بطاريات الليثيوم أيون تعد تقنية حيوية في التحول العالمي نحو مصادر الطاقة النظيفة والمستدامة، وتشهد نموًا مستمرًا بفضل اعتمادها في صناعات عديدة؛ مثل السيارات الكهربائية، الأجهزة الإلكترونية المحمولة، أنظمة تخزين الطاقة، والأجهزة الطبية. الأسواق العالمية لهذا القطاع تُقدر بمليارات الدولارات، وتتنافس عدة دول وشركات على الهيمنة في هذا المجال على رأسها الصين والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، إلا أنها يمكن أن تشكل خطورة في بعض الظروف إذا لم يتم التعامل معها أو استخدامها بشكل صحيح، رغم أنها آمنة إلى حد كبير في الاستخدام العادي، إلا أن هناك بعض المخاطر المتعلقة بالسلامة التي يجب الانتباه إليها حتى لا تتحول من مصدر للطاقة إلى تهديد محتمل.
بالأمس القريب دقت انفجارات أجهزة البيجر في لبنان وما تلاها من انفجارات في الأجهزة اللا سلكية ناقوس الخطر الذي يحذرنا من أن الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها يوميًا قد تتحول إلى أسلحة خطيرة. وقد يتعدى خطر هاتفك الذكي الذي لا تفارقه لحظة من التجسس على بياناتك الشخصية إلى هجمات إلكترونية أخطر بكثير.
فما شهدته لبنان من انفجارات غامضة لأجهزة اتصال (البيجر)، أسفر عن خسائر كبيرة في الأرواح. وأثارت هذه الحادثة تساؤلات حول مدى أمان الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها يوميًا، لا سيما الهواتف الذكية التي يمكن أن تخترق بسهولة. كما أن انفجار أجهزة (البيجر) يتطلب زرع مواد معينة فيها وتفعيلها عن بعد. وحاليًا أصبح التفكير باتجاه السيارات الكهربائية التي تستخدم تكنولوجيا بطاريات الليثيوم أيون نفسها أكثر أهمية، إذ إنها تعتبر حجر الزاوية في ثورة الطاقة المتجددة، ودعامة أساسية في التحول إلى اقتصاد أقل اعتمادًا على الوقود الأحفوري. فهي تشكل قلب السيارات الكهربائية والأجهزة الإلكترونية التي لا نستغني عنها في حياتنا اليومية.
بطاريات الليثيوم أيون
تُعتبر بطاريات الليثيوم أيون (Li-ion) واحدة من أبرز التطورات في مجال تخزين الطاقة، حيث تتميز بكفاءة عالية في تخزين الكهرباء مقارنة بالبطاريات التقليدية. تم اختراعها في أوائل التسعينيات وهي الآن تستخدم على نطاق واسع في الأجهزة الإلكترونية المحمولة مثل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسب الآلي المحمولة، وكذلك في مجالات تخزين الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، نظرًا لأدائها العالي وكثافة الطاقة العالية ووزنها الخفيف. فبدأت تستخدم في العديد من التطبيقات.
بدأ تطوير بطاريات الليثيوم أيون في السبعينيات من القرن الماضي، ولكن لم تدخل هذه البطاريات السوق التجاري إلا في أوائل التسعينيات، حيث بدأ العلماء تصنيع بطاريات تعتمد على عنصر الليثيوم بسبب خفة وزنه وخصائصه الكيميائية. الليثيوم كان جذابًا بفضل قدرته على توفير كثافة طاقة عالية، لكنه شديد النشاط كيميائيًا؛ مما أدى إلى مشكلات في الاستقرار.
تمكن العالم جون جوديناف (John B. Goodenough) من تطوير أول بطارية ليثيوم قابلة للشحن باستخدام أكسيد الليثيوم كوبالت (LiCoO2) ككاثود، وهي مادة لا تزال تُستخدم حتى اليوم. أكسيد الليثيوم كوبالت كان أول مادة تقدم توازنًا مناسبًا بين كثافة الطاقة العالية والاستقرار.
وفي عام 1991، تم إطلاق أول بطارية ليثيوم أيون تجاريًا من قبل شركة سوني، وكانت هذه خطوة مهمة نحو إتاحة هذه التقنية على نطاق واسع. قدمت هذه البطارية كثافة طاقة أكبر بكثير من البطاريات السابقة مثل بطاريات النيكل-كادميوم (NiCd) وبطاريات النيكل-هيدريد (NiMH)، مع أوزان وأحجام أقل.
تعتمد تكنولوجيا بطاريات الليثيوم أيون على حركة أيونات الليثيوم بين القطبين (الأنود والكاثود) في أثناء عمليات الشحن والتفريغ. عند الشحن، تنتقل أيونات الليثيوم من الكاثود (القطب الموجب) إلى الأنود (القطب السالب) عبر الإلكتروليت ( وسط الانتقال)، وتُحبس في هيكل الأنود، والذي غالبًا ما يكون مصنوعًا من الجرافيت. وعند التفريغ، تنتقل الأيونات مرة أخرى من الأنود إلى الكاثود، مولدة تيارًا كهربائيًا يمكن استخدامه لتشغيل الأجهزة.
تطبيقات بطارية الليثيوم أيون
بسبب مميزاتها المتنوعة من كثافة الطاقة العالية وخفة الوزن والمرونة والعمر الافتراضي الطويل والكفاءة، بالإضافة إلى التكلفة المنخفضة نسبيًا بسبب التطور التكنولوجي خلال السنوات الماضية. تستخدم بطاريات الليثيوم أيون في العديد من التطبيقات أهمها:
- الأجهزة الإلكترونية المحمولة
أصبحت بطاريات الليثيوم أيون المكون الأساسي للأجهزة الإلكترونية المحمولة؛ مثل الهواتف الذكية، أجهزة الحاسوب المحمولة، والأجهزة اللوحية. توفر هذه البطاريات طاقة كافية لتشغيل هذه الأجهزة لفترات طويلة، مع الحفاظ على وزن خفيف وحجم صغير.
- السيارات الكهربائية (EVs)
أكبر ثورة في استخدام بطاريات الليثيوم أيون حدثت في مجال السيارات الكهربائية. حيث تسمح بطاريات الليثيوم أيون للسيارات الكهربائية بقطع مسافات طويلة نسبيًا قبل الحاجة إلى إعادة الشحن. وتعتبر السيارات الكهربائية حاليًا عنصرًا رئيسيًا في معادلة جهود مواجهة تغير المناخ وخفض الانبعاثات وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وبالتالي يزداد الاعتماد عليها يومًا بعد يوم. حتى أعلنت عدد من الدول التحول الكامل للسيارات الكهربائية بحلول عام 2050.
- تخزين الطاقة المتجددة
بطاريات الليثيوم أيون تلعب دورًا حيويًا في أنظمة تخزين الطاقة، خاصةً المصادر المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. تستخدم هذه البطاريات لتخزين الطاقة الكهربائية الفائضة التي يتم إنتاجها خلال فترات الذروة، ومن ثَمّ تفريغها لاحقًا عند الحاجة. هذا النوع من الحلول يُعد جزءًا من التحول العالمي نحو شبكات كهرباء أكثر استدامة وموثوقية.
- المجال العسكري والفضائي:
بفضل موثوقيتها العالية، اعتمدت بطاريات الليثيوم أيون في تقنيات عسكرية وأخرى متعلقة بالفضاء. تُستخدم في أجهزة الرؤية الليلية، الطائرات بدون طيار، وفي معدات الاتصالات.
أهم الأسواق العالمية لصناعة بطاريات الليثيوم أيون
تقدر السوق العالمية لهذا القطاع بمليارات الدولارات، حيث يتوقع أن ينمو السوق بمعدل 20% خلال الفترة 2022-2027، ليصل إلى 200 مليار دولار في عام 2027. وتتنافس عدة دول وشركات على الهيمنة في هذا المجال، وتعتبر الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية من أهم الأسواق الرائدة عالميًا.
حيث تعتبر الصين أكبر سوق لبطاريات الليثيوم أيون في العالم، حيث تمثل حوالي 70% من الإنتاج العالمي. وتعتبر شركات مثل( CATL وBYD ) من الشركات الرائدة في صناعة بطاريات الليثيوم أيون على المستوى العالمي، حيث تهيمن على قطاع السيارات الكهربائية والأنظمة الصناعية. وتُزود CATL شركات مثل Tesla، BMW، وNIO بالبطاريات، مما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في سوق السيارات الكهربائي، وتستحوذ على حوالي 34% من السوق العالمي.
الولايات المتحدة هي ثاني أكبر سوق لبطاريات الليثيوم أيون، مع نمو سريع بسبب الاعتماد المتزايد على السيارات الكهربائية والتكنولوجيا المتقدمة. وتقود شركات مثل( Tesla وLucid Motors ) التحول نحو السيارات الكهربائية، بالإضافة إلى مشاريع تخزين الطاقة واسعة النطاق.
وفي كوريا الجنوبية تعتبر شركة LG Chem واحدة من أكبر الشركات في إنتاج بطاريات الليثيوم أيون، حيث تمتلك حوالي 13% من السوق العالمية. وتزود البطاريات لشركات مثل Volkswagen وGeneral Motors وTesla.
خطورة بطاريات الليثيوم أيون
مع الأهمية العالية لتطبيقات بطاريات الليثيوم أيون كمصدر موثوق ونظيف للطاقة، فإن الخطورة المصاحبة لها أصبح لا يمكن تجاهلها، خاصة مع الانفجارات التي حدثت، والتي تعد مؤشرًا على وجود مشكلة جوهرية تتعلق بسلامتها، وتثير الحوادث المتكررة لانفجار هذه البطاريات مخاوف جدية حول سلامتها، وتحولها من مصدر للطاقة إلى تهديد محتمل.
إن إمكانية استخدام هذه البطاريات كسلاح يمثل تهديدًا خطيرًا للأمن العالمي، فبفضل الطاقة الكبيرة التي تخزنها، يمكن لهذه البطاريات أن تتحول إلى قنابل مدمرة إذا تم التعامل معها بشكل خاطئ أو استغلالها لأغراض إجرامية. كما أن سهولة الحصول على هذه البطاريات ووجودها في كل مكان تقريبًا يزيد من سهولة تنفيذ هجمات إرهابية باستخدامها. حيث يمكن تحويل الطاقة إلى حرارة شديدة عند حدوث خلل أو تعمد إتلافها؛ مما يؤدي إلى انفجار وحريق كبير. ويمكن أن يتسبب انفجار عدد كبير من بطاريات الليثيوم في أضرار جسيمة للممتلكات والبنية التحتية، وحتى خسائر في الأرواح.
حقيقة انفجارات لبنان
إن الحوادث التي وقعت في لبنان كانت ناجمة عن أعمال تخريبية متعمدة، واستخدام مواد متفجرة، وهو أمر يمكن تطبيقه على أي نوع من الأجهزة. وتشير التحقيقات إلى أن أجهزة البيجر تم تفخيخها مسبقًا بمواد متفجرة عالية القوة، وتم تفعيلها عن بعد. وأكد الخبراء أن انفجار بطاريات الهواتف الذكية أمر نادر الحدوث ويحتاج إلى ظروف خاصة، مثل ارتفاع درجة الحرارة بشكل كبير أو حدوث ماس كهربائي. إلا أن هذه الانفجارات وجهت النظر إلى أهمية الأمن السيبراني وحماية البيانات الشخصية والاتصالات خاصة للشخيصات العامة. كما أن هذه الحوادث لفتت الانتباه إلى إمكانية استخدام بطاريات الليثيوم لتنفيذ هجمات مستهدفة على مبانٍ أو منشآت حيوية؛ مثل محطات الطاقة أو مجمعات حكومية. ويمكن استخدام بطاريات الليثيوم في صناعة أحزمة ناسفة أو عبوات ناسفة. كما يمكن استخدام أعداد كبيرة من بطاريات الليثيوم لتنفيذ هجمات واسعة النطاق، مثل تفجير مركبات متعددة في وقت واحد.
تهديدات عالمية
مع الاتجاه العالمي لاستخدام السيارات الكهربائية لاعتبارات الحفاظ على البيئة وخفض الانبعاثات، يمكن أن تؤدي حوادث انفجار البطاريات إلى تراجع ثقة المستهلكين في السيارات الكهربائية، خاصة وأن السلامة هي أحد أهم الاعتبارات في استخدامها. وقد يؤدي انتشار أخبار انفجار بطاريات الليثيوم إلى خلق حالة من الخوف والقلق لدى المستهلكين، ومن المتوقع أن تواجه شركات صناعة السيارات الكهربائية ضغوطًا متزايدة لتحسين سلامة بطارياتها وتطوير تقنيات جديدة لمنع حدوث مثل هذه الحوادث. كما قد يؤدي إلى تراجع الطلب على السيارات الكهربائية وتباطؤ وتيرة التحول إلى الطاقة النظيفة وتأخير تحقيق أهداف خفض الانبعاثات. وصعوبة تحقيق الأهداف المناخية الطموحة التي وضعتها العديد من الدول؛ مما يدفع الحكومات إلى إعادة النظر في السياسات التي تدعم السيارات الكهربائية؛ مثل الحوافز الضريبية والإعانات؛ مما يقلل من جاذبيتها للمستهلكين.
والسيارات الكهربية هي نموذج واحد للخطورة الممكنة، إلا أن الأجهزة الإلكترونية الأخرى التي تعتمد على بطاريات الليثيوم مثل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسب الآلي وشبكات الكهرباء وغيرها من المحتمل أن تمثل تهديدات هي الأخرى؛ مما يؤثر على ثقة الناس في التكنولوجيا الحديثة، وتراجع الطلب على الأجهزة الإلكترونية.
إجراءات مستقبلية لتحسين الوضع
لا شك أن هذه التهديدات تمثل خطورة ليس فقط على الاقتصاد وإنما على الأرواح وسياسات الدول والأمن العالمي. لذا يجب تطوير أنظمة قادرة على اكتشاف أي محاولات للتلاعب ببطاريات الليثيوم. كما يجب توعية الجمهور والمؤسسات بخطورة هذه التهديدات وكيفية حماية أنفسهم، وحملات توعية بإجراءات الأمان والحماية. بالإضافة إلى الاستثمار بشكل أكبر في البحث والتطوير لتطوير بطاريات أكثر أمانًا وكفاءة، وتقليل مخاطر الانفجار والحريق. ويجب وضع معايير صارمة لتصنيع وتخزين ونقل بطاريات الليثيوم، وضمان امتثال جميع الشركات المصنعة لهذه المعايير. كما يجب تكثيف عمليات التفتيش والرقابة على المنشآت التي تنتج وتخزن وتستخدم بطاريات الليثيوم، للتأكد من تطبيق معايير السلامة بشكل كامل.
بالإضافة إلى ذلك، فإن البحث والابتكار في تطوير تقنيات جديدة لتحسين كفاءة الطاقة وزيادة معدلات الأمان والموثوقية وتقليل التكلفة، لتحقيق أقصى استفادة من مصادر الطاقة المتجددة وسرعة تحقيق تحول الطاقة. وبالنسبة إلى المركبات الكهربائية التي تعمل ببطاريات الليثيوم أيون، فإن زيادة معدلات الأمان وإعادة تدوير البطاريات بشكل آمن واستخدام أنظمة ذكية للكشف عن البطاريات وتطوير أنظمة للإنذار المبكر بوجود مشكلات أو أعطال والتعامل معها بشكل آمن. من الإجراءات التي يجب على الشركات تطويرها مستقبلًا حتى يتسنى الاعتماد على النقل الكهربي بشكل رئيسي كما كان متوقع لها.
وخلاصة القول؛ على الرغم أن بطاريات الليثيوم أيون تعد ركيزة أساسية في التحول نحو مستقبل أكثر استدامة، ولكنها تتطلب معالجة حذرة لمخاطرها المحتملة. ويجب التعامل مع الواقع بحذر شديد، بدلًا من تراجع الطلب والتخلي عن تطبيقات هذه التكنولوجيا الواعدة، ويجب التركيز على تطوير وتحسين معايير الأمان، وتطوير تصميم البطاريات، وتدريب الكوادر على التعامل معها بشكل آمن. إضافة إلى الاستثمار في البحث والتطوير المستمر، وتعاون الصناعة والحكومات والأكاديميين، لضمان الاستفادة القصوى من هذه التقنية مع تقليل المخاطر المصاحبة لها.