على الرغم من أن أغلب التقديرات والاتجاهات السياسية تذهب إلى أن المشهد قد يبدو قاتمًا في منطقة الشرق الأوسط على المديين القريب والمتوسط، مدفوعة في ذلك بالنهج التصعيدي الإسرائيلي وتداعياته على كافة المستويات، جنبًا إلى جنب مع بناء هذه الرؤية على أساس الصيغ المتشددة من السياسات للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، والذي سيتولى رسميًا رئاسة البيت الأبيض في يناير 2025، وهي في ذلك تُركز على النسخة الأولى من “ترامب” (ترامب. 1)؛ إلا أن هذه الورقة تنطلق من افتراض رئيسي مفاده أن النسخة الجديدة من دونالد ترامب ليست بالضرورة أن تكون استنساخًا لحقبة “ترامب” الأولى على اعتبار المتغيرات التي طرأت على المشهد الإقليمي والعالمي حاليًا، وعلى اعتبار التغيرات التي طرأت على الولايات المتحدة وربما على الرئيس الأمريكي الجديد نفسه، فضلًا عن أن إحدى السمات الرئيسية للنظام السياسي الأمريكي تتمثل في كثرة وتعدد الفاعلين فيه، ويُضاف إلى ذلك أيضًا وجود مجموعة من المتغيرات بالنسبة للداخل الإسرائيلي والتي قد تمثل عاملًا ضاغطًا لوقف حالة التصعيد الراهنة، جنبًا إلى جنب مع معالم المشهد الإقليمي الراهنة بعد ما يزيد على العام وشهر من الحرب والتصعيد.
متغيرات مهمة
تعد لفظة “الأزمة” هي الكلمة الأكثر تداولًا داخل الأروقة السياسية سواءً دوائر صنع القرار المختلفة في العالم أو المراكز البحثية أو حتى الرأي العام، وذلك تعبيرًا عن الحالة الراهنة وربما المستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط، خصوصًا وأن الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة الرئيس جو بايدن عمدت على مدار ما يزيد على العام وشهر منذ اندلاع الحرب الجارية إلى التعامل بمنطقة “التكيف مع الأزمة” وليس “حل الأزمة”، والسعي لفرض “توازن القوى” وليس “توازن المصالح” في المنطقة متماهيةً في ذلك بشكل كامل مع الرؤية الإسرائيلية، وهي الرؤية التي ترمي إلى تغيير شكل المنطقة على حد تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بما يُحيد أي تهديدات من منظور الدولة العبرية، ويضمن فرض أمر واقع جديد يتسق وهذه الرؤية، ورغم سوداوية هذا السيناريو إلا أن هناك مجموعة من المتغيرات التي ربما تمثل عوامل ضاغطة، يُمكن الاستناد إليها في بناء سردية مختلفة تفترض أن دورة التصعيد الراهنة قد تصل إلى نهايتها على المديين القريب والمتوسط، وصولًا إلى بناء سيناريوهات بخصوص “اليوم التالي” ليس فقط في غزة ولكن في المنطقة، ويُمكن تناول أبرز هذه المتغيرات في ضوء الآتي:
1- سعي “ترامب” لإنجاز صفقة كبيرة: أحد الافتراضات المطروحة فيما يتعلق بعودة “ترامب” إلى تسيد البيت الأبيض، وتداعيات ذلك على منطقة الشرق الأوسط والتصعيد الراهن في المنطقة، يتمثل في رغبة الرئيس الأمريكي الجديد في تحقيق إنجاز كبير على مستوى السياسة الخارجية الأمريكية في بداية حقبته الجديدة، متمثلًا في وقف دورة الحرب والتصعيد الجاري في منطقة الشرق الأوسط (ونفس الحال بالنسبة للحرب الأوكرانية)، ويستند هذا الافتراض إلى مجموعة من الاعتبارات، أولها أن “ترامب” يتعامل مع المجال السياسي بمنطق “الصفقات” وهو المنطق الذي يفترض أن إدارة الدولة أشبه بإدارة الشركات، وبالتالي سيسعى “ترامب” إلى إنهاء هذه الحرب كجزء من صفقة كبرى يتم إنجازها، وثانيها أن العديد من التقارير قد تحدثت في الآونة الأخيرة عن طلبات من “ترامب” لنتنياهو بعدم إنهاء الحرب قبل وصوله إلى البيت الأبيض حتى لا يمثل ذلك مكسب انتخابي قد يوظفه الديمقراطيون، وثالثها أن تجربة “ترامب” الأولى في حكم البيت الأبيض تقول أن الرجل أميل لتقليل مساحة الانخراط الأمريكي العسكري المباشر في الصراعات، وعقب فوز “ترامب” خرج روبرت أف كندي جونيور، وهو أحد السياسيين الأمريكيين المعروفين بقربهم من “ترامب” ويُتوقع أن يلعب دورًا مهمًا في الإدارة الأمريكية الجديدة، وأشار إلى أن “ترامب يعتزم سحب القوات الأمريكية الموجودة في سوريا وعدم الإبقاء عليها”، وهو مؤشر مهم يُمكن البناء عليه فيما يتعلق بنمط تعامل “ترامب” المحتمل مع مسألة الانخراط الأمريكي في صراعات المنطقة، وكان “ترامب” نفسه قد صرح في حملته الانتخابية أن “أولويته هي وجود جيش أمريكي قوي يُركز على حماية الأراضي الأمريكية”.
وعمليًا يُمكن أن يتم ترجمة هذه الفرضية في شكل صفقة كبرى يقوم “ترامب” بإنجازها، على قاعدة وقف الحرب الجارية بجبهاتها المتعددة، في مقابل ترتيبات جديدة خاصة بمسألة “اليوم التالي”، واستئناف لمسار “الاتفاقات الإبراهيمية” التي كان “ترامب” يحتفي بها باعتبارها أكبر إنجازات سياسته الخارجية، وعلى وجه الخصوص استئناف مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي، وسردية تُرضي غرور “نتنياهو” تُفيد بانتصار إسرائيل في حربها، بالإضافة لمقاربة قد تقوم على نهج “الضغوط القصوى” على إيران من أجل وقف مشاريع إنتاج الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية، لكن أخطر ما في هذا الافتراض أن “ترامب” قد يجنح إلى سياسات تعمد إلى التهام القضية الفلسطينية وتفريغها من مضمونها، على غرار التماهي مع المخططات الإسرائيلية الخاصة بضم الضفة الغربية المحتلة بالأساس، ومخططات تقسيم قطاع غزة، ويعني هذا الافتراض عمليًا أن “ترامب” سيتعامل على غرار كافة الرؤساء الأمريكيين بمنطق “تسكين الأزمة” وليس معالجتها أو حلها.
2- حالة الاستنزاف الإسرائيلية: تعاني إسرائيل حاليًا من حالة استنزاف لم تشهدها الدولة العبرية منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية، إذ أن هذه الحرب هي الأطول من حيث المدى الزمني بالنسبة لإسرائيل، وهي الأكبر من حيث الخسائر الاستراتيجية والاقتصادية والبشرية والأمنية بالنسبة لإسرائيل حتى اليوم، ورغم أن إسرائيل استطاعت نسبيًا في تكبيد فصائل المقاومة وخصوصًا حزب الله اللبناني وحركة حماس خسائر كبيرة، خصوصًا على مستوى اغتيال قادة الصف الأول والثاني، أو على مستوى تدمير بنى تحتية لهذه الفصائل، إلا أن حصيلة كل هذه العمليات المدمرة لم تحقق الأمن للدولة العبرية، بل على العكس، أصبح الداخل الإسرائيلي يواجه تهديدات وانهيار لمنظومة الردع على مدار الساعة، وعادت العمليات الفردية إلى الواجهة مرة أخرى في الداخل الإسرائيلي باعتبارها التهديد الأخطر بالنسبة لإسرائيل، وتعاني الدفاعات الجوية الإسرائيلية بمنظوماتها المختلفة من حالة أشبه بالانهيار وذلك مع كثافة عمليات إطلاق الصواريخ خصوصًا من الجبهة اللبنانية، بل إن الحرب الجارية قد أدت إلى تفكك العقد الاجتماعي الحاكم لعلاقات المواطنين الإسرائيليين بسلطاتهم، وهو العقد الذي كان قائمًا بشكل رئيسي لعقود على فكرة “الأمن”.
ويُضاف إلى ذلك البعد الميداني ففي غزة لا تزال المواجهات بعد كل هذه الفترة مستمرة بين فصائل المقاومة وبين القوات الإسرائيلية في غالبية مناطق القطاع، في حرب استنزاف تعاني بسببها القوات الإسرائيلية، وعلى مستوى الجبهة اللبنانية، لا تزال القوات الإسرائيلية حتى اللحظة عاجزة عن التمركز في أي من الخطوط الأمامية للجنوب اللبناني بقطاعاته الثلاثة، فضلًا عن الخسائر الكبيرة التي يتكبدها الجيش الإسرائيلي في ثنايا المواجهات العسكرية مع مقاتلي حزب الله، ولعل هذه الاعتبارات هي ما دفعت العديد من قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى البعث برسائل للمستوى السياسي مفادها أن ما تحقق عسكريًا هو أقصى ما يمكن تحقيقه، وأن الاستمرار في حرب الاستنزاف الجارية معناه المزيد من الخسائر والضغوط بالنسبة لإسرائيل.
3- الضغوط الكبيرة للداخل الإسرائيلي: أفرزت حرب الاستنزاف الجارية بين إسرائيل وبين فصائل المقاومة، وتداعياتها على كافة المستويات بالنسبة لإسرائيل، مع العجز عن تحقيق أهداف الحرب الاستراتيجية خصوصًا ما يتصل باستعادة المحتجزين الإسرائيليين، واستعادة الردع الإسرائيلي، وإعادة سكان المتوطنات في غلاف غزة أو في شمال الأراضي المحتلة إلى مستوطناتهم، حالة من اليأس بالنسبة للداخل الإسرائيلي، وهي الحالة التي تم ترجمتها عمليًا في شكل تظاهرات تخرج بين الحين والآخر وتُطالب بشكل رئيسي بإنهاء هذه الحرب والتوصل لاتفاق يضمن استعادة المحتجزين، وعلى سبيل المثال أظهر استطلاع حديث للرأي لمعهد “الديمقراطية” الإسرائيلي، أن 69% من المواطنين يؤيدون التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار.
ولا تقتصر ضغوط الداخل الإسرائيلي على مسألة الرأي العام، إذ يطفو إلى السطح في الآونة الأخيرة مسألة الخلافات بين المستويين السياسي والأمني في إسرائيل، وهي الأزمة التي تم تغذيتها بواقع متغيرين الأول هو إقالة يوآف جالانت وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، وتعيين المتطرف يسرائيل كاتس كبديل له، والثاني هو التسريبات التي خرجت بخصوص مكتب “نتنياهو” وتورطه في العديد من القضايا والفساد، وهي التسريبات التي رجحت العديد من التقديرات اقترانها بمسألة الخلافات بين المستويين السياسي والأمني، ويُضاف إلى ذلك رفض المحكمة المركزية في إسرائيل تأجيل الاستماع إلى شهادة “نتنياهو” في قضايا فساد متهم بها، على أن تُستأنف جلسات الاستماع في هذه القضايا في مطلع سبتمبر المقبل، لكن الواقع في الداخل الإسرائيلي يُشير إلى أن حدود تأثير هذه الضغوط ربما تصل إلى مستوى الدفع باتجاه وقف إطلاق النار، وليس الإطاحة بالائتلاف الحاكم، إذ أن الائتلاف الحاكم في إسرائيل يسيطر حاليًا على 68 مقعدًا بالكنيست من أصل 120، وذلك بعد انضمام كتلة “اليمين الرسمي”، بزعامة جدعون ساعر إلى الائتلاف الحاكم، ما يوفر لنتنياهو أغلبية تضمن أنه لا انتخابات مبكرة وترجيح استمراره في ولايته حتى نهايتها بعد عامين، لكن هذا السيناريو أيضًا يظل محل تهديد بسبب تلويح إيتمار بن غفير الذي يسيطر على 6 مقاعد بالكنيست بالانسحاب من الائتلاف الحاكم.
4- مفاوضات حاسمة بخصوص لبنان: أحد الاعتبارات المهمة التي تزيد من أهمية طرح الافتراض الخاص بالتوصل إلى تهدئة على المديين القريب والمتوسط، ترتبط بالتطورات التي تشهدها الجبهة اللبنانية، ليس فقط على المستوى العسكري والذي يغلب عليه معاناة القوات الإسرائيلية على وقع عدم القدرة على التمركز في أي من مناطق الجنوب اللبناني، وعلى وقع الخسائر الكبيرة في صفوف القوات الإسرائيلية، في ضوء إعادة حزب الله تنظيم صفوفه وتبني أنماط من اللا مركزية في إدارة العمليات العسكرية، ولكن أيضًا على المستوى السياسي والذي شهد خلال الأيام الماضية تحركات لافتة، حيث سلمت السفيرة الأمريكية لدى لبنان ليزا جونسون السيد نبيه بري رئيس البرلمان اللبناني مسودة اتفاق مقترحة لوقف التصعيد بين الجانبين، وقد أشارت تقارير استنادًا إلى مصادر مقربة من حزب الله ورئيس مجلس النواب اللبناني خلال الساعات الماضية إلى أن “بري” سلم الرد الخاص بحزب الله إلى السفارة الأمريكية في بيروت، كما أشارت التقارير إلى أن الحزب يتعامل بانفتاح حذر مع المقترح، وتطرح هذه التطورات احتمال حدوث انفراجة على مستوى الجبهة اللبنانية.
وكان ملاحظًا في ثنايا هذه الحالة التي تحاول إحداث اختراق على مستوى الجبهة اللبنانية، أن إسرائيل صعدت بشكل لافت مستوى ووتيرة الاستهداف وعمليات القصف لمناطق الجنوب اللبناني، والضاحية الجنوبية لبيروت، واستهداف العاصمة بيروت نفسها، ويُمكن فهم هذا السلوك الإسرائيلي على أنه محاولة للضغط لتعزيز الموقف التفاوضي، فكما تُشير الأدبيات السياسية فإن “الاتفاقات في أبوابها وفصولها وبنودها هي ترجمة واقعية لقوة الأطراف المتصارعة على الطبيعة أو في مسرح الميدان”، ومن هذا المنطلق فإن تكثيف كل من حزب الله وإسرائيل للعمليات خلال الساعات والأيام الماضية هو سلوك لا يرتبط فقط بالتدرج في التصعيد والتصعيد المضاد بينهما، ولكنه يرتبط أيضًا بسعي الطرفان إلى تعزيز الموقف التفاوضي.
ختامًا، يُمكن القول إن هناك مجموعة من المؤشرات والتطورات الراهنة التي قد تدفع باتجاه افتراض معاكس للاتجاه السائد في التحليل الخاص بأوضاع المنطقة، وهو الاتجاه الذي تغلب عليه النظرة التشاؤمية، لكن هذا الافتراض القائل بالتهدئة والذي تبناه هذا التحليل سوف يكون محكومًا بمجموعة من المحددات الرئيسية، أولها طبيعة تعامل “ترامب” مع هذه الحالة التي تشهدها المنطقة، ومدى الضغوط التي سيمارسها على إسرائيل من أجل الدفع باتجاه التهدئة، وثانيها يرتبط بمآلات الحالة الداخلية في تل أبيب، وثالثها يرتبط بالواقع الميداني الحالي ومعادلاته، لكن المؤكد أن السيناريو الذي ستنتهي به الحرب الجارية سوف ينصرف في تداعياته إلى مسألة “اليوم التالي”.