لطالما كانت العلاقات المصرية- الفرنسية متينة وراسخة على مستويات متعددة سواء السياسية منها أو الاقتصادية أو الحضارية. وفي هذا السياق جاءت زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، رفيعة المستوى إلى مصر في إبريل الجاري، دعمًا قويًا للموقف المصري بشأن غزة والقضية الفلسطينية، كما حملت دلالات قوية حول وضع مصر وأهمية العلاقات بين مصر وأوروبا وخاصة في ظل الوضع الجيوسياسي والاقتصادي غير المستقر إقليميًا وعالميًا؛ لذا فإن الزيارة نجحت على جميع الأصعدة وعززت من الشراكة الاستراتيجية بين البلدين؛ حيث وقّع الرئيسان المصري والفرنسي إعلانًا مشتركًا لترفيع العلاقات بين مصر وفرنسا إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، وشهدا توقيع عدد من مذكرات التفاهم بين البلدين في قطاعات متعددة شملت الصحة والتعليم والبنية الأساسية والاقتصاد والطاقة، وكذلك انعقاد فاعليات منتدى الأعمال المصري الفرنسي بمشاركة واسعة من المسئولين وممثلي مجتمع الأعمال بالبلدين. وقاما بعدها الرئيسان بزيارة لخان الخليلي ومحطة عدلي منصور، واختتما الزيارة بزيارة مهمة لسيناء ومستشفى العريش. يتناول المقال التعاون على مستوى قطاع الطاقة وخاصة طموح البلدين في تنويع مزيج الطاقة والتحول لاقتصاد منخفض الكربون.
قطاع الطاقة في فرنسا
تتميز فرنسا بأنها رائدة في مجال توليد الكهرباء النظيفة؛ حيث تستمد أكثر من 96% من كهربائها من مصادر منخفضة الكربون. ويعود هذا الإنجاز الرائع في المقام الأول إلى قطاع الطاقة النووية، والذي يسهم بنحو 68% من إجمالي الطاقة المنتجة؛ مما يجعله حجر الزاوية في استراتيجية فرنسا منخفضة الكربون. وتشكل الطاقة الكهرومائية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية معًا حوالي 27%؛ مما يسلط الضوء على مزيج الطاقة المتنوع والمستدام في فرنسا. وتمثل مصادر الطاقة الأحفورية وخاصة الغاز، 3.63% فقط من إنتاج الكهرباء؛ مما يعزز اعتماد فرنسا المنخفض على مثل هذا الوقود الملوث. وتعتبر فرنسا من الدول الأوروبية المهمة في تطوير خطط واستراتيجيات التحول للطاقة النظيفة وخفض الكربون في كل قطاعات الاقتصاد وخاصة النقل والصناعة والسكنى التي تمثل النسبة الأعلى في استهلاك الطاقة، واستراتيجيات الوصول للحياد الكربوني بحلول عام 2050، مثل استراتيجية إزالة الكربون، واستراتيجية الطاقة والمناخ والتي أُعلن عنها في 2022. كما تعمل فرنسا على تطوير اقتصاد الهيدروجين الأخضر ومشتقاته، سواء المنتج أو المستورد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي تحرص على تعزيز التعاون الدولي معها في هذا المجال.
التعاون الاقتصادي والتجاري بين مصر وفرنسا
تتمتع مصر وفرنسا بعلاقات استراتيجية واسعة، تشمل العديد من المجالات الحيوية التي تشهد تعاونًا فعالًا؛ حيث تُعد فرنسا من الشركاء الرئيسيين لمصر. تبلغ الاستثمارات الفرنسية الحالية في مصر حوالي 7.7 مليارات دولار، من خلال 180 مشروع. التبادل التجاري بين البلدين سجل 2.8 مليار دولار في عام 2024، بزيادة قدرها 14% مقارنةً بعام 2023، وبلغت الصادرات المصرية إلى فرنسا نحو مليار دولار. يشمل مجموعة واسعة من السلع، بما في ذلك المعدات الصناعية، والمنتجات الزراعية، والمعدات الإلكترونية. وتعتبر مصر أكبر متلق للاستثمار الأجنبي المباشر في أفريقيا لمدة عامين متتاليين، 2023/2024.
ومن أهم المؤسسات الدولية للتعاون الدولي هي الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD)، وهي مؤسسة مالية تمثل الذراع الرئيسية لفرنسا في تنفيذ سياسات التنمية والتضامن الدولي. بدأت الوكالة نشاطها في مصر عام 2006، ومنذ ذلك الحين، توسعت مجالات عملها لتشمل العديد من القطاعات الحيوية؛ منها الطاقة والنقل والمواصلات ، البنية التحتية، التحول الرقمي، التعليم والتدريب والبحث العلمي، قطاع الصحة، المياه والصرف الصحي، والتنمية المستدامة. وتحرص مصر على تعزيز التعاون مع الجانب الفرنسي في مجالات متعددة تشمل الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، البنية التحتية؛ حيث إن هناك فرصًا واعدة للاستثمار الفرنسي في السوق المصري، لا سيما في ظل التحول نحو الاقتصاد الأخضر وخفض الكربون.
تعاون مصري فرنسي في قطاع الطاقة
شهدت السنوات الأخيرة تعاونًا واضحًا بين مصر وفرنسا في قطاع الكهرباء والطاقة. حيث تم توقيع العديد من الاتفاقيات والمشروعات المشتركة التي تهدف إلى تعزيز البنية التحتية للطاقة في مصر، ودعم التحول نحو الطاقة النظيفة والمستدامة، من أهمها:
- تطوير شبكات الكهرباء
في سبتمبر 2023، وقّعت وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة المصرية مذكرتي تفاهم مع شركة EDF الفرنسية بهدف تطوير شبكات توزيع الكهرباء في شمال القاهرة. تهدف هذه الاتفاقيات إلى تحسين مستوى الخدمة، وزيادة كفاءة أنظمة التوزيع، وتقليل الفاقد من الطاقة.
- مشروعات الطاقة المتجددة
هناك تعاون وثيق مع الجانب الفرنسي لدعم التحول للطاقات المتجددة في مصر؛ حيث شاركت الشركات الفرنسية في تطوير وتنفيذ مجمع بنبان للطاقة الشمسية في أسوان عام 2019. من خلال شركة EDF Renewablesمع شركة السويدي إليكتريك المصرية في إنشاء محطتين للطاقة الشمسية بقدرة إجمالية تبلغ 130 ميجاوات. كما قامت أيضًا شركة Voltalia الفرنسية بإنشاء وتشغيل محطة بقدرة 32 ميجاوات. وكان التشغيل في عام 2019.
في نوفمبر 2024، تم توقيع اتفاقية بين وزارة الكهرباء المصرية وتحالف يضم شركة Voltalia الفرنسية وشركة TAQA Arabia المصرية لإعادة تأهيل وتطوير مزرعة رياح الزعفرانة. يهدف المشروع إلى إنشاء محطة هجينة تجمع بين طاقتي الرياح والطاقة الشمسية تتكون من 1.1 جيجاوات من طاقة الرياح و2.1 جيجاوات من الطاقة الشمسية؛ مما يجعلها الأولى من نوعها في مصر ويتوقع بداية التشغيل في عام 2028.
في ديسمبر 2024، وقّعت الشركة المصرية لنقل الكهرباء (EETC) مذكرات تفاهم مع شركات فرنسية وإماراتية لإضافة 5.2 جيجاوات من قدرات الطاقة المتجددة في مصر، تتضمن هذه المشروعات تطوير محطات للطاقة الشمسية وطاقة الرياح؛ مما يسهم في تعزيز حصة الطاقة النظيفة في مزيج الطاقة المصري.
- مشروعات الهيدروجين الأخضر
في ديسمبر 2022، توقيع مذكرة تفاهم للتعاون الفني الاستراتيجي بين مصر وفرنسا لتطوير قطاع الهيدروجين الأخضر في مصر. بموجب هذه الاتفاقية، تقدم فرنسا منحة بقيمة 500 ألف يورو من خلال الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) لدعم تطوير هذا القطاع.
- تعاون في مجال نقل الغاز الطبيعي
في يناير 2025، وقّعت مصر وقبرص اتفاقيات مع تحالف يضم شركتي Total الفرنسية وEni الإيطالية لنقل الغاز الطبيعي من حقل “كرونوس” القبرصي إلى مصر؛ حيث ستجري عملية تسييله وتصديره خاصة إلى الأسواق الأوروبية. تُعد هذه الاتفاقيات خطوة مهمة في تعزيز التعاون الإقليمي في مجال الطاقة.
اتفاقيات جديدة لدعم قطاع الطاقة
على هامش زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مصر في إبريل الجاري، وفي إطار التعاون الاستراتيجي بين البلدين، وُقع عدد من اتفاقيات التعاون المشترك بين البلدين في مجال الكهرباء والطاقة. قام الدكتور محمود عصمت وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، والدكتورة رانيا المشاط وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، وجون نويل باجو وزير أوروبا والشئون الخارجية، وريمي ريو المدير العام للوكالة الفرنسية للتنمية، بالتوقيع على اتفاقية تمويل مشروع مركز التحكم الإقليمي بالإسكندرية، بحضور أنجيلا ايخوست سفيرة الاتحاد الأوروبي لدى مصر.
كما شهد الدكتور محمود عصمت، وايريك لومباج مراسم التوقيع على عقد لإنشاء وتنفيذ مركز التحكم والتوزيع الكهربائي بشرم الشيخ والذي تقوم بتنفيذه شركة شنايدر الكتريك.
محطة رأس شقير لإنتاج الأمونيا الخضراء
وُقعت اتفاقية تعاون لتطوير وتنفيذ محطة متكاملة لإنتاج الهيدروجين الأخضر ومشتقاته، بما في ذلك الأمونيا الخضراء، في محيط منطقة “رأس شقير”. وجاءت الاتفاقية بين كل من الهيئة العامة لموانئ البحر الأحمر وهيئة الطاقة الجديدة والمتجددة بالشراكة مع تحالف الوقود الأخضر المكون من شركتي “EDF Renewables” الفرنسية و “Zero Waste” المصرية/الإماراتية. يستهدف المشروع إنتاج مليون طن سنويًا من الأمونيا الخضراء على 3 مراحل، بدءًا من عام 2029، لدعم أهداف الدولة في توفير وقود نظيف لتموين السفن، بالإضافة إلى التصدير للأسواق العالمية. وقد أُعلن أن تحالف شركتي EDF Renewables الفرنسية وZero Waste المصرية/الإماراتية سيضخ استثمارات مباشرة بقيمة 2 مليار يورو لتمويل المرحلة الأولى من هذا المشروع ، لإنتاج 300 الف طن سنويًا من الأمونيا الخضراء، على أن تصل التكلفة الاستثمارية الإجمالية للمراحل الثلاث إلى 7 مليارات يورو للوصول لإجمالي إنتاج مليون طن سنويًا، تُمول بالكامل من قبل القطاع الخاص المسئول عن المشروع بما في ذلك البنية التحتية اللازمة. حيث خُصص 368 كم² لمراحل المشروع الثلاث كمناطق لتوليد الطاقة الشمسية والرياح في رأس شقير و1.2 مليون متر² لإنشاء المصنع المخصص للإنتاج، بالإضافة إلى خطوط نقل الكهرباء بطول 7 كم وعرض 100 متر. أيضًا ستقوم شركة المشروع بإنشاء وحدة لتحلية مياه البحر لتوفير المياه اللازمة لجميع مراحل المشروع. كما سيقوم التحالف بتمويل وتطوير رصيف شحن بطول 400 متر لصالح هيئة موانئ البحر الأحمر، مع تركيب كافة المرافق اللازمة له.
وبالإضافة إلى توفير فرص العمل خلال مراحل تنفيذ وتشغيل هذا المشروع، ستقوم الشركة بتدريب العمالة المصرية وتأهيلها بهدف الوصول تدريجيًا إلى نسبة 95% من إجمالي العمالة المباشرة بالمشروع؛ مما يسهم في بناء كوادر محلية متخصصة في قطاع الطاقة النظيفة.
وأخيرًا: يشكّل التعاون المصري الفرنسي في قطاع الطاقة نموذجًا ناجحًا للشراكات التنموية، حيث يجمع بين التمويل، التكنولوجيا، والتنمية المستدامة. التزام مصر بتعزيز استخدام الطاقة المتجددة وخفض الانبعاثات الكربونية بالتعاون مع شركاء دوليين، بما في ذلك الشركات الفرنسية، يعكس أهداف مصر لتحقيق التنمية المستدامة ومواجهة تداعيات التغير المناخي على الرغم من مشاركتها الضئيلة من إجمالي الانبعاثات العالمية. كما يعكس التزام مصر بتعزيز دورها الأقليمي وموقعها الجغرافي في دعم شراكة مصرية – أوروبية، تتيح للجانب الأوروبي ولا سيما الفرنسي من الاعتماد على موارد الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر في مصر في تحقيق أمن الطاقة.