لم تكن أزمة الفشل الإسرائيلي المتكرر في تشكيل حكومة منذ تفكك الكنيست في ديسمبر 2018، رغم إجراء انتخابات لثلاث مرات متتابعة (مارس 2019، سبتمبر 2019، مارس 2020)؛ مجرد أزمة توافق بين الأحزاب الإسرائيلية حول تشكيل الائتلاف، بقدر ما كانت أزمة في الأحزاب الإسرائيلية ذاتها، لا تنذر باستمرار العجز عن تشكيل الحكومة والدخول في انتخابات رابعة قريبًا فقط؛ بل تنذر بما هو أكثر إشكالية، أي بنهاية النظام الحزبي الإسرائيلي برمته، وهو ما سيقود إما إلى وضع غير مسبوق، حيث تلعب فيه القوائم الانتخابية الدور الرئيسي في تشكيل التحالفات المؤقتة التي تسبق إجراء الانتخابات، بمعنى أن تتشكل ائتلافات يمكنها أن تحصل على أكثر من 60 مقعدًا، وإما بالعودة مجددًا لنظام انتخابي يقوم على الانتخاب بورقتين، إحداهما لانتخاب رئيس الوزراء مباشرة، والثانية لانتخاب أعضاء الكنيست، رغم أن هذا النظام كان قد تم تجربته في انتخابات عامي 1996 و1999، قبل أن يتم إلغاؤه عقب انتخابات أُجريت على ورقة رئيس الحكومة فقط في عام 2001.
إطار الأزمة الحالية
راوحت الأزمة السياسية التي ضربت إسرائيل منذ مارس من العام الماضي والتي اضطرتها لإجراء ثلاثة انتخابات متوالية، مكانها دون أي حسم، حيث بقيت كتلة اليمين بقيادة “نتنياهو” عاجزة عن إقناع أي حزب من أحزاب الوسط للانضمام إليها، وتشكيل حكومة تحظى بتأييد أكثر من ستين عضوًا في الكنيست (حصل الليكود وأحزاب اليمين على 58 مقعدًا فقط في الانتخابات الأخيرة)، فيما فشل منافسه “بيني جانتس” -زعيم حزب كاحول لافن- الذي حصل على تفويض من رئيس الدولة لمحاولة تشكيل الائتلاف في تحقيق هذا الهدف، الأمر الذي اضطر رئيس الدولة “ريفيلين رائوبين” لسحب التفويض من “جانتس”، وفِي الوقت نفسه رفض منح التفويض لنتنياهو بحجة أنه لن يتمكن بدوره من تشكيل الائتلاف. وأعلن “رائوبين” تفويضه للكنيست لاختيار عضو منه لتولي محاولة تشكيل الائتلاف.
عرض رئيس الدولة لم يكن يعني أي شيء سوى التخلص من ضغوطات اليسار والوسط الإسرائيلي الذي هدد بالذهاب إلى المحكمة العليا لمنع رئيس الدولة من منح التفويض لنتنياهو في ظل مواجهة الأخير المحاكمة بتهم الفساد والتزوير (تم تأجيل المحاكمة بسبب تداعيات أزمة وباء كورونا). ولتدارك الموقف المتأزم، غامر “بيني جانتس” بالدخول في مفاوضات مع “نتنياهو” لتشكيل حكومة وحدة وطنية من الليكود وأحزاب اليمين وكاحول لافن وبعض الأحزاب الصغيرة المنتمية للوسط واليسار، على أن يتم تداول منصب رئيس الحكومة بين “نتنياهو” و”جانتس” (بمقتضى الاتفاق الذي لم يتم حتى الآن، كان نتنياهو سيبدأ بتولي رئاسة الحكومة لمدة عام ونصف، ليخلفه جانتس لعام ونصف آخر، ويترك أمر العام الرابع للاتفاق لاحقًا). وانتهت مغامرة “جانتس” سريعًا بتعطل الاتفاق نتيجة إصراره على أن يتم تضمين الاتفاق بند توليه رئاسة الحكومة تلقائيًّا بعد انتهاء مدة “نتنياهو” في العام ونصف الأول، وهو ما رفضه “نتنياهو” الذي طالب “جانتس” في المقابل بتمرير قرار في الكنيست لحمايته أثناء محاكمته من العزل على يد المحكمة العليا، وهو ما رفضه “جانتس” بدوره، لتصبح إسرائيل على موعد مع انتخابات رابعة في حالة استمرار فشل الزعيمين في التوصل إلى اتفاق قبل أن تنتهي المهلة الممنوحة للكنيست إما لتمرير حكومة نتنياهو–جانتس، أو تمكن عضو كنيست آخر من النهوض بالتفويض في موعد أقصاه الثامن من مايو القادم. لكن حتى لو اتفق الحزبان في النهاية وظهر الائتلاف المتعثر للوجود؛ فإن الأزمة الحقيقية تتمثل في انهيار النظام الحزبي الإسرائيلي، مما يفتح الباب ربما لاحتمالات شتى لبناء نظام سياسي وانتخابي جديدين.
تداعيات الأزمة على الأحزاب الإسرائيلية
مع ظهور بوادر وجود اتصالات بين “بيني جانتس” و”نتنياهو” لتشكيل حكومة بين حزبيهما، بدأت التصدعات في كاحول لافن في الظهور للعلن. ففي 30 مارس الماضي، صادقت اللجنة المنظمة لشئون الأحزاب في الكنيست التي يرأسها “آفي نيسينكورن” –وهو عضو في كاحول لافن– على انشقاق كتلة “يش عتيد” عن حزب كاحول لافن، وصادقت أيضًا على انشقاق كتلة “تيليم” عن الحزب نفسه. وبالإضافة إلى ذلك، صادقت اللجنة على طلب عضوي كتلة تيليم (يوعاز هندل، وتسفي هاوزر) الانشقاق عن تيليم، وإقامة كتلة جديدة منهما تحت اسم “ديريخ إيريتس” أو “طريق الأرض المقدسـة”.
واستكمالًا لحركة الفك والتركيب في الأحزاب والكتل السياسية، وافقت لجنة شئون الأحزاب على تشكيل كتلة جديدة بين يش عتيد وتيلم!
ولا يختلف الأمر كثيرًا في أوساط أحزاب الوسط واليسار، فالكتلة الانتخابية التي تشكلت من حزب العمل وميرتس وحزب جيشر مهددة بدورها بالانقسام على خلفية موافقة حزب العمل على الانضمام لجانتس في محاولاته لإقامة ائتلاف مع اليمين. يقول تقرير نشره مركز مدار للدراسات: “تلقى تحالف حزبي العمل وميرتس، ومعهما الحزب الصوري للنائبة اليمينية أورلي ليفي-أبكسيس، ضربة قاصمة، ولكن بالنسبة لحزب العمل، كما يبدو، هذه هي الضربة القاضية، فهذا الحزب الذي استفرد بالحكم الإسرائيلي ثلاثة عقود بات يتمثل بـ3 نواب، وحتى هذه الكتلة الهامشية جدًّا تشهد انشقاقًا، إثر رفض النائبة “ميراف ميخائيلي” الانضمام إلى حكومة “نتنياهو”، أو على الأقل أعلنت أنها لن تكون ملتزمة بالتصويت تأييدًا للحكومة وكل قراراتها وقوانينها”.
ما حدث من انشقاقات في الأحزاب المذكورة ربما لا يشكل فقط سوى قمة جبل الجليد العائمة، فالكثير من أحزاب اليمين التي يقود “نتنياهو” جبهتها يمكن أن تتعرض بدورها لانشقاقات مماثلة. وحتى حزب الليكود ذاته قد يعاني من التفكك في حال تم إقصاء “نتنياهو” من الحياة السياسية بحكم قضائي في القضايا التي سيحاكم بمقتضاها مع تراجع أزمة وباء كورونا التي أغلقت الكثير من مؤسسات الدولة لاحتواء خطر تمدده كما فعلت معظم دول العالم، وإن كان “نتنياهو” هو أكثر زعيم على مستوى العالم استفاد من تداعيات هذه الأزمة.
كم عمر أزمة الحياة الحزبية في إسرائيل؟
لم تكن الأزمة الأخيرة التي أظهرت احتمالات قوية لتحول الخريطة الحزبية الإسرائيلية إلى تكتلات مائعة وصغيرة الحجم وليد السنوات الأخيرة كما يصور خصوم “نتنياهو” الذين يتهمونه بإفساد الحياة السياسية خلال هيمنته الطويلة على منصب رئيس الحكومة لعشر سنوات متصلة؛ بل تعود الأزمة في الواقع إلى سنوات التسعينيات التي شهدت انهيار قوة الكتلتين الكبيرتين اللتين أعطتا للنظام السياسي اتزانًا نسبيًّا منذ الثلث الأخير من حقبة السبعينيات في القرن الماضي. إذ كانت كتلة اليسار والوسط وكتلة اليمين والأحزاب الدينية تحصلان على ثلثي مقاعد الكنيست على الأقل، وهو ما سمح لأي منهما بتشكيل ائتلاف مستقر بالتعاون مع الكتل الصغيرة التي كانت تشكل ما تبقى من قوة الكنيست. غير أن هذا الوضع تغير بشدة منذ منتصف التسعينيات مع تناقص تمثيل الحزبين الرئيسيين (الليكود والعمل) في الكنيست حينما بدأ هذان الحزبان في الحصول مجتمعين على أقل من نصف عدد أعضاء الكنيست.
وكمحاولة للتغلب على هذا الوضع الذي منح الأحزاب الصغيرة قوة كبيرة مكنتها من ابتزاز الحزبين الرئيسيين للحصول على امتيازات فئوية مقابل مشاركتها في تشكيل الحكومة، لجأ المشرعون الإسرائيليون لاستحداث نظام انتخابي يقوم على اختيار رئيس الحكومة بشكل منفصل عن انتخابات الكنيست لتعزيز سلطته في مواجهة ابتزاز الأحزاب الصغيرة. وتم تطبيق التعديل لأول مرة في انتخابات عام 1996 التي فاز فيها “نتنياهو” على زعيم حزب العمل (“شيمون بيريتس” في ذلك الوقت)، ثم في انتخابات عام 1999 التي فاز فيها مرشح حزب العمل “إيهود باراك” على “نتنياهو”.
وقد أظهر هذا النظام عيوبًا قاتلة، حيث منح رئيس الحكومة قوة أكبر، لا على حساب الأحزاب الصغيرة كما كان يُعتقد، بل على حساب الكنيست نفسه، وهو ما اعتُبر تهديدًا جسيمًا للديمقراطية، وتقوية لإرادة شاغل منصب رئيس الحكومة على عملية التنافس التقليدية في النظم الديمقراطية من خلال قوة المؤسسة التشريعية بالدرجة الأولى. وعلى أية حال تم إلغاء هذا النظام والعودة للنظام القديم مرة أخرى بعد أن أُجريت الانتخابات المباشرة لرئيس الحكومة لآخر مرة عام 2001، والتي فاز بها “شارون” على “باراك”. وخلال السنوات الممتدة منذ ذلك التاريخ احتكر الليكود تشكيل الحكومات المتعاقبة باستثناء فترة قصيرة قاد فيها حزب كاديما (أسسه “شارون” بعد انشقاقه عن الليكود عام 2005) الدولةَ حتى عام 2009، لتبدأ معها حقبة الليكود و”نتنياهو” الطويلة في الحكم حتى اليوم.
هذه التطورات صبت جميعها في اتجاه إضعاف الأحزاب كمؤسسات للتنشئة السياسية، وتشكيل الحكومات والكتل المعارضة في البرلمان، والتي تحولت إلى نوع من “الشخصنة”، حيث لا يعود لبرنامج الحزب أو أنشطته التقليدية أي أهمية في المنافسة السياسية، بل تكمن الأهمية في كاريزمية الشخص الذي يقود الحزب. وهكذا، أصبح إيجاد الشخص المناسب لوضعه على قمة قائمة أي حزب هو العنصر المحرك للعملية الانتخابية برمتها. ويبدو أن “نتنياهو” سيكون آخر شخصية كاريزمية في الحياة السياسية، ويمكن أن يشكل اختفاؤه منها لسبب أو لآخر انهيارًا تامًّا في الحياة الحزبية الإسرائيلية، أو على الأقل نحو مزيد من أزمات العجز عن تشكيل حكومات مستقرة ومتماسكة ولو لفترات قصيرة. وقد تكون العودة إلى نظام الانتخاب بورقتين حلًّا مطروحًا أيضًا للتغلب على وضع الدولة في أتون صراع ممتد وإدارة سياسية بحكومات انتقالية لفترة طويلة.
ويزيد المشكلة تعقيدًا أن الكثيرين في إسرائيل يخشون من العودة إلى نظام الورقتين، لأنه يحمل في طياته أيضًا مزيدًا من تركيز السلطة في يد فرد واحد يمكنه أن يفعل كما يفعل “نتنياهو” حاليًّا وهو يتوعد مؤسسات الدولة (الشرطة، المستشار القضائي، المحكمة العليا، الكنيست) بدعوة الشارع للانتفاض ضدها في حال حاولت استصدار قانون يمنعه من الترشح لرئاسة الحكومة مستقبلًا. بمعنى أكثر وضوحًا، وبعد تهديدات “نتنياهو” هذه، يمكن أن تتضاءل أزمة عدم تشكيل حكومة بعد ثلاث عمليات انتخابية إذا ما قورنت بالأزمة الأعمق التي تلوح في الأفق، وهي انهيار النظام الحزبي، وتراجع قوة مؤسسات الدولة أمام إرادة شخص واحد يشغل منصب رئيس الحكومة.