في 15 نوفمبر 2024، اجتمع قادة 21 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ في العاصمة البيروفية “ليما” لعقد قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC) وجاءت هذه القمة في وقت بالغ الحساسية على الصعيدين الدولي والإقليمي، حيث أسفرت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن فوز دونالد ترامب، مما أضاف بُعدًا سياسيًا مهمًا على مناقشات القمة في ظل التوقعات بتغيير في الإدارة الأمريكية وتأثير ذلك على السياسة العالمية. وقد استحوذت القمة على اهتمام عالمي لما تشكله من منصة رئيسية لبحث قضايا الاقتصاد العالمي في ظل تقلبات شديدة يموج بها النظام الدولي.
وجاءت القمة أيضًا وسط تحديات اقتصادية ودبلوماسية كبيرة، حيث شهدت حضور قادة وممثلين عن دول تمثل أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وناقش المشاركون في القمة قضايا محورية مثل تعزيز الانفتاح الاقتصادي، ومعالجة الاضطرابات في سلاسل التوريد، وضمان مرونة الأسواق في مواجهة الأزمات العالمية. كما كانت القمة فرصة للتعبير عن التوترات السياسية بين القوى الكبرى، خاصة بين الولايات المتحدة والصين، حيث انعكست تصريحات الرئيس الصيني “شي جين بينغ” ونظيره الأميركي “جو بايدن” على التحولات الجيوسياسية الحاصلة، مما جعل القمة محطة مهمة لفهم تطورات العلاقات الدولية في المستقبل.
أهداف وتوجهات قمة أبيك 2024
تُعد قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC) من الفعاليات السنوية البارزة التي تجمع قادة الدول الأعضاء من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والتي تمثل معًا نحو ثلثي الناتج المحلي الإجمالي العالمي ونصف التجارة العالمية. وتستقطب القمة سنويًا اهتمامًا عالميًا كبيرًا نظرًا لدورها البارز في تعزيز التعاون الاقتصادي والبحث في القضايا التي تؤثر على التنمية المستدامة في المنطقة. في قمة APEC 2024 التي عُقدت في العاصمة البيروفية ليما، تم التركيز على العديد من القضايا الجوهرية التي تمس الاقتصاد العالمي، مثل تحقيق النمو المستدام، تعزيز التجارة بين الدول الأعضاء، والتعاون في مواجهة التحديات العالمية الكبرى كالتغير المناخي والأمن الغذائي.
في كلمتها الافتتاحية، أشارت الرئيسة البيروفية، “دينيا بولوارتي”، إلى أهمية تحقيق النمو الشامل والمساواة بين دول المنطقة. وأكدت على أن النمو الاقتصادي الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إدماج الفئات المهمشة وتعزيز العدالة الاقتصادية، مؤكدة على ضرورة تمكين المواطنين في مختلف المجالات الاجتماعية والمالية والتجارية لضمان تحقيق التنمية المستدامة والشاملة. وفي السياق ذاته، تركزت المناقشات على مجموعة من الأهداف التي تعكس التوجهات الاستراتيجية الرئيسية للقمة ومنها:
- تعزيز الانفتاح الاقتصادي والتكامل الإقليمي، كان الهدف الرئيس للقمة هو تعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء وتعميق التكامل الإقليمي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. حيث تركزت الجهود على تسهيل الوصول إلى الأسواق وتحقيق النمو الاقتصادي المشترك من خلال تيسير حركة التجارة والحد من الحواجز الاقتصادية بين الدول.
- معالجة اضطرابات سلاسل التوريد، ركزت القمة على إيجاد حلول للتحديات التي تواجه سلاسل التوريد العالمية، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الناتجة عن جائحة كوفيد-19 والتوترات الجيوسياسية. في الوقت ذاته، تم التركيز على ضرورة ضمان استقرار التجارة العالمية من خلال تحسين كفاءة سلاسل التوريد وتعزيز التعاون بين الدول لمواجهة هذه الاضطرابات.
- تعزيز مرونة الأسواق في مواجهة الأزمات، ناقشت القمة استراتيجيات تعزيز مرونة الأسواق لمواجهة الأزمات الاقتصادية المستقبلية، بما في ذلك التضخم المرتفع والأزمات المالية العالمية. إذ تم التركيز على أهمية التعاون بين الدول الأعضاء لتقوية أسواق المنطقة وضمان قدرتها على التكيف مع الأزمات الاقتصادية بشكل أسرع وأكثر فعالية.
- دعم السياسات البيئية المستدامة، حازت قضية الاستدامة البيئية اهتمامًا كبيرًا، حيث تم بحث كيفية دمج المعايير البيئية ضمن السياسات التجارية من خلال تبني آليات “التجارة الخضراء”. كان الهدف من ذلك هو تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة، خاصة في مواجهة تحديات التغير المناخي.
- تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الشركاء العالميين، حيث ناقشت القمة أهمية تنويع الشركاء التجاريين في ظل التوترات التجارية الحالية بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين. كما تم التأكيد على ضرورة تعزيز العلاقات الاقتصادية مع دول من خارج المنطقة، وذلك لضمان تنوع الفرص التجارية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
- استكشاف مشروعات اقتصادية استراتيجية، شهدت القمة توقيع اتفاقيات جديدة تهدف إلى تعزيز التجارة والاستثمار في مشروعات البنية التحتية الاستراتيجية، وفي هذا السياق استغل الرئيس الصيني “شي جين بينج” هذه المناسبة لافتتاح ميناء “تشانكاي” الجديد في بيرو بقيمة 1.3 مليار دولار، الذي يُتوقع أن يصبح أكبر مركز شحن في أمريكا الجنوبية، مما يعكس التزام الصين بالعولمة ورفضها للحمائية الاقتصادية. ويمثل هذا الميناء خطوة هامة في تعزيز الروابط الاقتصادية بين منطقة آسيا وأمريكا اللاتينية، مما يُسهم في تسريع النمو الاقتصادي والتكامل الإقليمي في المنطقة.
أولويات القمة على أجندة القادة
تناول القادة خلال القمة العديد من القضايا الأساسية التي تؤثر على المنطقة والعالم، مشددين على تعزيز التعاون والتنمية المستدامة. ويُمكن تلخيص أبرز ما جاء في كلماتهم بشكل عام في النقاط التالية:
أولًا، التاكيد على ضرورة تعزيز التعاون الاقتصادي بين دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة التحديات الاقتصادية العالمية. حيث شددوا على أهمية التجارة الحرة والتنمية الاقتصادية المفتوحة كعوامل أساسية لتحقيق الازدهار المشترك، مع التأكيد على الالتزام بالنظام التجاري المتعدد الأطراف. كما تم تسليط الضوء على أهمية الابتكار الأخضر والتحول الرقمي، حيث دعا القادة إلى تسريع الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون وتعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا الخضراء والذكاء الاصطناعي والابتكارات الرقمية لدعم النمو المستدام.
ثانيًا، تناولت كلمات القادة دعم الاقتصاديات النامية، حيث دعوا إلى تعزيز الدعم للاقتصادات النامية وتقليص الفجوات التنموية لضمان استفادة جميع الفئات الاجتماعية من النمو الاقتصادي. وفيما يتعلق بالتحديات الجيوسياسية والاقتصادية، أكد القادة على أهمية التنسيق المستمر بين الدول الأعضاء لمواجهة هذه التحديات بشكل جماعي، وذلك من خلال تعزيز التعاون الإقليمي والالتزام بالعمل المشترك لتحقيق استقرار وأمن المنطقة.
ثالثًا، في كلمته، أشار الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ قد حققت نجاحات كبيرة في التنمية والازدهار والاتصال على مدار العقود الماضية، مما جعلها المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي. وأكد أن التعاون في المنطقة يواجه تحديات متزايدة بسبب تصاعد التوجهات الجيوسياسية والانفرادية وحمائية الأسواق. وللتعامل مع هذه التحديات، دعا شي جين بينغ دول المنطقة إلى التكاتف والعمل المشترك لبناء مجتمع آسيوي ومحيطي مشترك ذي مستقبل واحد، مع التركيز على تعزيز التعاون والتكامل الاقتصادي.
كما طرح الرئيس الصيني ثلاث مبادرات رئيسية لتعزيز التعاون في المنطقة. أولًا، دعا إلى بناء نموذج مفتوح ومترابط للتعاون في آسيا والمحيط الهادئ، مع التأكيد على ضرورة دعم التعددية والنظام التجاري الدولي. ثانيًا، أكد على أهمية الابتكار الأخضر كدافع رئيسي للتنمية في المنطقة، مشددًا على ضرورة استثمار الفرص الناتجة عن الثورة التكنولوجية لتحفيز النمو المستدام. وأخيرًا، شدد على أهمية رؤية شاملة ومفيدة للجميع في التنمية، مع دعم الاقتصادات النامية والفئات الاجتماعية الأقل حظًا لتحقيق توزيع عادل للفوائد الاقتصادية.
من خلال هذه الكلمات، أكد القادة على أهمية التزامهم بالعمل المشترك لتعزيز استقرار وأمن المنطقة، فضلًا عن تعزيز التعاون عبر الحدود لمواكبة التحولات العالمية.
محادثات بايدن وشي
على هامش القمة، عُقد اجتماع ثنائي بين الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الصيني شي جين بينغ، يوم 16 نوفمبر 2024. استمر الاجتماع لمدة 90 دقيقة. اللقاء كان بمثابة فرصة أخيرة لبايدن للتواصل مع القيادة الصينية قبل انتقال السلطة إلى الرئيس المنتخب دونالد ترامب. ركز الاجتماع على مناقشة قضايا استراتيجية واقتصادية ذات أهمية عالمية، مع التأكيد على الحاجة إلى استقرار العلاقات الثنائية.
وتمثل أبرز ما توصل إليه الزعيمان في الاتفاق على أن قرارات استخدام الأسلحة النووية يجب أن تبقى تحت السيطرة البشرية وليس الذكاء الاصطناعي. يُعد هذا الاتفاق الأول من نوعه بالنسبة للصين، حيث وصفه مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” بأنه خطوة أولى مهمة لمعالجة المخاطر الاستراتيجية على المدى الطويل بين القوتين النوويتين.
في سياق آخر، انتقد الرئيس شي القيود الأمريكية المفروضة على تصدير التكنولوجيا المتقدمة، واعتبر أن هذه السياسات تتعارض مع روح التعاون الدولي. وتضمنت هذه القيود تقنيات حيوية مثل أشباه الموصلات المستخدمة في الأنظمة العسكرية، مما أثار توترًا في العلاقات الثنائية. في المقابل، أكد بايدن مخاوفه من الممارسات التجارية الصينية ودورها في دعم روسيا عسكريًا، مشددًا على ضرورة تدخل الصين للحد من دعم كوريا الشمالية لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا.
ومع استعداد إدارة ترامب لتولي مقاليد البيت الأبيض قريبًا، أعرب شي عن استعداد الصين للعمل مع إدارة ترامب المقبلة لتعزيز الحوار وتوسيع التعاون، مع تأكيده أن موقف الصين الثابت في حماية سيادتها ومصالحها التنموية لن يتغير. ومن جانبه، شدد بايدن على أهمية الاستقرار في العلاقات الثنائية خلال الفترة الانتقالية، مؤكدًا أن استمرارية السياسات الأمريكية الحالية، مثل قيود التصدير، ستكون مفتاحًا للحفاظ على هذا الاستقرار.
شمل الاجتماع أيضًا مناقشات حول قضايا مثل مكافحة المخدرات والتغير المناخي، حيث أشار بايدن إلى التقدم المحرز في هذه المجالات، مؤكدًا أهمية البناء على هذه المكاسب. في الوقت ذاته، وصف شي العلاقة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين بأنها الأهم في العالم، مع التأكيد على أن التعاون المشترك هو السبيل لتحقيق تنمية شاملة ومواجهة التحديات العالمية.
إعلانات أبيك 2024.. تعزيز التعاون والتنمية الشاملة
تحت شعار “التمكين، الشمول، والنمو”، تم إصدار ثلاث وثائق ختامية تسلط الضوء على التوجهات الرئيسية لدول منطقة آسيا والمحيط الهادئ نحو تحقيق التعاون والتنمية المستدامة.
- إعلان ماتشو بيتشو لقادة أبيك 2024، الذي أُصدر في ختام الاجتماع، يمثل تجسيدًا لإرادة قادة الدول الأعضاء في تعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي. وقد ركز الإعلان على أهمية تعزيز الروابط الاقتصادية بين دول آسيا والمحيط الهادئ، مع التأكيد على ضرورة تبني سياسات تضمن التنمية المستدامة والشاملة. كما تم التأكيد على أهمية التقليل من الفجوات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، والعمل على تحسين الأمن الغذائي والطاقة لمواجهة التحديات البيئية والجيوسياسية المتزايدة. إضافة إلى ذلك، أُشير إلى الحاجة الماسة للتحول نحو اقتصاد رقمي وأكثر اخضرارًا لدفع عجلة النمو في المنطقة.
- بيان إيشيما بشأن رؤية جديدة لأجندة منطقة التجارة الحرة لآسيا والمحيط الهادئ (FTAAP)، تناول هذا البيان تحديث رؤية منطقة التجارة الحرة في ضوء التحولات الاقتصادية والتكنولوجية المعاصرة. وشدد على ضرورة توسيع نطاق الاتفاقيات التجارية لتشمل مجالات مثل التجارة الرقمية، التكنولوجيا النظيفة، والابتكار الأخضر. كما تم التأكيد على معالجة التحديات الاقتصادية المعاصرة، مثل الحواجز التجارية وحمائية الأسواق، والعمل على ضمان استقرار سلاسل الإمداد في المنطقة. ويهدف هذا البيان إلى دعم التعاون المتبادل بين الدول الأعضاء لخلق بيئة تجارية أكثر شمولية ومرونة، وبما يُسهم في تعزيز التكامل الإقليمي.
- خارطة طريق ليما لتعزيز الانتقال إلى الاقتصاديات الرسمية والعالمية، والتي تُعد بمثابة خطة استراتيجية لدمج الاقتصاديات غير الرسمية في النظم الاقتصادية الرسمية. وقد ركزت الخارطة على تعزيز الشمول المالي ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة لتسهيل انتقالها إلى الاقتصاد الرسمي. كما دعت إلى تبني سياسات اجتماعية تدعم حقوق العمال في الاقتصاد الرسمي وتحسن ظروفهم، بما في ذلك توفير بيئة عمل آمنة ومستدامة. تهدف هذه الخطة إلى تمكين الاقتصادات النامية من المشاركة بشكل فعال في سلاسل القيمة العالمية، مما يسهم في دفع النمو العالمي.
من خلال هذه الوثائق، هدف قادة أبيك إلى تعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي وتحقيق التنمية المستدامة التي تعود بالنفع على جميع دول المنطقة.
ختامًا، تبرز قمة “أبيك” 2024 كأداة حيوية في تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي بين دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ في وقت يشهد فيه العالم تحديات متعددة. ومن خلال التأكيد على أهمية التكامل الإقليمي والمرونة الاقتصادية، تمثل القمة منصة مثالية لمناقشة سبل التعامل مع الأزمات العالمية مثل اضطرابات سلاسل التوريد والتغير المناخي. كما أعادت القمة التأكيد على ضرورة العمل المشترك لضمان استقرار الأسواق وتعزيز التنمية المستدامة، مع التركيز على الابتكار الأخضر والتحول الرقمي. وقد أظهرت كلمات القادة التزامًا جادًا بتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء وتعميق العلاقات التجارية مع الشركاء العالميين في مواجهة التوترات الجيوسياسية. في النهاية، تساهم هذه القمة في ترسيخ أسس التعاون العالمي والإقليمي الذي يضمن استدامة النمو الاقتصادي ويعزز من القدرة على مواجهة التحديات المستقبلية.