لقد أنهكتنا الحروب فى منطقتناالمنكوبة.السلام فى الشرق الأوسط لا هو فى متناول اليد، ولا هو ينتظرنا عند الناصية التالية. حجم الخلافات بين الأطراف المتصارعة فى المنطقة كبير، فى منطقة تكثر فيها المطالب المتعارضة النافية لوجود الآخر. لكل طرف فى الشرق الأوسط سرديته الخاصة للتاريخ، والتى تجعل منه مظلوما مضطهدا، لن يقام الحق فى الأرض حتى يعود إليه حقه كما يراه هو. هذا هو ما ينطق به لسان حال الفلسطينيين واليهود والكرد والمسيحيين والشيعة والسنة والفرس والعرب. لو انتظرنا حتى يحل السلام، فنحل كل صراعات المنطقة، ونتفق على سردية واحدة ترضى الأطراف جميعا، فلن تتوقف الحروب فى الشرق الأوسط أبدا. المطلوب هو إيجاد حالة، ولو مؤقتة، تتوسط المسافة بين حروب الشرق الأوسط الدائمة وسلامه المستحيل.
الروايات المتناقضة والمطالب المتعارضة ليست أمرا ينفرد به الشرق الأوسط، ففى جذر كل نزاع توجد ادعاءات متعارضة وروايات متناقضة. الصين والهند، والهند وباكستان، وكوريا الشمالية والجنوبية، والصين وتايوان، كل طرف من هؤلاء له روايته وادعاءاته الخاصة به. مشكلة الشرق الأوسط هى أن الصراعات فيه كثيرة ومتداخلة، وذات مستويات متعددة، ففيه صراعات بين دول، وصراعات داخل الدول، وصراعات بين عرقيات وطوائف وجماعات أيديولوجية وميليشيات مسلحة. كل هذا يحدث دفعة واحدة، فتتداخل خطوط الصراع ومستوياته، ويصعب فصلها عن بعضها. ما يجعل الوضع فى منطقتنا أكثر خطورة.
فى أغلب مناطق العالم تدور الصراعات بين دول لها حكومات، تنفرد باتخاذ قرارات الحرب والسلام، فتذهب للحرب عندما تكون جاهزة، وتوقف النار عندما تزيد تكلفة ومخاطر الحرب عن مكاسبها. أطراف صراعات الشرق الأوسط دول وميليشيات وأشباه دول، يتمتع كل منها بسلطة اتخاذ قرارات الحرب والسلام، فتبدأ الحروب ويطول مداها، حتى لا تكاد تنتهى.
فى أغلب مناطق العالم توجد صراعات وخلافات وسرديات تاريخية متعارضة، إلا أنها لا تتحول إلى حروب إلا بشكل استثنائى، على عكس الحال فى الشرق الأوسط الذى تتحول فيه الخلافات والمصالح المتعارضة بسهولة إلى حروب مدمرة. لم تقم حرب بين كوريا الشمالية والجنوبية منذ انتهت الحرب الكورية عام 1953. لم تقم الحرب أبدا بين الصين وتايوان منذ تم الانقسام بين الوطن الأم والجزيرة فى عام 1949. آخر حرب بين الهند وباكستان وقعت فى عام 1971. باستثناء مناوشات حدودية محدودة جدا، كان آخرها معركة بالعصى بين جنود الطرفين قبل عامين، فإن آخر مواجهة عسكرية كبيرة بين الصين والهند حدثت فى عام 1962. لم يتخل أحد من هذه الأطراف عن مطالبه، فمازالت الصين تريد ضم تايوان، ومازالت كل من الهند وباكستان متمسكة بمطالبها فى كشمير، ومازالت كوريا الجنوبية تسعى لتوحيد الكوريتين. أسباب الصراع مازالت قائمة فى كل هذه الحالات، والسلام بينها مازال بعيدا، لكن الحروب بينها لا تنشب إلا نادرا.
الوضع فى كل هذه الحالات ليس نموذجيا، ولكنه بالتأكيد محتمل، وأكثر انسجاما مع الطبيعة البشرية. الإنسان كائن متعدد الأبعاد والاحتياجات، يحتاج إلى الكرامة الوطنية وتقرير المصير والتعبير عن الهوية الوطنية، ويحتاج أيضا إلى رفاه اقتصادى وأسرة وأصدقاء وأبناء يحرص على سلامتهم وأمنهم. فى الحالة الراهنة فى الشرق الأوسط فإن كل هذه الاحتياجات والأبعاد يتم التضحية بها فى سبيل طموح جماعى وطنى أو دينى، لا يمكن التقليل من أهميته، لكن لا يمكن أيضا اختزال كل أبعاد الوجود الإنسانى الأخرى فى إطاره.تحتاج شعوب الشرق الأوسط إلى فسحة تمارس فيها عددا أكبر من أبعاد وجودها الإنسانى المتعدد الأبعاد.
هل يمكن للشرق الأوسط أن يتعلم شيئا من خبرات هذه البلاد؟ هل يمكن لأطراف الصراع فى الشرق الأوسط أن تحتفظ بخلافاتها، لكى تتوقف عن شن الحرب ولو لبعض الوقت؟فى كل الحالات المشار إليها لم يتم التوصل إلى اتفاق ينهى الصراع، ومازال تفجر العنف محتملا فى أى لحظة، لكن الحياة متواصلة، وبعض هذه الشعوب وصل إلى أرقى مراتب التقدم اقتصاديا وسياسيا وتكنولوجيا رغم سيف الحرب المسلط على رقبته طوال الوقت.
السعى للسلام فى الشرق الأوسط هو مسعى غير واقعى، فهل لنا الاكتفاء بوقف الحروب، وبدلا من السعى لحل صراعات المنطقة الرئيسية بشكل نهائى، نركز على التوصل إلى ترتيبات تجنبنا نشوب الحرب ولو لفترة من الزمن، تستعيد فيها المنطقة عافيتها، وربما صادفنا فى أثناء فترة التوقف عن الحرب هذه مخرج أكثر استدامة لصراعاتنا التى تبدو أبدية وبلا نهاية. فالعالم يتقدم بسرعة، ومن الأفضل لشعوب الشرق الأوسط التفرغ لبعض الوقت للحاق بما فاتها من تقدم علمى واجتماعى وثقافى واقتصادى.
ماذا لو جمدنا الأوضاع الراهنة فى المنطقة، وطلبنا مساعدة المجتمع الدولى لمراقبة ذلك، بدلا من مطالبته بمساعدتنا فى التوصل إلى اتفاقات سلام يكاد يستحيل التوصل إليها. ماذا لو وضعنا ذلك فى شكل ترتيبات موقوتة زمنيا، خمس أو عشر أو عشرين سنة. لم يحصل الشرق الأوسط على عام واحد بغير حرب منذ نصف قرن، وسيكون من الرائع أن نمنحه عدة سنوات متصلة بغير حروب.الأمر ليس سهلا، لكنه يستحق التفكير والمحاولة. لدينا قضايا شديدة التعقيد، فلنعط للزمن فرصة لكى يفعل فعله، فربما ساعدنا فى إيجاد مخرج من الحالة الراهنة.