة، كما حمله الإسرائيليون المسئولية عن حياة الرهائن. لكن أولوية نتنياهو تكمن في استمرار الحرب لا إطلاق الأسرى.
ومن المؤكد أن التصعيد الإقليمي المتصاعد يتعارض مع إنجاح المفاوضات والتوصل إلى وقف إطلاق النار، حيث يسعى نتنياهو لعرقلة المفاوضات قدر المستطاع وصرف الأنظار عنها من خلال إشعال الأزمة إقليميًا للهروب من ضغط أعضاء اليمين المتطرف الرافضين لأي اتفاق، وذلك للحفاظ على مصيره السياسي المهدد ومنع انهيار الائتلاف الحكومي.
- الاعتماد على عامل الوقت:
يواصل نتنياهو اللعب على عامل الوقت، حيث بات من المؤكد أنه لا يريد التوصل إلى صفقة مع حماس بقدر ما يريد الحصول على مزيد من الوقت اعتقادًا منه بأن إطالة أمد الحرب سيحميه لأطول فترة ممكنة من الملاحقة القضائية، لا سيما بعد ما يواجهه من خطر بسبب تهديد أعضاء الائتلاف اليميني المتطرف الذي يقوده بتفكيك الحكومة من جانب، وما يواجهه من خطر صدور مذكرة اعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية من جانب آخر.
في السياق ذاته، فإن اغتيال إسماعيل هنية يأتي ليدلل على رغبة إسرائيل في تمديد عامل الوقت، حيث تدرك إسرائيل تمامًا أن الخطوة من شأنها أن تحدث المزيد من التصعيد.
على الصعيد الآخر، تشير التقديرات إلى ترجيح استمرار مماطلة نتنياهو ومواصلة مناوراته من أجل إفشال جهود الوسطاء وعدم التوقيع على اتفاق الهدنة مع حماس وإنهاء الحرب في غزة، مستغلًا عامل الوقت من أجل الانتظار حتى الانتخابات الأمريكية القادمة التي ستجرى في نوفمبر القادم. حيث يماطل نتنياهو في توقيع اتقاق الهدنة حتى موعد الانتخابات الأمريكية، كي يتخلص من ضغوط بايدن، وهو يراهن على وصول ترامب للحكم باعتباره حليفًا قويًا لإسرائيل.
- الضغط من أجل مزيد من الدعم الأمريكي:
يسعى نتنياهو إلى الحصول على مزيد من الدعم في حال عودة دونالد ترامب على رأس الإدارة الأمريكية في الانتخابات المقبلة، كما يستعد للتحرك بمزيد من الحرية في حربه على غزة خلال تولي تلك الحكومة المحتملة. إلا أنه لا يزال يتعين عليه العمل مع بايدن، وربما نائبة الرئيس كامالا هاريس، خلال الأشهر المقبلة، مما يترك له مجالًا ضئيلًا للمناورة، لا سيما في ظل عدم رضا إدارة بايدن لتباطئه في وقف إطلاق النار، واغتيال هنية، والاستمرار في إلحاق خسائر فادحة بالمدنيين في غزة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن نتنياهو يتصرف بتهور وهو متيقن أن الولايات المتحدة ستتدخل في حال اندلاع صراع إقليمي لدعم إسرائيل، ففي أعقاب الأزمة المتصاعدة بين إسرائيل وإيران، عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري في الشرق الأوسط، حيث أرسلت تعزيزات من السفن الحربية والطائرات المقاتلة إلى المنطقة، كما وافقت على بيع أسلحة بقيمة 20 مليار دولار لإسرائيل، وهو ما يشير إلى نتنياهو أنه يمكنه الاستمرار في تجاهل المطالب الأمريكية مع تلقي الدعم الأمريكي.
فبالرغم من حديث الولايات المتحدة عن رغبتها في إنهاء الحرب في غزة، تثار الشكوك حول مدى جدية واشنطن في ممارسة ضغط حقيقي على المسئولين الإسرائيليين لإجبارهم على وقف الحرب، خاصة في ظل عدم اتخاذ موقف حقيقي يجبر إسرائيل على إنهاء عملياتها العسكرية في غزة ووقف نزيف الدم الفلسطيني، مع استمرار الدعم المتواصل لإسرائيل بالسلاح، بالإضافة إلى توفير غطاء سياسي لها في مجلس الأمن من خلال استخدام حق النقض الفيتو.
وبالتالي، يسعى نتنياهو إلى الحصول على مزيد من الدعم الأمريكي السياسي والعسكري خلال الفترة المقبلة، أيًا كانت الإدارة الحاكمة، ديمقراطية أو جمهورية، خاصة في ظل تزايد التكهنات حول إمكانية اندلاع مواجهة بين تل أبيب وطهران، لضمان مساندة الإدارة الأمريكية لإسرائيل في حال اندلاع حرب إقليمية. وفي هذا الصدد، أشار تقرير لواشنطن بوست، بتاريخ 17 أغسطس، إلى أن الدعم الأمريكي غير المشروط الذي يتمتع به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الآن، والذي قد يؤدي لحرب إقليمية في الشرق الأوسط، ربما لا يدوم تحت قيادة جديدة، إذ يبدو أن نائبة الرئيس والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس أقل دعمًا لإسرائيل من الرئيس الحالي بايدن، ورغم أن المرشح الجمهوري دونالد ترامب كان أكثر دعمًا من بايدن لإسرائيل في أثناء رئاسته السابقة، فإن علاقته بنتنياهو متقلبة وغير مضمونة.
من جانب آخر، يخشى نتنياهو أن تؤثر توجهات الرأي العام الأمريكية السلبية في الدعم الأمريكي لإسرائيل، الأمر الذي يشهد تصاعدًا متزايدًا مع استمرار الحرب على غزة، حيث تظهر استطلاعات الرأي الأمريكية تراجعًا في تأييد الأمريكيين لدعم إدارة بايدن لإسرائيل، حيث كشف استطلاع للرأي أجراه “مجلس شيكاغو للشئون العالمية”، في أغسطس الجاري، أنه للمرة الأولى في السنوات الأخيرة يعارض 55% من الأمريكيين إرسال قوات أمريكية للدفاع عن إسرائيل.
أهداف استراتيجية التصعيد الإقليمي
يتضح أن نتنياهو كان يصوغ استراتيجيته الهجومية خلال الفترة الماضية انطلاقًا من عنصرين؛ يتمثل الأول: في الدعم الثابت من الولايات المتحدة، أما الثاني: فهو توحيد الجمهور الإسرائيلي سعيًا للرد على إيران والحفاظ على أمن إسرائيل، إلا أن الأهداف الحقيقية التي تقف خلف تلك الاستراتيجية تحمل أبعادًا متعددة، ويمكن إجمالها في التالي:
- إطالة أمد الحرب في قطاع غزة:
بات من الواضح أن إبقاء إسرائيل في حالة حرب يحقق العديد من أهداف نتنياهو، فهو يغطي على الفشل الأمني الذي ينكره نتنياهو، وعلى الصعيد الآخر يحميه طول أمد الحرب من الملاحقة القضائية وتهديد مصيره السياسي.
علاوة على ذلك، فإن بعض التقديرات تشير إلى أن نتنياهو خطط منذ بدء الحرب لإطالة أمدها، حيث ذكر ياجيل ليفي في مقال له بصحيفة هآرتس في يونيو الماضي، أن نتنياهو عقد مشاورة سرية مع مستشارين استراتيجيين بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب، وأخبرهم بأن هدفه هو شن حرب طويلة الأمد لتأخير التحقيق في دوره بالكارثة العسكرية وضمان بقاء حكومته. واعترف نتنياهو، وفقًا للكاتب، بأن هدف تدمير قدرات حركة حماس العسكرية والسلطوية غير واقعي، لكن أي هدف واقعي من شأنه تقصير مدة الحرب.
كانت المقامرة السياسية لنتنياهو تتمثل في استمرار الحرب لأطول فترة ممكنة حتى يتحقق أي انتصار ولو رمزيًا لإنقاذه من مصيره المحتوم، لكن بعد إخفاقه في تحقيق أي انتصار، لم يصبح أمامه سوى اللجوء للتصعيد الإقليمي بالتزامن مع إطالة أمد الحرب، ليضمن بذلك استمرارها لأطول فترة ممكنة، نظرًا لكونها الطريقة الوحيدة لبقائه في السلطة.
- عرقلة مفاوضات وقف إطلاق النار :
يبذل نتنياهو كل الجهد لعرقلة التفاوض بشأن التوصل لهدنة في قطاع غزة، إدراكًا منه بأن تحقيق الهدنة ليس في مصلحته، فقد دأب على عرقلة مفاوضات وقف إطلاق النار مع حماس بشكل صارخ، لدرجة أن فريقه اتهمه بتقويض المفاوضات، كما اتُهم من قبل قادة الأجهزة الأمنية بعرقلة المفاوضات من أجل البقاء في السلطة، إذ يجد نتنياهو في المفاوضات فرصة مثالية للاستمرار في محاولاته لمد أجل التفاوض ووضع المزيد من الشروط المرة تلو المرة سعيًا لإطالة أمد الحرب وإفشال أي مسعى لإنهائها.
ولعل الأمر الأكثر إحباطًا يعد موقف نتنياهو المتناقض تجاه مفاوضات وقف إطلاق النار مع حماس، فالقادة الإسرائيليون يطالبون بوقف مؤقت للقتال، الذي استنفذ قواتهم، كما أن وقف إطلاق النار في غزة من شأنه أن يقلل إلى حد كبير من خطر اندلاع حرب إقليمية. في السياق ذاته، كانت حماس وإسرائيل قد اتفقتا مبدئيًا على خطة سلام أعلن عنها بايدن والتي ستبدأ بوقف إطلاق النار لمدة ستة أسابيع، والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين المسنين والجرحى والنساء في غزة، فضلًا عن الانسحاب العسكري الإسرائيلي من المناطق المأهولة بالسكان في قطاع غزة. ولكن الاتفاق النهائي لا يزال بعيد المنال بشكل محبط، ووفقًا لوثائق إسرائيلية ذكرتها صحيفة نيويورك تايمز، فإن جزءًا من المشكلة هو أن نتنياهو أعاد النظر في موقف إسرائيل التفاوضي، فتراجع عن التنازلات التي كان قد وافق عليها في مايو.
- تقوية موقف نتنياهو في الداخل الإسرائيلي:
يواجه نتنياهو انتقادات متزايدة في الداخل الإسرائيلي بسبب إخفاقه في تحقيق أي انتصار حتى الآن خاصة فيما يخص استعادة الرهائن المحتجزين لدى حماس، ويطالب معظم الإسرائيليين باستقالته عقب انتهاء الحرب في قطاع غزة، لذلك يسعى نتنياهو لاستغلال التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران لتقوية موقفه في الداخل، حيث توفر له الأحداث الحالية وسيلة لإعادة تقديم نفسه كمدافع صالح عن إسرائيل في نظر الجمهور الإسرائيلي والمجتمع الدولي. وكعادته، استخدم نتنياهو استراتيجية تصعيد التوترات للخروج من مأزق الفشل وترسيخ زعامته للحكومة الإسرائيلية.
ومن اللافت للانتباه، أن نتنياهو نجح في كسب تأييد الجمهور الإسرائيلي في تصعيده ضد إيران، حيث نشر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي “INSS” بتاريخ 18 أغسطس نتائج استطلاع كشف من خلالها نسبة الإسرائيليين المؤيدين لنشاط عسكري مباشر ضد إيران. حيث أظهر أن 44% من المستطلع أرائهم يؤيدون عملًا عسكريًا إسرائيليًا مباشرًا ضد إيران، في حين يعتقد معظم المشاركين أنه ينبغي تجنب التصعيد في المنطقة. وفي السياق ذاته، أثرت حالة التصعيد مع إيران في شعبية نتنياهو في استطلاعات الرأي، إذ أظهر استطلاع رأي أجرته صحيفة معاريف بتاريخ 16 أغسطس أن هناك 40% من الإسرائيليين يقولون: إن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو هو المفضل لرئاسة حكومة الاحتلال مقابل 39% لصالح بيني جانتس.
وعلى الرغم من ذلك، شهدت الأيام الأخيرة خروج عائلات الأسرى في تظاهرات في تل أبيب، من أجل مطالبة الحكومة بإبرام صفقة تبادل مع المقاومة في قطاع غزة. حيث رفع المتظاهرون لافتات منددة بعدم التوصل إلى اتفاق حتى الآن من أجل تبادل الأسرى مع حركة حماس، متهمين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإفشال صفقة تبادل المحتجزين.
- الحصول على مزيد من الدعم الأمريكي:
في ظل التصعيد المستمر بين تل أبيب وطهران، يعد الجانب الأكثر أهمية في الدعم الأمريكي بالنسبة لإسرائيل هو الجانب العسكري والمالي، فإسرائيل لا تملك القدرة اللوجستية اللازمة لخوض حرب طويلة من دون الدعم العسكري والاستخباراتي من الولايات المتحدة، ويعتبر هذا الدعم بمثابة شريان حياة نتنياهو، وهو ما يسعى لضمان استمراره في حال تم شن الحرب ضد إيران.
وعلى الرغم من أن الدعم الأمريكي لإسرائيل هو دعم ثابت وراسخ، فإن ما يقلق نتنياهو هو مدى قوة هذا الدعم، خاصة في ظل المعارضة المتزايدة في الداخل الأمريكي للحرب على قطاع غزة، وفي ظل اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية المقبلة، وهو ما يدفع بضرورة قيام إسرائيل بالحصول على ضمانات من أجل المزيد من الدعم الأمريكي على كافة المستويات في حال اندلعت الحرب ضد إيران.
وما يعزز من قلق نتنياهو، هو أن الدعم الأميركي غير المشروط الذي يتمتع به رئيس الوزراء الإسرائيلي ربما لا يدوم تحت قيادة جديدة، إذ يبدو أن المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس أقل دعمًا لإسرائيل من الرئيس الحالي بايدن، ورغم أن المرشح الجمهوري دونالد ترامب كان أكثر دعمًا من بايدن لإسرائيل في أثناء رئاسته السابقة، فإن علاقته بنتنياهو متقلبة. وعلى الصعيد الآخر فإن دعم بايدن المستمر لسياسات إسرائيل التصعيدية في المنطقة يجعلها أكثر جرأة، وقد يؤدي إلى انحدار أكبر في دعم الأمريكيين لإسرائيل، مما سيقلل حظوظها تحت إدارة أمريكية جديدة.
وقد جاءت زيارة نتنياهو لإلقاء خطاب في الكونجرس الأمريكي في الشهر الماضي، كمحاولة لضمان استمرار الدعم الأمريكي في ظل الظروف الاستثنائية الحالية، حيث إن هناك تزايدًا في حدة الانقسام السياسي الأمريكي، فضلًا عن التغييرات الملحوظة في تحرك اليسار الأمريكي الرافض لسياسة الولايات المتحدة التقليدية المؤيدة لإسرائيل وتأثير ذلك في الحزب الديمقراطي. بالإضافة إلى ذلك، فقد تزامن الخطاب مع خروج التظاهرات الحاشدة المؤيدة للفلسطينيين، إذ تجمع الآلاف رافعين أعلامًا فلسطينية وشعارات مؤيدة للفلسطينيين ومُدينة لإسرائيل وللسياسة الأمريكية الداعمة لها واتهموا نتنياهو بأنه مجرم حرب، بينما اتهم نتنياهو هؤلاء في خطابه بأنهم ممولون من إيران وأنهم يخدمون أجندتها وأجندة حماس.
في السياق ذاته، تواجه الإدارة الأمريكية العديد من الانتقادات على مستوى الخطاب الداخلي بسبب الدعم المطلق لإسرائيل في حربها على غزة، حيث نشرت دورية فورين بوليسي الأمريكية تقريرًا بتاريخ 10 أغسطس انتقدت فيه فشل سياسة وزارة الخارجية الأمريكية الأخير في الشرق الأوسط إلى دعم إدارة جو بايدن غير المشروط لإسرائيل، إذ زعزع ذلك من مكانة الولايات المتحدة ومصداقيتها في المنطقة، وحذرت من أن تلك السياسة قد تجر بها إلى حرب لن يستفيد منها إلا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي ستتيح له الحرب مواصلة الإبادة الجماعية في غزة، والسيطرة على الضفة الغربية.
- إرضاء أعضاء اليمين المتطرف للحفاظ على حكومة نتنياهو:
في حين تطالب الإدارة الأمريكية وقادة المؤسسات الأمنية في إسرائيل نتنياهو بضرورة الإسراع لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، فإن العقبة الرئيسية التي تقف أمام تلبية هذه المطالب تتمثل في حاجة نتنياهو الماسة إلى استرضاء وزراء اليمين المتطرف في حكومته، وعلى رأسهم إيتامار بن جفير وبتسلئيل سموتريتش. حيث أعلنا من قبل أنهما سينسحبان من الائتلاف الحاكم في حال رضخ نتنياهو لمطالب الولايات المتحدة، وهي خطوة من المؤكد أنه سيعقبها انهيار الحكومة والإعلان عن انتخابات مبكرة، من المرجح أن ينهزم فيها نتنياهو نظرًا لحالة الفوضى والاضطربات التي يشهدها الشارع الإسرائيلي حاليًا.
وفي محاولة لاسترضاء أعضاء اليمين المتطرف في حكومته، أكدت وسائل إعلام إسرائيلية أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يجري مشاورات سياسية لضمان عدم تأثير إبرام صفقة التبادل في ائتلافه الحكومي. وقال موقع هيئة البثّ العامة الإسرائيلية “مكان”: إن نتنياهو ينوي إرسال رسائل إلى الوزيرين المعارضَين للصفقة، وهما وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، ووزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، ليطلب منهما عدم تفكيك الحكومة. وبحسب الموقع، يتلخص طلب نتنياهو من سموتريتش وبن غفير في عدم تفكيك الحكومة خلال عطلة الكنيست، بحال إبرام الصفقة، وانتظار استئناف الحرب بعد 42 يومًا، في نهاية المرحلة الأولى من الصفقة، على أن يتخذا بعدها قرارهما بشأن الصفقة. وهو ما يؤكد نية نتنياهو الالتفاف على أي اتفاق لوقف إطلاق النار، لكونها تتقاطع مع اتهامات خصومه له بتقديم بقاء حكومته على أي اعتبارات أخرى.
- لفت الأنظار عن الخلافات المتصاعدة بين الحكومة الإسرائيلية والمؤسسات الأمنية:
شهدت الفترة الأخيرة خلافات حادة بين الائتلاف الحاكم بقيادة نتنياهو وبين قادة المؤسسات الأمنية في إسرائيل، حيث تتخوف المؤسسة العسكرية والأمنية من فقدان إسرائيل نتائج الإنجازات العسكرية على الأرض بسبب الاعتبارات السياسية الداخلية، وتتهم نتنياهو بتعمد عرقلة المفاوضات لوقف إطلاق النار مع حماس وعقد صفقة للإفراج عن الرهائن المحتجزين لدى حماس.
وفي إطار ذلك، أشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى اعتزام نتنياهو إقالة جالانت من منصبه كوزير للدفاع، وكان مقررًا أن ينفذ الإقالة بعد عودته من واشنطن، حسبما ذكرت هيئة البث الإسرائيلية، لكن عمليتي اغتيال إسماعيل هنية القيادي بحركة حماس وفؤاد شكر بحزب الله عرقلتا الأمر، كما أشارت إلى أن هناك مخاوف من سعي نتنياهو لتشكيل مستوى عسكري وأمني ينفذ أوامره.
لذلك، فإن التصعيد الإسرائيلي الإيراني قد يصرف الأنظار عن الانقسامات الداخلية في إسرائيل ويعطي نتنياهو المجال للتغطية على الخلاف الحاد المندلع مع المؤسسات الأمنية والذي قد يسفر عن مزيد من التوتر في الداخل الإسرائيلي ويضعه في مأزق الاختيار ما بين إرضاء أعضاء اليمين المتطرف في حكومته والحفاظ على مصيره السياسي من جانب، وما بين تخفيف حدة الخلاف مع المؤسسات الأمنية وعقد صفقة الأسرى من جانب آخر.
- صرف الأنظار عن مواصلة المخططات الاستيطانية في الضفة الغربية:
تعمل الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو على إعادة رسم خريطة الضفة عبر الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، وتوسيع المستوطنات، ومواصلة عمليات التهجير القسري للتجمعات والقرى الفلسطينية في عموم الضفة الغربية، بهدف القضاء على أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة مستقبليًا. وقد شهد العام الحالي، وخاصة بعد اندلاع الحرب على غزة، قيام إسرائيل بتوسيع النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية بوتيرة غير مسبوقة، لذلك فإن اندلاع صراع إقليمي في الوقت الراهن سيتيح المجال للحكومة الإسرائيلية لتنفيذ سياستها الاستيطانية بمزيد من الحرية.
فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، استغلت حكومة نتنياهو الانشغال بالحرب وتم تكثيف البناء الاستيطاني والممارسات العنيفة للمستوطنين في أنحاء الضفة الغربية، حيث شهد العام الحالي موافقة الحكومة على مصادرة الأراضي الاستراتيجية، فاستولت بالفعل على 6 آلاف فدان، كما قامت ببناء مستوطنات كبرى، والتعجيل بهدم العقارات المملوكة للفلسطينيين، وزيادة دعم الدولة للبؤر الاستيطانية المبنية بشكل غير قانوني.
وخلال الأشهر الـ 19 الماضية، وافق المجلس الأعلى للتخطيط الإسرائيلي بالكامل على ما يقرب من 12 ألف وحدة سكنية في المستوطنات، مقارنة بما يزيد قليلا عن 8000 وحدة في العامين السابقين، وفقًا لمنظمة “السلام الآن”. وتم إضفاء الشرعية على عدد متزايد من البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية غير القانونية بموجب القانون الإسرائيلي، وقد استولت الدولة على مساحات كبيرة من الأراضي.
كما أدت سياسة الاحتلال الإسرائيلي القائمة على الضم والاستيطان إلى تهجير 40 تجمُّعًا وقرية في الضفة الغربية، كان آخرها قرية أم الجمال بالأغوار الشمالية. وحذرت الخارجية الفلسطينية من عمليات التهجير التي ترقى لمستوى جرائم التطهير العرقي، وتندرج في إطار الضم التدريجي الزاحف للضفة الغربية، وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين، لتخصيصها للاستيطان والسيطرة على الثروات الفلسطينية، بهدف منع إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
- استعادة الردع وإضعاف قدرات إيران:
يأتي اغتيال كلٍ من شكر وهنية ليهدف بالأساس إلى استعادة الردع ضد إيران، وإرسال رسالة مفادها أن إسرائيل قادرة على العمل في طهران وبيروت، وعلى الرغم من أن سياسة الاغتيالات المزدوجة قد تؤدي إلى إشعال الحرب، فإنها يمكن أن تحقق العديد من الأهداف الإسرائيلية، بما في ذلك إضعاف البرنامج النووي الإيراني والقوة العسكرية التقليدية، وقد يؤدي ذلك أيضًا إلى إضعاف شركاء طهران الإقليميين، مثل حزب الله وحماس.
إضافة إلى ذلك، فالتصعيد مدفوع برغبة إسرائيل في تحقيق توازن إقليمي، خاصة في ظل تربص إيران بحالة الضعف والانقسام التي أصابت إسرائيل، والتي تجد فيها فرصة جيدة لاستغلالها في الوقت الراهن، خاصة مع إدراكها أن إسرائيل لن تتمكن من خوض معركة ضدها أو مهاجمة برنامجها النووي من دون دعم أمريكي، وبالتالي فإن علاقة إيران بالولايات المتحدة ستظل عنصرًا حاكمًا، مع الأخذ في الاعتبار النظام الإيراني الجديد الذي يؤمن أن مصلحة إيران تكمن في إدامة العلاقة مع الإدارة الأمريكية وطرح مفهوم المصالح المشتركة مع أي إدارة قادمة، وهذا ما تضمنته الرؤية السياسية للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، بالإضافة إلى عدم رغبة الإدارة الأمريكية الانخراط في حرب بالشرق الأوسط.
إجمالًا، إن التصعيد المتعمد من قبل إسرائيل وتبنيها للسياسة الاستفزازية تجاه إيران ووكلائها بالمنطقة تعرض مستقبل إسرائيل والمنطقة للخطر، فتحويل الحرب على قطاع غزة إلى صراع إقليمي سيجر المنطقة بأكملها إلى حرب شديدة الخطورة، ويتعين على نتنياهو أن يدرك أن الحرب الإقليمية إذا بدأت فستواجه إسرائيل جبهات متعددة أقوى وأشرس من قطاع غزة، مما سيؤدي إلى تداعيات اقتصادية وأمنية واجتماعية هائلة على إسرائيل، وقد يكون إنهائها بالغ الصعوبة، بمعنى آخر قد تكون بداية النهاية لدولة إسرائيل، وفي كل الأحوال سيظل أخطر ما تواجهه الدولة العبرية هو سياسة نتنياهو التي تعتمد على عنصر المصلحة الشخصية الذي يدفع به لإشعال حرب إقليمية في سبيل الحفاظ على مصيره السياسي، وهو ما قد يفضي في نهاية المطاف إلى دمار إسرائيل وتهديد أمن الشرق الأوسط بأكمله.