الأوضاع الإقليمية المتصاعدة تلقي بظلالها على أزمة سد النهضة وما يمثله من خطورة على استقرار المنطقة، فما تفعله دولة إثيوبيا يعد جريمة دولية، وذلك بحجب المياه عن دولتي المصب ومنها مصر، فتأتي مسألة نهر النيل على رأس أولويات الدولة المصرية، فمنذ بدء التاريخ ومصر هبة النيل، فقد هيأت مياه النيل على ضفتي النهر واحدة من أقدم الحضارات التي عرفتها البشرية، فنهر النيل من أطول أنهار العالم ويتشارك في النهر إحدى عشرة دولة.
ويعد سد النهضة ذات تأثير مباشر في الأمن القومي المصري، فنهر النيل هو مصدر الحياة والتنمية لمصر، والأمن المائي المصري مرتبط ارتباط وثيق بتأمين حصة مصر من مياه النيل، وهو ما يزداد خطورة يومًا بعد يوم على دولتي المصب السودان ومصر نتيجة حجم التخزين الكبير (أكثر من 57 مليار متر مكعب وسيصل إلى 64 مليار متر مكعب)، فاستمرار النهج الإثيوبي مثير للقلاقل مع جيرانها ومهدد لاستقرار الإقليم، فدولة إثيوبيا تستخدم المفاوضات كغطاء لتكريس الأمر الواقع، وهو ما ترفضه الدولة المصرية جملة وتفصيلًا ويعد سببًا جوهريًا لمصر والسودان لمطالبة المجتمع الدولي ومجلس الأمن للقيام بمسئولياتهم لحفظ الأمن والسلم في المنطقة.
فمنذ بدء إنشاء سد النهضة 2011 حتى الآن 2024 نرى أن المفاوضات تتسم بعدم القدرة على الحراك أو التقدم، وهو ما يعد جمودًا سياسيًا بسبب تعنت الجانب الإثيوبي لغياب الإطار القانوني الجامع الذي يحظى بقبول الجميع؛ مما يفتح مجالًا للصراع المائي الدولي بين دول حوض النيل.
مما يمكن معه إقامة المسئولية الدولية تجاه إثيوبيا وتكون تلك المسئولية موضوعية تؤسس على فكرة الضرر، وكذلك مسئولية شخصية تؤسس على فكرة الخطأ وذلك استنادًا إلى عدة نقاط:
أولًا: تأخذ إثيوبيا في أفعالها بنظرية السيادة المطلقة على نهر النيل وكأنه نهر داخلي وليس نهرًا دوليًا وهو ما يخالف قواعد القانون الدولي، فلم يتم تطبيق تلك النظرية على أي نهر دولي، فكل المعاهدات والاتفاقيات الدولية أخذت بالانتفاع المشترك لمياه النهر الدولي والتوزيع العادل والمنصف للمياه والمحافظة على الحقوق التاريخية المكتسبة والتشاور قبل البدء في أي أعمال والإخطار المسبق ونبذ السيادة المطلقة والتصرفات الأحادية الجانب وتبادل المعلومات وعدم إحداث ضرر بالغير ومنها:
أ- إخلال إثيوبيا بواجب الحفاظ على الحقوق التاريخية المكتسبة:
حيث ذهبت محكمة العدل الدولية في القضية بين المملكة المتحدة وأيسلندا 25 يونيو 1974، ونصت على ضرورة الموازنة بين مصالح الدول المعنية بشكل عادل وبطريقة ليس فيها النظر لمصلحة دولة على حساب دولة أخرى مع مراعاة الحقوق المكتسبة.
ب- الإخلال بواجب التشاور المسبق وضرورة التفاوض والتشاور على أساس حسن النية والاتفاق على مثل تلك الأعمال.
ج- الإخلال بواجب عدم الإضرار.
د- الإخلال بالتوزيع العادل والمنصف.
فرغبة إثيوبيا في التنمية ببناء السد وتشغيله يخالف مبدأ الاستعمال البريء الذي يقضي بعد استعمال الأنهار الدولية بطريقة تحدث ضررًا بالدول الأخرى، فكل دولة مسئولة نحو المجتمع الدولي ونحو الدول الأخرى ومواطنيها عن المخاطر والخسائر الناتجة عن أفعال استثنائية تكون داخل إقليم الدولة أو تحت إشرافها.
كذلك كل ما تقوم به إثيوبيا بتصرف صادر عن إرادتها المنفردة والرغبة لفرض الأمر الواقع على دولتي المصب في تحد سافر للإرادة الجماعية للمجتمع الدولي. فالنهج الإثيوبي والتصرفات الأحادية المستمرة مخالف لقواعد القانون الدولي، فلا بد ألا يخالف مضمون التصرف قواعد النظام العام الدولي.
وتعد أيضًا أهداف الدولة الإثيوبية السياسية الحقيقية والتي ترمي إلى أسر نهر النيل والتحكم فيه وتحويله من نهر عابر للحدود جالب للحياة إلى أداة سياسية لممارسة النفوذ السياسي وبسط السيطرة، وهو ما يهدد تقويض السلم والأمن في المنطقة، فالسيطرة الأحادية الجانب على مورد مياه مشترك من قبل دولة ما، يعد تغولًا على حصة دولة أخرى وانتهاكًا لمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول للموارد المشتركة.
فكون إثيوبيا دولة منبع ليس من شأنه التصرف بالإرادة المنفردة على نهر النيل، فهو نهر دولي يشارك فيه عدة دول.
ثانيًا: في حالة ادعاء إثيوبيا أنها تفعل ذلك للتنمية، وأن ذلك حقها المشروع فذلك مردود عليه بالمسئولية الدولية للنتائج الضارة الناشئة عن أفعال لا يحظرها القانون الدولي أو ما يعرف (بنظرية المخاطر).
فالدولة وهي تحاول أن تلحق بركب التطور التقني قد تنحو إلى استخدام عدة أفعال مشروعة، إلا أنها تُلحق في ذات الوقت ضررًا بالغًا بأقليم دولة أخرى، فتتحقق المسئولية الدولية تجاه الدولة وفقًا لنظرية المخاطر وذلك بالنظر إلى الأضرار التي أصابت دولة أخرى، وهو ما يجعل القواعد الدولية مسايرة للتطور السريع للعلاقات الدولية فكل من استحدث خطرًا يكون مسئولًا عن الضرر الناتج عنه بغض النظر عن سبب وقوعه سواء حدث نتيجة خطأ أو إهمال أو بدون خطأ، حتى لو أثبت أنه اتخذ كل وسائل الحيطة والوقاية لمنع حدوثه وهو ما تنتهكه دولة إثيوبيا ولم تفعله منذ بدء إنشاء سد النهضة وتشغيله.
وتنطبق النظرية أيضًا على مخاطر تتسبب في ضرر جسيم عابر للحدود بسبب نتائجها المادية، فقد يصدر عن الدولة فعل يمثل خطورة استثنائية تترتب عليه أضرار بدولة أخرى ولو كان الفعل في ذاته مشروعًا فتقوم مسئولية الدولة وفقًا لنظرية المخاطر، وهو ما ينطبق على سد النهضة الإثيوبي، وما يسببه من مخاطر عابرة للحدود لدولتي المصب.
ولإقامة المسئولية الدولية فلا بد من توفر عنصر الضرر فهو عنصر جوهري والضرر في بعض الأحوال يتعذر إثباته، فإقامة إثيوبيا سد النهضة بإرادتها المنفردة دون التشاور مع باقي الدول وما يحدثه سد النهضة من أضرار مستقبلية على دول المصب يجعل من الصعب أن تطالب الدول المتضررة بإثباته، ومن ثَمّ يفترض في هذه الحالة على الدولة المسئولة إثبات عدم وقوع الضرر لإخلاء مسئوليتها، وفي هذه الحالة التي يُفترض فيها الضرر ينقل عبء الإثبات الى عاتق الدولة الأخرى المدعي عليها.
وهناك عدة سوابق للقضاء الدولي على نظرية المخاطر وهو ما يؤكد صلاحيتها لإقامة المسئولية الدولية في مواجهة دولة إثيوبيا:
- قضية بحيرة لانو Lanoux Lake :
حيث رغبت فرنسا في استخدام مياه (بحيرة لانو) التي تصب مياهها في مجرى ( نهر كارول ) الذي يجري في الإقليم الإسباني لإنتاج الطاقة الكهربائية بدون الاتفاق مع إسبانيا، وبينت المحكمة أن هذه الأعمال ستؤدي إلى مخاطر في حالة ما انتشرت في العالم مثل هذه التصرفات، ولم يتبين أنها تحمل مخاطر استثنائية في علاقة الجوار أو في استخدام المياه،
ولو أن المحكمة تبين لها أن هناك مخاطر ستلحق بإسبانيا وهذه المخاطر ذات طبيعة استثنائية لحملت فرنسا المسئولية.
- قضية GUT DAM:
النزاع بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية حول السد الذي يتم بناؤه بين الجزر الكندية والجزر الأمريكية، فقضت المحكمة المشكلة للفصل في الدعوى المتعلقة ببحيرة Ontario سنة 1968 بمسئولية كندا عن الأضرار التي لحقت بأمريكا حتى دون أن تخلص إلى وجود إهمال أو تقصير من كندا في هذا الخصوص.
وختامًا، ما تقوم به إثيوبيا من بناء وتشغيل سد النهضة وتخزين المياه هو عمل غير مشروع يحظره القانون الدولي وفقًا لنظرية العمل غير المشروع، وكذلك الإرادة المنفردة فيما تفعله دولة إثيوبيا وانتهاجها نظرية السيادة المطلقة، كل ذلك أفعال غير مشروعة يحظرها القانون الدولي، وتتحمل دولة إثيوبيا مسئولية قيامها بالاستغلال الضار للمياه متى قامت باستغلال نهر النيل استغلالًا يؤدي إلى المساس بالمصالح الحيوية لدول النهر الأخرى أو بأي منها وهو المتحقق فعليًا من أضرار سد النهضة على كلٍّ من مصر والسودان.
وفي حالة تحججت دولة إثيوبيا بأن ما تقوم به لا يخالف القانون الدولي لرغبتها كدولة في التنمية فمردود عليه أيضًا بأعمال نظرية المخاطر، والتي تنشئ المسئولية على عاتق الدولة حتى ولو كان مسلكها مشروع، إلا أن ذلك المسلك يمثل ضررًا وخطرًا على دول أخرى وهو الضرر والخطر العابر للحدود، فسد النهضة يمثل قنبلة مائية موقوتة؛ ففي حالة انهياره سيتسبب في خطر بالغ لدولتي المصب، كذلك حجب كمية كبيرة من المياه عن دولتي المصب في ظل أزمة شح مائي تؤثر في التنمية والحياة في مصر ويحرم السكان من الماء وهو ما يتمثل في إهلاك السكان وحرمانهم من المياه؛ مما يعد جريمة دولية وهو ما لا تقبل به الدولة المصرية شكلًا وموضوعًا، ويؤثر في الحق في الحياة، وهو من أهم الحقوق المؤكدة في كافة المواثيق الدولية فالاعتداء على الحق في الحياة يمثل جريمة دولية، فإذا كان نهر النيل يشكل لإثيوبيا التنمية فهو يمثل للدولة المصرية البقاء.
ولا يزال هناك طريق أخير وهو رد العدوان والضرر المتمثل في سد النهضة بالدفاع الشرعي عن حقوق مصر المائية، ويكون ذلك بإعمال الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بعد استنفاد كافة الطرق القانونية والسياسية والدبلوماسية.