بصوت واحد وبلهجة حادة، حذر فريق الإدارة الأمريكية الثلاثي (وزيرا الدفاع والخارجية، ومستشار الأمن القومي) إيرانَ من الإقدام على تهديد المصالح الأمريكية في الخليج. تحذيرات اقترنت بحضور عسكري أمريكي في مياه الخليج بنشر قطع بحرية استراتيجية، بينها حاملة الطائرات الأمريكية “إبراهام لينكولن” وقوة من القاذفات في وضع الاستعداد للرد بـ”القوة الشديدة” على أي تهديد إيراني. وكانت إيران قد استبقت التحركات الأمريكية بتصعيد بلهجة مشابهة وإن كانت مكررة، حيث هددت مجددًا بإغلاق مضيق هرمز الاستراتيجي في الخليج ردًّا على القرارات الأمريكية المتوالية التي تُغلظ العقوبات على طهران، خاصة عدم تجديد الإعفاءات الاستثنائية الخاصة بالنفط، ما قد يهبط بصادراتها إلى الصفر.
تصعيد دون الحرب
على الرغم من تصاعد المواقف بين الطرفين؛ إلا أن نُذُر الحرب لا تزال دون السقف المتصور بينهما في ظل مؤشرات عديدة. فعلى مستوى طبيعة الانتشار، لا يبدو أن نمط الانتشار الحالي وإن كان يزيد نسبيًّا عن نمط الانتشار التقليدي؛ إلا أنه لا يعد نمطًا استثنائيًّا، إذ إن الولايات المتحدة في حال اتخذت قرار الحرب ضد إيران فإنها بحاجة إلى مضافعة هذا المستوى ثلاث مرات أخرى على الأقل، في شرق المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب، إضافة إلى تعزيز وضع حلفائها الإقليميين في الخليج دفاعيًّا، لا سيما الدول التي تقع في مرمى أول الضربات، من خلال نشر بطاريات باتريوت جديدة وأخرى إضافية على نحو شبكة الدفاع التي يتم العمل عليها خلال الشهور الأخيرة في إسرائيل. وبالتالي، في المرحلة الحالية يمكن القول إن طبيعة التوازن الاستراتيجي في الخليج يجعل من مصلحة الطرفين عدم اللجوء للخيار العسكري، لكن ذلك لا يمنع من احتمال حدوث هذا السيناريو حال زيادة التصعيد بين الطرفين. ومع كل الاحتمالات يبقى هذا التطور مقدمة لصيف ساخن بين طهران وواشنطن، قد يصل في أحلك الظروف إلى مواجهة محدودة.
ولا يُعد ظهور حاملة طائرات أمريكية في مياه الخليج أمرًا مفاجِئًا، وفقًا لجدول أعمال القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط، لكن الجديد -في هذا السياق- هو تحويل مسار حاملة الطائرات الأمريكية “إبراهام لينكولن” من شرق المتوسط، حيث كان مفترضًا إبحارها باتجاه البحر الأسود في إطار التطورات الخاصة بالعلاقة بين الناتو وروسيا. وفي هذا الصدد، تحدث فريق الإدارة الأمريكية عن مخاوف من تهديدات إيرانية تجاه المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وفقًا لمعلومات محددة تؤكد تلك النوايا من جانب إيران.
وفي هذا السياق، توالت التقارير الأمريكية التي تناولت الحدث، حيث نقلت “وول ستريت جورنال” عن مسئولين أن الانتشار الأمريكي جاء بسبب تحذير تقارير استخبارية محددة بشكل غير معتاد من خطط حول هجوم إيراني. وأكدت المصادر للصحيفة أن المعلومات محددة ومؤكدة وتصل إلى درجة الكشف عن موقع الهجوم المحتمل ضد الوجود الأمريكي في سوريا ومن سيقوم بذلك. كما أكدت مصادر لصحيفة “نيويورك تايمز” خلفيات وتداعيات تصريحات فريق الإدارة الأمريكية، ونقلت فيه عن مصادر لم تكشف عن هويتها أن البيت الأبيض والبنتاجون اتخذا القرار الخاص بالجاهزية العسكرية بعد معرفتهما معلومات مخابراتية أظهرت نشاطًا جديدًا من جانب القوات المتحالفة مع إيران منذ يوم الجمعة 3 مايو الجاري.
وفي سياق آخر، كشف موقع “إكسيوس” الأمريكي، نقلًا عن مسئول إسرائيلي، أن جهات إسرائيلية، وتحديدًا الموساد، يعد هو مصدر تلك التقارير، حيث تم استعراض ما يشير إلى وجود مؤامرة إيرانية يجري الاستعداد لها ضد المصالح الأمريكية أو الحلفاء في الخليج قبل أسبوعين خلال محادثات عُقدت في البيت الأبيض بين وفد إسرائيلي برئاسة مستشار الأمن القومي “مئير بن شبات” وفريق أمريكي بقيادة “بولتون”. لكن على ما يبدو -وفقًا لتقارير “نيويورك تايمز” و”وول ستريت جورنال”- أن الولايات المتحدة سعت إلى التأكد من تلك التقارير، لا سيما مع الإشارة إلى أن القيادة المركزية في الخليج هي التي طلبت دعمًا إضافيًّا.
تغير قواعد الاشتباك
تشكّلت لدى الولايات المتحدة قناعة بأن الأذرع الإقليمية لإيران أصبحت تمثل خطرًا على الوجود والمصالح الأمريكية في المنطقة، وهو متغير تكتيكي في الاستراتيجية الأمريكية التي كانت تفصل بين إيران ووكلائها الإقليميين. لكن مع نقل القدرات والخبرات الإيرانية إلى الوكلاء، أصبح من الصعوبة بمكان هذا الفصل؛ فالميليشيات في العراق واليمن ولبنان أصبحت تمتلك قدرات تسلح فوق تقليدية، كالصواريخ البالستية والطائرات دون طيار، وبالتالي فإن التغير في قواعد الاشتباك يهدف إلى تحميل إيران المسئولية عن أعمال تابعيها. ففي حال شنت الميليشيات في العراق هجومًا على القاعدة الأمريكية؛ فإن رد الفعل الأمريكي يحتمل ردًّا على تلك الميليشيات في العراق وعلى إيران في الوقت ذاته.
وكذلك في حالة الهجوم على الحلفاء، كأن يستهدف “حزب الله” إسرائيل بالصواريخ، فإن إيران ستتحمل المسئولية، وهو ما يشير إليه “إفرايم كام” من برنامج الدفاع في معهد الأمن القومي الإسرائيلي، حيث يشير إلى أن إيران لا تفضل أن تكون هي من يطلق الطلقة الأولى نحو الولايات المتحدة وحلفائها، وبالتالي قد تكلف وكلاءها بذلك، خاصة “حزب الله” تجاه إسرائيل. وبالتالي، فإن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة أصبحت لا تفرق بين أن تستهدف إيران مباشرة المصالح الأمريكية وبين تحريك إيران لوكلائها في المنطقة للقيام بهذا الدور نيابة عنها، ففي كلتا الحالتين ستعتبر الولايات المتحدة أن إيران هي من أطلقت الطلقة الأولى التي تستوجب الرد.
خريطة التحالفات الجديدة
هناك معطى إقليمي جديد يتمثل في تحالفات إيران الإقليمية، لا سيما مع روسيا في سوريا، وتمركز روسيا في شرق المتوسط، ومن المؤكد أنه ستكون لديها رغبة في استعراض موازٍ للقوة على الأقل في شرق المتوسط، في الوقت الذي زادت فيه موسكو بالفعل عدد القطع البحرية بعد تأهيل ميناء طرطوس. كذلك، فإن أي حرب دخلتها الولايات المتحدة الأمريكية اعتمدت على لوجستيات تركية واضحة من خلال قاعدة إنجرليك، وهو عنصر لم يعد متوفرًا، بل على العكس أصبحت تركيا تراهن على مصالح مستقلة في مواجهة الولايات المتحدة وليس مصالح مشتركة على النحو السابق. وهو ما يعني أن المتغير الخاص بخريطة التحالفات الجديدة ليس في صالح شن واشنطن حربًا ضد إيران وإنما يشكل تحديًا جديدًا لها.
دوافع متعددة
ثمة دوافع استراتيجية وراء التحركات الأمريكية الأخيرة، تنقسم إلى دوافع سياسية وأخرى تحمل أبعادًا ميدانية. الأولى، يمكن قياسها مباشرة في الوقت الراهن، أما الأخيرة فإنها بحاجة إلى اختبار في المدى المنظور للحضور الأمريكي في الشرق الأوسط.
1- بث رسائل تحذيرية مباشرة: حيث تهدف واشنطن من خلال عملية استعراض قوتها العسكرية في الخليج إلى إرسال رسالة مفادها جاهزية الردع في مواجهة أي تحرك محتمل لطهران، وأن الردع لن يطال فقط أذرع إيران الإقليمية حال أقدمت على تهديد مصالح واشنطن وحلفائها الإقليميين، وإنما ستدفع إيران فاتورة ذلك مباشرة، وهي الرسالة التي شكلت القاسم المشترك في حديث فريق الإدارة الأمريكية لتفسير دوافع التحرك الأخير، على نحو ما أشار إليه مستشار الأمن القومي الأمريكي “جون بولتون” بـأن الهدف من تحويل مسار “إبراهام لنكولن” هو “إرسال رسالة واضحة لا لبس فيها إلى النظام الإيراني مفادها أن أي هجوم على مصالح الولايات المتحدة أو على مصالح حلفائنا سوف يقابل بقوة لا هوادة فيها”. وأضاف أن “الولايات المتحدة لا تسعى إلى الحرب مع النظام الإيراني، لكننا على استعداد تام للرد على أي هجوم، سواء بالوكالة أو فيلق الحرس الثوري الإسلامي أو القوات الإيرانية النظامية”.
2- تأمين الخيارات الأمريكية في الملفات الإقليمية الأخرى التي قد تشكل إيران عقبة لما تقدم عليه واشنطن من ترتيبات، وذلك وفقًا لما أشار إليه “بومبيو” أثناء جولته الحالية التي يقوم بها في أوروبا، ومنها -على سبيل المثال- أن الولايات المتحدة وإسرائيل متفقتان على أنّ وجودًا دائمًا لإيران في سوريا ومواصلة تعزيز هذا التواجد من خلال بنية عسكرية مستقلة عن البنية السورية يشكل تهديدًا لإسرائيل وللقوات الأمريكية الموجودة هناك، لا سيما في قاعدة التنف على الحدود السورية العراقية، وكذلك العراق مع خطة انتقال القوات الأمريكية من سوريا إلى قاعدة “عين الأسد” في العراق في ظل توعد الميليشيات العراقية باستهدافها، لا سيما ميليشيات “عصائب أهل الحق” التي أعلنت ذلك مباشرة في أعقاب إعلان الرئيس الأمريكي أن القوات الأمريكية تتمركز في العراق بهدف مراقبة إيران. كما يُضيف مراقبون أن إيران قد تلجأ إلى استئناف نشاطها النووي، وهو ما يحتمل أن يصدر عن الرئيس الإيراني “حسن روحاني” في خطاب الأربعاء 8 مايو الجاري.
3- زيادة التواجد العسكري: وهو البعد الأهم في تلك الدوافع بالنظر إلى انعكاساته الميدانية، واللافت -في هذا السياق- هو حديث القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي عن “إعادة التمركز” الأمريكي. وفي حين أن الأسطول الخامس هو قيادة مركزية قائمة في الخليج، فإن حديث “هانشهان” هنا مؤشر على احتمالات نمط انتشار جديد ودائم، في ظل رغبة الولايات المتحدة في مضاعفة هذا التواجد للتعامل مع التهديدات الإيرانية في المنطقة، بما يتناسب مع احتمالات التصعيد من جانب إيران وتوابعها الإقليميين.
احتمالات التصعيد
على صعيد الأبعاد السياسية للتحرك الأمريكي الحالي، يبدو لدى مراقبين أن هناك متغيرًا في استراتيجية الإدارة الأمريكية، والسؤال الذي يُطرح في هذا الصدد هو: إذا كان الرئيس الأمريكي يرى فاعلية تشديد العقوبات الاقتصادية كورقة ضغط على النظام الإيراني قد تدفعه إلى التراجع عن موقفه والقبول بالإذعان أمام الولايات المتحدة، فلماذا يلوح بالقوة العسكرية؟ وفي سياق الإجابة عن هذا التساؤل طُرحت رؤيتان:
الرؤية الأولى: ترى أن الاحتواء لا يزال ممكنًا. وتستند هذه الرؤية إلى رصيد التجارب الكثيرة التي عددها الخبير الإيراني “حسين موسيان” في تقرير له بعنوان: هل يمكننا إيقاف الانزلاق البطيء إلى الحرب الأمريكية الإيرانية؟ والذي نُشر الأسبوع الجاري على موقع the national interest، أشار فيه إلى أن كلا الطرفين تعاونا في الحرب في أفغانستان والعراق في إطار الحرب على الإرهاب، وأنه حتى وقت قريب كان العراق يؤكد لواشنطن أنه لا يمكن الاستغناء عن إيران في الحرب على “داعش”. وفي الوقت ذاته، فإن الرئيس “ترامب” الذي يتبنى استراتيجية عدم الانخراط في حروب خارجية مكلفة لا يريد تكرار الأزمات التي خلقتها الحروب في أفغانستان والعراق، والتي أنفقت عليها بلاده المليارات من دون جدوى. وظل المبدأ الاستراتيجي لدى الطرفين هو حالة “اللا حرب واللا سلم”، وبالتالي هل يطرأ تغير على هذا المبدأ؟ ويخلص “موسيان” إلى أن الإيرانيين رغم التحديات الداخلية سيتجهون إلى الاصطفاف مع النظام لمقاومة كل سياسة اقتصادية أو عسكرية أو دبلوماسية تهدف إلى إجبار إيران على الإذعان للموقف الأمريكي. ودعا “موسيان” صانعي السياسة الدوليين والمسئولين الدوليين والإقليميين إلى أن يجتمعوا لرسم مسار دبلوماسي يشجع على إجراء حوار واسع النطاق والمشاركة مع إيران لتجنب حرب محتملة.
الرؤية الثانية: وتتبنى صعوبة اعتماد سياسية الاحتواء كخيار جربته الولايات المتحدة ولم يحقق نتائج ملموسة، بل على العكس تمددت إيران في الإقليم لدرجة أصبحت تشكل تهديدًا جديًّا للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين.
ويرى أصحاب هذه الرؤية في حديث الفريق الأمريكي “شيئًا ما” يشير إلى أن إيران تصعد تكتيكيًّا في الخليج ضد مصالح وحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ما يستدعي الجاهزية للخيار العسكري. وهو ما أشار إليه بوضوح تقرير “نيويورك تايمز”. ويقود هذا التوجه “جون بولتون” (مستشار الأمن القومي الأمريكي) لا سيما على الأقل تجاه ما تمثله إيران من خطورة على إسرائيل، وهو ما تتبناه العديد من التقديرات الغربية، ومنها تقرير لـ”إكسوس” الذي وصف بيان “بولتون” بالعدائي تجاه إيران.
وفي الواقع، فإن الرؤيتين تتقاطعان في انعدام الحوار وغياب الثقة والخلاف حول التوجهات الخاصة بترتيبات الأوضاع الخاصة بأمن الإقليم، والتي ازدادت تعقيدًا في ظل التمدد الإيراني في الإقليم، ولم تعد مقتصرة على الملفين النووي والصاروخي.
خيارات إيران
ربما يظل من الصعوبة قياس الخيارات الإيرانية في التعامل مع الموقف الأمريكي الجديد في ظل المباراة بين الفريق الدبلوماسي الذي يقوده وزير الخارجية “محمد جواد ظريف” الذي يرى أن الحرب مكلفة، ويمكن تفاديها، وهو ما كان محور حديثه مؤخرًا في منتدى آسيا في جامعة نيويورك، مقابل الفريق العسكري الذي يرى أن المشروع الإيراني في الإقليم اعتمد على مصادر القوة وليس الدبلوماسية. كذلك، من المتصور أن تمدد البرنامج الصاروخي الإيراني بقدر تمدد إيران الإقليمي، ربما يمثل خطرًا يفوق خطر السلاح النووي، لا سيما وأن إيران لم تعد مترددة في كثافة استخدام الصواريخ في اليمن وسوريا، إضافة إلى استمرارية التطوير، فضلًا عن الاستمرار في رفع إيران لقدرات حلفائها الإقليميين. فخلال الأسبوعين الأخيرين، جربت الميليشيات الحوثية صاروخًا جديدًا “بدر B”، كما كشفت حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة في أعقاب المواجهة الأخيرة مع إسرائيل عن صاروخ يتقارب مع الاسم ذاته وهو “بدر 3”. إضافة الى التقارير العديدة حول ترسانات الصواريخ التي يمتكلها كل من “حزب الله” والميليشيات الشيعية العراقية.
خلاصة القول، إن هناك نُذُر صيف ساخن بين إيران والولايات المتحدة، قد لا تشهد حربًا، لكن من المؤكد أنها ستأخذ مسارًا مختلفًا. وبغض النظر عن الاستغراق في تلك الاحتمالات فإن هناك حاجة إلى زيادة أمن الحلفاء، ليس في مواجهة إيران فقط، وإنما توابعها الإقليميين كخطر متصاعد في الإقليم. إضافة إلى ذلك، هناك حاجة إلى قراءة استراتيجية سريعة لموازين القوى الجديدة في الإقليم، وعدم الاستعجال في الاندفاع إلى حرب قد تكون الأكثر تكلفة في تاريخ المنطقة الحديث.