تستكمل الفصول الخمسة للمجلد الثالث من موسوعة “حرب أكتوبر 1973.. كيف حققت مصر الانتصار”، الصادرة عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، سلسلة التحليل الشامل للحرب، والتي تمثلت بدايتها في تقديم المجلد الأول من الموسوعة استعراضًا للسنوات الست السابقة لنصر أكتوبر، حيث حرب الاستنزاف، التي لم تثبت فقط أن مصر قادرة على تكبيد العدو خسائر مؤلمة، وإنما عبرت عن تغيرات هيكلية في إدارة الدولة ومؤسساتها، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وكيف أن الدولة والمجتمع استطاعا تشارك الهدف في تدبير موارد النصر.
فيما اهتم المجلد الثاني باستعراض مرحلة العبور العظيم، بداية من إعداد خطة خداع استراتيجي نموذجية للحرب التي أنهت نظرية التفوق الإسرائيلي، وفاجأت العالم بأسره بما فيها من جرأة وحُسن التخطيط وحكمة التدريب، ومهدت الطريق أمام فرض مسار تفاوضي أساسه هو تحرير الأرض كاملة.
وتأسيسًا على ما تقدم، يستهل الفصل التاسع عشر من المجلد الثالث للموسوعة، باستكشاف محاولات إحياء عملية التفاوض بين مصر وإسرائيل، بوساطة أمريكية، والتي اتسمت بحالة من الجمود عقب توقيع الجانبين اتفاق فك الاشتباك الثاني في 4 سبتمبر 1975. وقد أثبتت هذه المحاولات أن “السلام” كان هو الخيار الاستراتيجي للدول المصرية، والذي تأسس تبعًا له زيارة الرئيس “محمد أنور السادات” التاريخية إلى القدس في نوفمبر 1977. في المقابل، أظهرت هذه الجولات مدى التعنت الإسرائيلي، والإصرار على استمرار احتلال مناطق شاسعة من سيناء، وبقاء المستوطنات الإسرائيلية فيها، والسيطرة على عدد من المطارات المصرية، بحجة كونها ضرورية لأمن إسرائيل، وهو ما رفضته مصر جملة وتفصيلًا، لتعارضه مع السيادة المصرية وتحرير كامل أراضي سيناء.
وتبعًا لذلك، أوضح الفصل الخطوات والتحركات التي اتبعتها القيادة المصرية لدفع الجانب الأمريكي نحو إقناع الجانب الإسرائيلي باقتناص الفرصة التاريخية التي دشنتها زيارة الرئيس السادات إلى القدس لبناء السلام في المنطقة، وتحقيق أمن جميع شعوبها، وهو ما تحقق مع قرار الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” القيام بدعوة الرئيس “محمد أنور السادات” ورئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحيم بيغين” للتفاوض مباشرة في “كامب ديفيد” لحل القضايا والإشكاليات العالقة التي تحول دون التوصل إلى اتفاق سلام ينهي الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، ويمهد الطريق أمام تسوية تاريخية للقضية الفلسطينية.
وبناءً عليه، يناقش الفصل العشرون أولى مراحل التفاوض المباشر بين مصر وإسرائيل، برعاية أمريكية، والممتدة من سبتمبر 1978، حتى توقيع معاهدة السلام في مارس 1979، وذلك عبر استعراض تفاصيل محادثات الرئيس السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي بيغين في كامب ديفيد، والتي أسفرت عن توقيع اتفاقيتين إطاريتين، إطار لـ “معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل”، وإطار لـ “السلام في الشرق الأوسط”، مرورًا بتوضيح مسار المفاوضات التفصيلية لتحويل الاتفاقيات الإطارية إلى معاهدة سلام.
وفي يوم 26 مارس 1979، وقع الرئيس “محمد أنور السادات” ورئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحيم بيغين” على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والتي تتكون من ديباجة و9 مواد وملحقين بعنوان: “البروتوكول الخاص بالانسحاب الإسرائيلي وترتيبات الأمن” و”بروتوكول بشأن علاقات الطرفين”، ومرفق للملحق الأول بعنوان “تنظيم الانسحاب من سيناء”. وقد حدد الملحق العسكري لاتفاقية السلام ثلاث مراحل رئيسية للانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى خط الحدود الدولية تنتهي خلال ثلاث سنوات، والتي تمت بالكامل يوم 25 أبريل 1982، حينما انسحب آخر جندي إسرائيلي من شبه جزيرة سيناء، فيما عدا طابا التي رفض الجانب الإسرائيلي الانسحاب منها، لتبدأ بذلك معركة دبلوماسية وقانونية، كان النصر فيها للجانب المصري.
ومن ثَمّ يستكشف الفصل الحادي والعشرون بشكل تفصيلي معركة استرداد طابا. فعلى مدار سبع سنوات، دارت معركة دبلوماسية وقانونية من طراز رفيع بين مصر وإسرائيل حول موقع العلامة 91 من خط الحدود بين البلدين، إضافة إلى تأكيد موقع عدد من العلامات الحدودية الأخرى، والتي أثارت جدلًا قانونيًا وميدانيًا، اتفق الطرفان بمقتضاها على اللجوء إلى التحكيم الدولي، والذي جاء حكمه لصالح مصر، مُنهيًا بذلك آخر مناورة إسرائيلية استهدفت الاستيلاء على الأرض بحكم الأمر الواقع عبر الخداع والزيف، بينما حققت مصر هدفها الاستراتيجي المتمثل في تحرير كامل تراب الوطن. كما أوضح الكتاب ما كشفت عنه معركة تحرير طابا بشأن كيف يمكن أن تكون الجهود الدبلوماسية والتحكيم الدولي عوامل أساسية في إنهاء النزاعات وتحقيق الاستقرار.
فيما استعرض الفصل الثاني والعشرون من المجلد الواقع السياسي والاقتصادي داخل إسرائيل خلال المرحلة اللاحقة للحرب، واتجاهات الرأي العام الإسرائيلي الداخلي تجاه الهزيمة، ثم السلام مع مصر. كما أوضح الكتاب محاولات الجانب الإسرائيلي استعادة تفوقه العسكري المفقود، وهو ما برز في شن حرب على لبنان عام 1982، وصياغة منظومة من الأهداف العسكرية والسياسية لمواجهة التهديدات العسكرية التي يمثلها الأعداء الجدد لإسرائيل.
واتصالًا بما تقدم، تناول الفصل الثالث والعشرون تطور السياسة العسكرية الإسرائيلية في أعقاب حرب أكتوبر، مع التركيز على التغيرات التي أجرتها إسرائيل في الاستراتيجية والتكتيك، بناءً على المراجعة التي أجرتها على هذه السياسة بعد فشل إدارتها للحرب. كما أوضح المجلد تفاعلات الجانب الإسرائيلي على الصعيدين الدولي والإقليمي عقب الحرب، حيث محاولته مأسسة العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، علاوة على اكتساب حلفاء إقليميين لمواجهة التهديدات العسكرية. كما يشرح المجلد كيف خططت إسرائيل لتجنب الهزيمة في أي حرب جديدة.
وختامًا، تعد موسوعة حرب أكتوبر مرجعًا قيمًا لما تقدمه من صورة بانورامية تفصيلية لمراحل الحرب، ودروس مستفادة على كافة المستويات، السياسية والعسكرية والاقتصادية الاجتماعية، وذلك ليتمكن القارئ من الإمعان في تفاصيل الإنجاز التاريخي الذي حققته هذه الحرب، ويدرك أنه لم يكن ليتحقق بالعمل العسكري فقط، بل إن تكاتف كافة الجهود الوطنية والتلاحم بين الشعب والجيش جعل من المصريين جميعًا مقاتلين.