بقدر المكاسب التي حملتها عملية “طوفان الأقصى” وتبعاتها العسكرية في قطاع غزة للمصالح الروسية، من خلال تحويل انتباه الغرب ولا سيما الولايات المتحدة، ولو بشكل جزئي، بعيدًا عن الجبهة الأوكرانية التي اعتمدت بشكل أساسي على الإمدادات العسكرية والاقتصادية الغربية، وإظهار ازدواجية المعايير الغربية، ومحاولة لعب دور وساطة وطرح نفسها كوسيط وشريك دبلوماسي أكثر موثوقية وحيادية بغرض تأكيد دورها كفاعل رئيسي في الشرق الأوسط؛ إلا أنها لا ترغب في اتساع نطاق الحرب وامتدادها إلى دول أخرى بالمنطقة تجنبًا لتهديد مصالحها الاستراتيجية. وعليه، تناقش الورقة المخاوف الروسية من احتمالات التصعيد في الشرق الأوسط ومساعي الكرملين لضبطه.
مخاوف روسية
بينما يترقب الشرق الأوسط بين الفينة والأخرى انفجار الأوضاع نحو صراع إقليمي أوسع ارتباطًا باحتمالات الرد المتوقع على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس السابق إسماعيل هنية، وهي مواجهة ربما يستعجلها بعض الأطراف الإقليمية والدولية كجزء من مساعي إعادة هندسة المنطقة؛ تسعى روسيا لضبط التصعيد منعًا لانفلات الأوضاع بما يفرض صيغًا إقليمية وتوازنات مغايرة لمعادلة النفوذ القائمة التي حصلت بموجبها موسكو على نفوذ سياسي وعسكري تُمثل سوريا ركيزته الأساسية، ويقوم على أساس التوازن بين القوى الإقليمية الرئيسية المتنافسة. ويُمكن استعراض المخاوف الروسية من اندلاع مواجهة إقليمية كالتالي:
• فتح جبهة جديدة لقواتها: لا ترغب موسكو في رؤية قواتها المتمركزة بالشرق الأوسط وبالأخص داخل قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية في مرمى معركة جديدة تؤدي لتشتيت المجهود الحربي الروسي، بينما لا تزال الجبهة الأوكرانية مفتوحة. فرغم نأي سوريا بنفسها عن التصعيد الإقليمي الحالي، إلا أن اندلاع حرب على الجبهة الشمالية بين إسرائيل وحزب الله ربما يمتد إلى سوريا، ما يفرض على موسكو وطهران وتل أبيب ضرورة التنسيق وتبادل المعلومات الاستخباراتية والعسكرية بشأن مسار المقاتلات والصواريخ والمُسيرات لتجنب المرور بالمجال الجوي للقواعد الروسية، أو الإضرار بقواتها وأصولها العسكرية من منشآت وأسلحة. لكن لمَّا كان عدم اليقين السمة الرئيسية لمسار المواجهات العسكرية فإن انفلاتها واتساع أطرافها يظل احتمالًا قائمًا، لذلك تبقى المخاوف الروسية قائمة بشأن تعرض مصالحها للتهديد العسكري المباشر ما يُجبرها على الانخراط في المعارك.
• انهيار حلفائها الشرق أوسطيين: تحرص موسكو على هندسة رد الفعل الإيراني بحيث لا يتجاوز رد الاعتبار، مع إيلاء الوكلاء الإقليميين المسئولية الأكبر للرد، انطلاقًا من إدراكها فداحةَ تكاليف ومخاطر اندلاع حرب بالشرق الأوسط بين إيران وإسرائيل اتصالًا بحقيقة أن الأخيرة وحليفتها الولايات المتحدة لن تنهيها سوى بإخراج إيران تمامًا من معادلة توازن القوى الإقليمية وتدمير أذرعها العسكرية في المنطقة، ما يعني خسارة موسكو حليفًا إقليميًا مهمًا عمل كمورد عسكري منذ اندلاع الحرب الأوكرانية عندما زودتها طهران بمسيرات وصواريخ باليستية، كما ساهم تحالفهما الاستراتيجي في تحسين القدرة الروسية على تحمل العقوبات الدولية.
وعليه، فإن حربًا إقليمية تعني فقدان إيران قدرتها على الاستمرار في العمل كمورد عسكري لروسيا اتصالًا باستنزاف قدراتها العسكرية المحدودة أساسًا، وحاجتها لحشد ترسانتها من المسيرات والصواريخ لصد العدوان الخارجي كونهما يُمثلان العمود الفقري لقواتها المسلحة، بل على العكس ربما تطلب دعمًا عسكريًا روسيَّا يتضمن الحصول على أنظمة الدفاع الجوي الروسية المتقدمة والمقاتلات الحديثة، بينما تبدو قدرة الأخيرة على تقديمه محدودة خلال الوقت الراهن، كما أن إضعاف شريك استراتيجي كطهران بمثابة خسارة إحدى الأوراق التي توظفها موسكو في إدارة خصومتها مع واشنطن داخل ساحات التنافس المختلفة من الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية مرورًا بأسيا الوسطى والقوقاز.
علاوةً على أن احتمالات تحول سوريا لساحة صراع مباشر أو بالوكالة ربما تدفع إسرائيل لتدمير نظام حليف استثمرت روسيا الكثير سياسيًا وعسكريًا لتثبته، ويسمح بتوسع النفوذ الغربي داخل سوريا ومن ثم يُفقد موسكو دولة تشكل ركيزة أساسية لنفوذها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، كما قد يضطر حزب الله اللبناني حال نشوب حرب واسعة مع إسرائيل إلى استدعاء جزء من مقاتليه الموجودين الآن في سوريا إلى لبنان، بما يُضعف الجماعات الداعمة للحكومة السورية في مواجهة خصومها الداخليين من فصائل ومليشيات مُعارضة، ومن ثم زعزعة استقرار حكومة الأسد.
• اختلال التوازن في العلاقات مع إسرائيل: أقامت روسيا علاقات متوازنة مع إسرائيل منذ انتهاء الحرب الباردة ومنحت إسرائيل قدرًا كبيرًا من حرية العمل في السماء السورية لتقويض التخندق الإيراني العميق على الأراضي السورية عبر إنشاء آلية إسرائيلية روسية لفض النزاع منعت بشكل فعال حالات النيران الصديقة، وذلك رغم علاقتها الاستراتيجية بإيران والإيجابية بوكلائها الإقليميين مثل حزب الله وحماس والحوثيين، لكن حربًا إيرانية إسرائيلية سوف تخل بالتوازن القائم وتضطر روسيا للاصطفاف إلى جانب الأولى بما قد يدفع إسرائيل لتقديم دعم مباشر لأوكرانيا وهي التي تبنت سياسة “التوازن الحذر” مكتفية بتقديم المساعدات الإنسانية والإمدادات المحدودة من أنظمة الإنذار بالغارات الجوية إلى الجانب الأوكراني دون الانسياق لمطالب كييف بتزويدها بالدبابات وأنظمة الدفاع الجوي، وفرض عقوبات على روسيا أو قطع العلاقات الدبلوماسية معها، وذلك رغم الهزة التي اعترت العلاقات الروسية الإسرائيلية نتيجة الحرب ولا سيَّما بسبب علاقات التعاون الدفاعي بين روسيا وإيران.
• الإضرار بالعلاقات الروسية الخليجية: تنصرف سياسة الموازنة الروسية إلى العلاقات بدول الخليج، التي ارتفعت إلى مستويات أكثر رسوخًا بعد الحرب الأوكرانية في ظل التوجه الاستراتيجي الخليجي لتنويع الشراكات الدولية، والمصالح الاقتصادية بين روسيا والسعودية والإمارات داخل تجمع “أوبك بلس”. وعلى غرار الحالة الإسرائيلية، فإن الانحياز الروسي المحتمل لإيران خلال أي مواجهة إقليمية يضر بالمصالح الروسية مع الخليج، لا سيَّما أن بُعدها الاقتصادي يكتسب أهمية كبيرة لتخفيف وطأة العقوبات الغربية؛ إذ لعبت أطراف خليجية دورًا في تسهيل الالتفاف على العقوبات وشحن أورق نقدية بالدولار واليورو إلى موسكو، كما تُعد دول الخليج أحد المصادر الرئيسية للاستثمار في روسيا، حيث تستحوذ السعودية والإمارات وقطر على نصيب كبير من إجمالي حجم الاستثمارات العربية داخل روسيا، ويتركز معظمها في قطاعات الغاز والنفط والعقارات والبنية التحتية والخدمات اللوجستية والغذاء.
• زيادة الحشد العسكري الأمريكي: بلغت الحشود العسكرية الأمريكية بالشرق الأوسط مستويات غير مسبوقة فهي الأضخم من حيث التجهيزات والقدرات القتالية منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، كما أنها تُعد أكبر تجمع للقدرات البحرية والجوية الأمريكية في التاريخ الحديث، كونها تتضمن حاملات طائرات وغواصات نووية مجهزة بصواريخ هجومية ومقاتلات من أحدث الطرازات وسفن تجسس واستطلاع، بما يخل بمستوى “التكافؤ الاستراتيجي” مع الولايات المتحدة الذي تسعى موسكو لترسيخه في الشرق الأوسط من خلال تعزيز وجودها الدفاعي على أساس الوصول إلى القواعد العسكرية والعمل كمورد رئيسي للسلاح لدول المنطقة وتوظيف قواتها شبه العسكرية مثل فاجنر.
• إضعاف المليشيات الإيرانية: تمتلك موسكو علاقات وثيقة بوكلاء إيران الإقليميين مثل حزب الله والحوثيين وغيرهم، وتنظر إليهم باعتبارهم إحدى أوراق إدارة المنافسة مع الولايات المتحدة بالشرق الأوسط كجزء من الاعتماد الروسي الأوسع على القوات شبه العسكرية في تنفيذ سياستها الخارجية، لتقليل الكلفة السياسية والمادية لتدخلاتها في إطار استراتيجية “العمل المحدود”، كما أنه يأتي ضمن اعتقاد الكرملين في أحقيته دعم الجماعات التي تقاتل الولايات المتحدة مثلما أمدت الأخيرة الجيش الأوكراني بأسلحتها. ولعل هذا التوجه الروسي يُفسر في أحد أبعاده اتجاه موسكو لتقديم المشورة والدعم العسكري للحوثيين باليمن، حيث تُشير الأنباء إلى زيارة ثلاثة من ضباط المخابرات العسكرية الروسية اليمن في أواخر يوليو الفائت لتقديم المشورة للحوثيين ومساعدتهم في تدريبات بالذخيرة الحية تم إلغاؤها لاحقًا، فضلًا عن الحديث بشأن اعتزام موسكو تزويد الحوثيين بصواريخ كروز مضادة للسفن قبلما تتراجع عن ذلك بسبب معارضة سعودية، كما يتجسد التعاون بين الروس والحوثيين في لقاء وفد حوثي بقيادة المتحدث باسم الجماعة محمد عبد السلام بنائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف خلال يوليو الماضي، سبقه لقاء مماثل في 25 يناير الماضي. وبالنظر إلى الدور المحوري المتوقع أن تلعبه الأذرع الإيرانية في حرب إقليمية محتملة فإنها ستكون عرضة للإنهاك والتدمير ما يُفقد موسكو إحدى أوراقها الرابحة.
• تنامي النفوذ الصيني بالشرق الأوسط: رغم اتفاق رؤية موسكو وبكين بشأن ضرورة تغيير قواعد النظام الدولي الحالي والانتقال إلى نظام أكثر انصافًا، ورغم اعتبارهما الشرق الأوسط إحدى الساحات المحورية التي يُعاد على مسرحها صياغة معادلات النفوذ وتغيير موازين القوى بين القوى الكبرى، ومن ثم ميلهما لإقامة علاقات تعاونية وتكاملية في المنطقة، إلا أن هذا لا يعني غياب الميول التنافسية وتباينات المصالح التي قد تبرز خلال مراحل لاحقة. وعليه، تخشى موسكو من أن يدفع أي تصعيد إقليمي بدور أكبر لبكين في الشرق الأوسط على غرار العمل كوسيط لتحقيق التقارب بين المملكة العربية السعودية وإيران في مارس 2023، والتوصل إلى اتفاق بين حماس وفتح وعشرات الفصائل الفلسطينية الأخرى في يوليو الماضي، ما يُثير حساسيات بشأن التعدي على نفوذها في الشرق الأوسط.
ختامًا، رغم أولوية الحرب الأوكرانية للسياسة الخارجية الروسية، إلا أن الكرملين لا يستطيع تجاهل التطورات اليومية في الشرق الأوسط نظرًا لتأثيراتها على معادلة توازن القوى القائمة، وربما ترمي الجهود الروسية خلال المرحلة المقبلة إلى تثبيط التصعيد عبر فرض توازن سياسي في مقابل التحشيد العسكري الأمريكي، وضمان عدم الإخلال بمستوى شراكتها التوازنية بالأطراف الإقليمية المتعارضة، مع الاحتفاظ بقدرتها على التأثير على مجريات الأوضاع في المنطقة.