في مظهر يعكس محورية الخليج في سياسته الخارجية عمومًا وإزاء الشرق الأوسط خصوصًا وتكرارًا لسيناريو رئاسته الأولى، أتم الرئيس الأمريكي جولته الخارجية الافتتاحية الأولى لرئاسته الثانية إلى الشرق الأوسط -سبقتها زيارة إلى روما لحضور جنازة البابا فرانسيس لكنها لم تكن مُخططة مسبقًا- بزيارة ثلاث دول خليجية؛ هي السعودية والإمارات وقطر تضمنت المشاركة بأعمال قمة مجلس التعاون الخليجي بالرياض، وبينما المشهد الإقليمي تغير بشكل جوهري منذ أن حل ضيفًا على المنطقة للمرة الأولى عام 2017، فيبدو أن نظرة ترامب للأهمية الاقتصادية والجيوسياسية لمنطقة الخليج ظلت ثابتة عبر ولايتيه. وفي هذا الإطار، تستعرض الورقة الخطوات التمهيدية التي اتخذتها الولايات المتحدة ودول الخليج قبيل بدء الجولة، كما تسعى إلى تحليل مخرجاتها بما يعكس أولويات أطرافها.
خطوات تمهيدية
استبق الجانبان الأمريكي والخليجي الزيارة بخطوات تمهيدية توحي باتجاه لإحاطتها بأجواء إيجابية تحمل رسائل طمأنة وتقارب ومراعاة للمصالح المتبادلة، وهو ما يُمكن توضحيه كالتالي:
• قرار “أوبك+” برفع إنتاج النفط: يربط ترامب بين ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة وارتفاع أسعار النفط عالميًا، وقد سبق له التعهد بمطالبة السعودية ومنظمة أوبك بخفض تكلفة النفط، ويبدو أن “أوبك+” أرادت استباق الزيارة بإعلانها يوم 3 مايو الجاري زيادة إنتاجها في يونيو المقبل بمقدار 411 ألف برميل يوميًا عقب زيادة مماثلة في مايو الجاري؛ مما أدى لانخفاض أسعار النفط إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من أربع سنوات عند دولار للبرميل. ويُظهر هذا القرار اتجاهًا معاكسًا لتمسك دول المجموعة بسياسة خفض الإنتاج متجاهلة مطالب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن؛ مما أبقى أسعار الطاقة مرتفعة وزاد عائدات النفط الروسية بينما كانت الولايات المتحدة تفرض عقوبات على موسكو بسبب غزو أوكرانيا، ورغم الضغوط التي يرتبها القرار على الخطط الاقتصادية الطموحة خصوصًا بالنسبة للسعودية، فإنه يكسب ترامب شعبية وثقة محلية ويُظهر قدرته على الوفاء بتعهداته الانتخابية.
• استئناف المفاوضات النووية الإيرانية الأمريكية: استبق ترامب جولته الخليجية بعقد الجولة الرابعة للمفاوضات النووية غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران بهدف طمأنة الحلفاء الخليجيين حيال التزام واشنطن بالمسار الدبلوماسي كخيار رئيسي لمعالجة الملف الإيراني، وإن كانوا يتطلعون لإضعاف إيران وإنهاء برنامجها النووي وتحييد تهديدها ووكلائها، غير أنهم يعتقدون أن إضعاف طهران عملية بطيئة وممتدة، ركيزتها الأساسية الإنهاك الداخلي للنظام الإيراني وليس بالتدخل العسكري المباشر. وعليه، تُظهر العواصم الخليجية تحفظًا واضحًا تجاه أي تحرك عسكري، كتلك العمليات التي قد تُقدم عليها إسرائيل بشكل منفرد، كونه سيجر المنطقة نحو حرب إقليمية من شأنها زعزعة استقرارهم الاقتصادي وأمنهم القومي. لذا عملت هذه الدول، لا سيما السعودية والإمارات، على إقناع إدارة ترامب بضرورة استخدام النفوذ الأمريكي لاحتواء الاندفاع الإسرائيلي وتغليب الحلول الدبلوماسية.
ويبدو أن تقييم ترامب للموقف الإقليمي في ضوء مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية والاقتصادية، وبما يتماشى مع عقيدة “أمريكا أولًا”، جعله يُفضل الخيار الدبلوماسي رغم تأكيده المتكرر على إبقاء جميع الخيارات مفتوحة. غير أن تعثر المحادثات النووية يعيد احتمال التصعيد العسكري إلى الواجهة، وهو ما يدفع الشركاء الخليجيين إلى المطالبة بتأكيدات وضمانات أمريكية واضحة، تتضمن التزامًا بالدفاع المشترك، وتقديم الدعم العسكري اللازم، بما في ذلك صفقات التسليح. ويبدو واضحًا الاستدارة الكاملة في الموقف الخليجي، وبالأخص السعودي، بشأن المقاربة الأمريكية تجاه إيران مقارنة بدعمها تبني نهج ضاغط وتصادمي مع إيران خلال إدارة ترامب الأولى، غير أن استهداف وكلاء إيران لمنشآت نفطية ومدنية سعودية وإماراتية خلال 2019 دون رد أمريكي عسكري خلق إدراكًا لدى قيادتيهما بأن بلديهما ستكونان الهدف الأول لإيران ووكلائها خلال أي حرب إقليمية وإنهما سيقفان وحيدان بغير إسناد عسكري أمريكي.
• توقيع اتفاق هدنة مع الحوثيين: رغم وقوف حسابات داخلية تتعلق بالتكاليف السياسية والمادية الباهظة بما في ذلك اهتزاز الهيبة الأمريكية على خلفية الفشل في إنهاء أو إضعاف قدرات الحوثيين نتيجة غياب بنك أهداف مُحدد، واستنزاف مخزون القدرات العسكرية الأمريكية المُخصصة لمواجهة الصين إذا ما قررت غزو تايوان، وراء قرار ترامب بالتوصل إلى تفاهم سري مع جماعة الحوثي بوساطة عُمانية لوقف إطلاق النار مقابل امتناع الحوثيين عن استهداف السفن الأمريكية في باب المندب والبحر الأحمر، فإن عوامل إقليمية حفزت هذا التحرك الأمريكي تتلامس أيضًا مع جولته الخليجية؛ إذ أراد إظهار قدر من الاستقلالية عن الحسابات الإسرائيلية التي تفضل الحلول العسكرية لخدمة أهداف مصلحية شخصية، ومن ثَمّ إشعار الحلفاء الخليجيين بالتفهم الأمريكي لمخاوفهم الأمنية ومراعاتها. ويبدو أن ضغوطًا سعودية مورست على ترامب لإنهاء الحملة العسكرية ضد اليمن قبل الزيارة، إذ أفادت صحيفة “ميدل إيست آي” البريطانية يوم 6 مايو الجاري، نقلًا عن مسئولين أمريكيين لم تسميهما، بأن الرياض تمارس ضغوطًا على واشنطن لوقف جميع الهجمات الأمريكية على اليمن قبل زيارة الرئيس ترامب للمملكة، محذرة من أن ذلك سيخلق موقفا محرجًا للرياض والولايات المتحدة، وقال المسئولان: إن المملكة قاومت الحملة الجوية الأمريكية على اليمن منذ بدأتها إدارة بايدن عام 2024، لكن إصرارها على وقف الهجمات تزايد مؤخرًا حيث أصبحت أكثر قلقًا بشأن نطاق الضربات.
• عزل مستشار الأمن القومي الأمريكي: اتصالًا بالنقطتين السابقتين، يحمل قرار ترامب بإقالة مستشار الأمن القومي مايكل والتز، في 1 مايو الجاري، أي قبل أقل من أسبوعين من جولته الخليجية، دلالات رمزية تعكس ملامح المقاربة الأمريكية تجاه قضايا الشرق الأوسط، لا سيَّما أن والتز كان يُنسق عن كثب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن خطط العمل العسكري ضد إيران وتبني موقف متشدد إزاء الحوثيين. ورغم أن السلوك السياسي للرئيس ترامب الذي يتسم بعدم التوقع والتقلب السريع يُصعّب من قراءة وتفسير هذا القرار؛ بمعنى هل يُمثل توجهًا سياسيًا للإدارة الأمريكية بتجنب الحرب في الشرق الأوسط؟ أم يُعد امتدادًا للنمط الشخصي المتقلب الذي يميز أداء ترامب؟ أم ينطوي على صراع داخل مؤسسات صنع القرار الأمريكي؟ غير أنه لا يُمكن قراءة القرار بعيدًا عن السياق الإقليمي الأوسع؛ إذ يبدو أن إدارة ترامب تميل إلى تخفيض الاعتماد على الخيار العسكري، مع الإبقاء على دعمها الاستراتيجي لإسرائيل، والسعي في الوقت نفسه لتجنب الانخراط في صراعات إقليمية واسعة قد تهدد مصالحها، كما يُظهر القرار اتجاهًا متزايدًا نحو تعزيز الشراكات الاقتصادية مع الخليج، وتقديم المصالح الاقتصادية على السياسات العسكرية التقليدية.
• إلغاء قاعدة انتشار الذكاء الاصطناعي: أعلنت إدارة ترامب عن خطة لإلغاء قاعدة انتشار الذكاء الاصطناعي التي وُضعت في عهد بايدن، والتي فرضت ضوابط تصدير صارمة على رقائق أشباه الموصلات المتقدمة ذات الأهمية البالغة لتطوير الذكاء الاصطناعي، حتى للدول الصديقة للولايات المتحدة. وتتيح هذه الخطوة لدول الخليج وبالأخص الإمارات والسعودية إمكانية الوصول لرقائق أشباه الموصلات من شركة إنفيديا الأمريكية وغيرها؛ حيث سبق وأبديا انزعاجًا من تلك القيود، واضطرت بعض شركاتهما مثل شركة الذكاء الاصطناعي الإماراتية G42 إلى بذل جهود توافقية مع اللوائح الأمريكية، بما في ذلك سحب الاستثمارات من الشركات الصينية والشراكة مع مايكروسوفت التي استثمرت 1.5 مليار دولار في G42 خلال 2024. ويوحي التخطيط لتخفيف تلك القيود بالتزامن مع زيارة ترامب الخليجية بانفتاح أمريكي على شراء السعودية والإمارات أشباه الموصلات لبناء البنية التحتية للذكاء الاصطناعي ربما مقابل استثمارات كبيرة في شركات التكنولوجيا الأمريكية والابتعاد عن الموردين الصينيين، بما يتسق مع هدف الدولتين الخليجيتين تحويل نفسيهما إلى مركز إقليمي للذكاء الاصطناعي ضمن خططهما لتنويع اقتصادهما بعيدًا عن موارد الهيدروكربونات.
مجريات ذات دلالة
لم تحمل جولة ترامب الخليجية أي مفاجئات ولم تخرج عن الخط الرئيسي لسياسة ترامب في الشرق الأوسط، غير أن مجرياتها عكست أولويات الإدارة الأمريكية كما أظهرت نجاح أدوار بعض الأطراف الإقليمية في سبيل تحقيق اختراق على صعيد بعض ملفات المنطقة، وفيما يلي قراءة في مخرجات الزيارة:
• الانفتاح على الإدارة السورية الجديدة: أمَّنت السعودية خرقًا مهمًا على صعيد العلاقات السورية الأمريكية، بإعلان ترامب من أراضيها إلغاء كافة العقوبات المفروضة على سوريا، وقيامها بتهيئة الأرضية للقاء مباشر بين ترامب والرئيس الانتقالي أحمد الشرع بالرياض، حرص الأخير على إتمامه مقدمًا في سبيله تنازلات جيوسياسية واقتصادية ضخمة تتعلق بمنح الولايات المتحدة إمكانية الوصول للنفط والغاز السوري، والسماح ببناء برج ترامب في دمشق، والسماح لإسرائيل بالحافظ على وجود أمني بالقرب من مرتفعات الجولان، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح جنوب سوريا. ومن ناحية، يمنح هذا الاختراق نقطة لصالح الدبلوماسية السعودية والتركية لنجاحهما في تعويم نظام الشرع دوليًا، ويكلل محاولات عديدة لإقناع الإدارة الأمريكية بتغيير موقفها نحو مزيد من التفاعل مع القيادة السورية الجديدة وإعطائها الفرصة من خلال تخفيف/رفع العقوبات الأمريكية لإفساح المجال أمام تدفق الاستثمارات والمساعدات المالية الأجنبية وإطلاق عملية إعادة الإعمار، كما يُمهّد هذا النجاح المشترك الطريق لتعاون إقليمي أعمق بين الرياض وأنقرة.
ومن ناحية ثالثة، يتوج لقاء ترامب-الشرع سلسلة من التحركات الخارجية للأخير تضمنت دولًا عربية وأوروبية بهدف كسر عزلته الخارجية وإعادة سوريا إلى الساحة الدولية، إذ يُمكن النظر إليه باعتباره اعترافًا ضمنيًا من قبل واشنطن بشرعية القيادة السورية الجديدة، ومن ثَمّ ربما يُمثل خطوة أولى نحو الاعتراف بالسلطات السورية المؤقتة كحكومة شرعية لسوريا، كما يُمهد إنهاء العقوبات الطريق لتدفق الاستثمارات من قبل حلفاء سوريا الإقليمين وبالأخص تركيا والسعودية وقطر؛ الأمر الذي يُجنب دمشق الاعتماد على الصين وروسيا، ويدعم إعادة اندماج دمشق ببطء في النظام المالي العالمي من خلال السماح للبنوك باستئناف المعاملات الدولية، والاستفادة من تعهد الرياض بسداد ديون البند الدولي السورية، ويفتح الباب أمام الشركات التركية لإقامة مشروعات اقتصادية وتحويل سوريا إلى نقطة إقليمية للتبادل التجاري بين أوروبا والخليج عبر تركيا؛ حيث كانت الكيانات التركية قلقة من التعرض للعقوبات الأمريكية.
ويُعد الانفتاح الأمريكي على القيادة السورية الجديدة جزءًا من مسار أشمل لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وذلك انطلاقًا من مجموعة من الاعتبارات الاستراتيجية؛ أولها: سعي الولايات المتحدة إلى تشجيع النظام السوري على الانخراط في ترتيبات أمنية مع إسرائيل، قد تشمل إنشاء مناطق منزوعة السلاح في الجنوب السوري، أو تطوير آليات تعاون أمني مباشر، بالإضافة إلى تقديم ضمانات بعدم استخدام الأراضي السورية كنقطة انطلاق لأي تهديد أمني ضد إسرائيل. ثانيها: إعادة تقسيم مناطق النفوذ ورسم خطوط تماس جديدة بين القوى الفاعلة في سوريا بحيث تحتفظ إسرائيل بوجود عسكري طويل الأمد في الجنوب، بينما تعمل تركيا على تعزيز حضورها الأمني والعسكري في الشمال والوسط، بموجب تفاهمات أمنية قد تتم برعاية أمريكية، ويأتي ذلك في إطار توجه إدارة ترامب نحو تقليص الوجود العسكري الأمريكي المباشر، مع إفساح المجال لحلفائها الإقليميين للعب أدوار أكبر، وهو ما يُفسر مشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في لقاء ترامب -الشرع عبر الفيديو. ثالثها: تمكين الولايات المتحدة من الوصول إلى قطاعات اقتصادية استراتيجية داخل سوريا، وعلى رأسها قطاع الطاقة، بما يتيح لها تعزيز نفوذها في مناطق كانت تقليديًا تحت هيمنة روسية أو إيرانية. رابعها: تمهيد الطريق نحو إعادة إدماج سوريا تدريجيًا في محيطها العربي والإقليمي، ضمن إطار يراعي التوازنات الجديدة والمصالح الأمريكية في المنطقة.
ومع ذلك، من غير الدقيق اعتبار لقاء ترامب – الشرع مؤشرًا على تطبيع كامل للعلاقات بين الولايات المتحدة والنظام السوري؛ إذ لا تزال واشنطن في طور تقييم مدى جدية الحكومة السورية وقدرتها على الاستجابة لمطالبها الأمنية، والتي تشمل بشكل خاص الامتناع عن تهديد المصالح الإسرائيلية، والانخراط في مسار تطبيع تدريجي قد يفضي مستقبلًا إلى الانضمام إلى “الاتفاقيات الإبراهيمية”. علاوة على طرد المقاتلين الأجانب من الحكومة السورية وأجهزتها الأمنية وإخراجهم خارج الأراضي السورية؛ نظرًا لما يمثلونه من تهديد مباشر لأمن حلفائها الإقليميين وبالأخص إسرائيل. بالإضافة إلى ضرورة إنهاء وجود الفصائل الفلسطينية المسلحة، لا سيّما حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ومنع استخدام الأراضي السورية كملاذ آمن لهما. إلى جانب تحمّل الحكومة السورية مسئولية إدارة مراكز احتجاز عناصر تنظيم داعش في شمال وشرق البلاد، وتدمير جميع الأسلحة الكيميائية، ودعم الجهود الأمريكية في محاربة داعش.
ومع أن الحكومة السورية أبدت استعدادًا للانفتاح على إسرائيل وفتحت قنوات اتصال عبر الوسطاء لإجراء تفاهمات أمنية واستخباراتية بدعم من تركيا وبعض الأطراف الخليجية –والتي لولاها لما وافق ترامب على لقاء الشرع ورفع العقوبات– غير أن الحكومة لن تستطيع حاليًا الوفاء الكامل بمطالب ترامب، ففي ظل المعطيات الحالية والانتشار الواسع للسلاح بيد الفصائل المسلحة سيكون من الصعب إبعادهم عن الأجهزة الأمنية أو إخراجهم من البلاد دون اقتتال داخلي، كما لا يزال تنظيم داعش يحافظ على مرتكزاته الجغرافية ونشاطه العملياتي في سوريا ومن المبكر الحكم على قدرة الإدارة السورية الجديدة على احتواء وتطويق خطر التنظيم لا سيَّما أنه عمد خلال الخمسة أشهر الفائتة إلى شن حرب دعائية وميدانية شرسة ضد حكومة الشرع، ناهيك عن أن الحكومة السورية تُعاني من غياب رؤية استراتيجية شاملة في مجال مكافحة الإرهاب، فضلًا عن ضعف القدرات المؤسسية والأمنية اللازمة للتصدي الفعّال لهذا التهديد، وهو ما يضع علامات استفهام حول مدى أهليتها لأن تلعب دورًا موثوقًا به كشريك استراتيجي للولايات المتحدة أو المجتمع الدولي في إطار الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب.
علاوة على أن خطوة رفع العقوبات الأمريكية ليست كافية وحدها لتدفق الاستثمارات الأجنبية المطلوبة لدفع عملية التعافي الاقتصادي؛ نظرًا لعدة اعتبارات؛ أولها: استمرار الاضطرابات السياسية والعنف الطائفي والفوضى الأمنية وغياب إطار قانوني شفاف وجميعها عوامل ضرورية لعودة تدفق رءوس الأموال لا تعتمد فقط على رفع القيود الاقتصادية. ثانيها: مواجهة الاقتصاد السوري تحديات هيكلية تتجاوز مسألة العقوبات، من بينها التدهور الحاد في المؤشرات الاقتصادية الكلية، والدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية الحيوية نتيجة الحرب الممتدة. ثالثها: الطباع البطيئة للتعافي بالنسبة للاستثمارات طويلة الأجل، كما هو الحال في قطاع النفط والغاز، لا سيَّما وسط مخاوف مستمرة بشأن التهديدات الأمنية مثل الإرهاب والعودة محتملة للعقوبات إذا لم يفِ الشرع بوعوده لترامب.
رابعها: عدم تناسب حجم التمويل الخارجي المخصص لجهود إعادة الإعمار وتقديم المساعدات الاقتصادية والإنسانية الذي سيظل مع حجم احتياجات البلاد. خامسها: استمرار سريان بعض العقوبات الأوروبية المفروضة على شخصيات مرتبطة بنظام الأسد، وعلى قطاعات الأسلحة الكيميائية وتجارة المخدرات غير المشروعة وتجارة الأسلحة والسلع ذات الاستخدام المزدوج. سادسها: عدم إعطاء ترامب أي إشارة إلى اعتزام واشنطن رفع تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب –صنفتها هكذا الولايات المتحدة عام 1979 بسبب دعمها للفصائل الفلسطينية– وسيظل هذا التصنيف يشكل عائقًا رئيسيًا أمام الاستثمارات الأجنبية.
• إقرار خرائط النفوذ الجيوسياسي الجديدة: تحمل المخرجات السياسية لجولة ترامب الخليجية ما يُمكن اعتباره تصديقًا أمريكيًا على خرائط النفوذ الجيوسياسي الجديدة في الشرق الأوسط من حيث الإقرار بتولي تركيا الدور الأكبر في إدارة المشهد السوري بالنيابة عن الولايات المتحدة، ففي معرض لقائه مع الشرع أفاد ترامب بأنه سوف يرسل وزير خارجيته مارك روبيو إلى تركيا الأسبوع القادم للقاء نظيره السوري أسعد الشيباني لمناقشة المطالب الأمريكي والخطوات القادمة لتوسيع الانفتاح على الحكومة السورية الجديدة. علاوة على تثبيت خرائط توسع إسرائيل شمالًا إلى ما وراء مرتفعات الجولان وشرعنتها من خلال ضم سوريا لمشروع الاتفاقيات الإبراهيمية على أساس الوضع الميداني الراهن، إذ من غير المتوقع انسحاب إسرائيل من مناطق تمددها الحالية في ظل انعدام قدرات الردع السورية.
• تصدر الصفقات الاقتصادية والدفاعية: جاء البُعد الاقتصادي على قمة أولويات جولة ترامب الخليجية، وربما كان المبرر الأساسي لاختيار منطقة الخليج كوجهة خارجية أولى لترامب، إذ تتطلع واشنطن إلى فتح أسواق جديدة لمنتجاتها الصناعية والتكنولوجية خاصة مع تصاعد المنافسة العالمية في مجالات الطاقة والتقنيات المتقدمة، في الوقت الذي تتطلع فيه الدول الخليجية إلى استقطاب المزيد من الاستثمارات الأمريكية. وقد استطاع ترامب تأمين حزمة ضخمة من الاستثمارات والصفقات على مدار أربعة أيام بدأت بإعلان السعودية حزمة استثمارية بقيمة 300 مليار دولار في الولايات المتحدة تشمل قطاعات عدة منها التعدين والطاقة والتكنولوجيا، واتفاقية أسلحة قياسية بقيمة 142 مليار دولار -الأكبر على الإطلاق بين البلدين- تتضمن تزويد الرياض بمعدات عسكرية متطورة من أكثر من 12 شركة دفاعية أمريكية في قطاعات القوات الجوية والفضائية والدفاع الصاروخي والأمن البحري والحدودي وتحديث القوات البرية وتطوير أنظمة الاتصالات. وعلى الصعيد القطري، تم توقيع صفقات بقيمة 1.2 تريليون دولار، ومن أبرزها صفقة كبرى ستشتري بموجبها الخطوط الجوية القطرية 210 طائرات من شركة بوينج الأمريكية بقيمة 96 مليار دولار، إلى جانب استثمارات كبيرة في تكنولوجيا الطائرات بدون طيار. أما في الإمارات فقد تم توقيع صفقات بقيمة 200 مليار دولار تشمل استثمارات في قطاعات المعادن والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقة النووية والتقليدية والطيران.
وتسلط الصفقات الأمريكية مع السعودية والإمارات الضوء على طموح البلدين في التحول إلى مركز إقليمي للذكاء الاصطناعي؛ إذ تضمنت إحدى الصفقات مع الرياض التزاما من جانب شركة الذكاء الاصطناعي المملوكة للدولة في Humain، ببناء البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في المملكة باستخدام مئات الآلاف من شرائح شركة إنفيديا الأمريكية الأكثر تقدمًا على مدى السنوات الخمس المقبلة، كما تستثمر شركة AMD، أحد أبرز منافسي إنفيديا، ما يصل إلى 10 مليارات دولار مع Humain لنشر بنيتها التحتية الخاصة في البلاد، كذلك تعهدت أمازون بتخصيص 5 مليارات دولار لتغطية البنية التحتية لمراكز البيانات. وفي الإمارات، تسمح اتفاقية أولية باستيراد 500 ألف من أحدث شرائح الذكاء الاصطناعي من شركة إنفيديا سنويًا بدءًا من هذا العام.
• إرجاء انضمام السعودية للاتفاقيات الإبراهيمية: لم تكن جهود ضم السعودية للاتفاقيات الإبراهيمية التي بدأها بايدن وتعثرت على خلفية اندلاع حرب غزة 2023، بندًا رئيسيًا على جدول أعمال المحادثات الأمريكية السعودية بالرياض، حيث أبدى ترامب مرونة إزاء تحديد المملكة التوقيت الذي تراه مناسبًا للانضمام، وتفضل الرياض إرجاء تلك الخطوة لحين التوصل إلى تسوية مُرضية لحرب غزة نظرًا للتكاليف السياسية الباهظة التي سوف تتكبدها حال أبرمت اتفاقية تطبيع مع إسرائيل في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة من حيث اهتزاز مكانتها الرمزية كقائدة للعالم الإسلامي، وإثارة ردود فعل جماهيرية معارضة. وإعمالًا بعقيدة “أمريكا أولًا” فإن حصول ترامب على صفقات اقتصادية ضخمة في ظل تعهدات سعودية وإماراتية بضخ استثمارات كبيرة في الاقتصاد الأمريكي كان على ما يبدو كافيًا لتقديم تنازلات مُعينة للمملكة بشأن إرجاء التطبيع.
علاوة على ذلك، تراجعت المكاسب الجيوسياسية المُحفزة لتوقيع اتفاقيات إبراهام عام 2020 على خلفية اختلاف البيئة الإقليمية حيث أدى تطبيع العلاقات بين إيران والدول الخليجية، عقب الاتفاق السعودي الإيراني الذي توسطت فيه الصين عام 2023 وما تلاه من انفراج، إلى تقليص ضرورة التحوط الجيوسياسي ضد إيران وتبرير المظلة الأمنية التي تقوم عليها اتفاقيات إبراهام، والأكثر من ذلك أن الضربات الإسرائيلية التي أضعفت الأذرع الإيرانية في لبنان وسوريا دفعت طهران إلى تبني موقف أكثر تعاونًا مع جيرانها العرب، كما إن نجاح المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران إلى تقويض أحد الدوافع الرئيسية وراء اتفاقيات إبراهام، كذلك الحال إذا ما فشلت المفوضات؛ حيث قد تكون الدول الخليجية أكثر ميلًا إلى السعي إلى خفض التصعيد والتكامل الاقتصادي مع إيران، مع تكثيف برامجها العسكرية، خاصة إذا كانت الولايات المتحدة غير مستعدة لتزويدها بضمانات أمنية قوية.
ومع ذلك، لا يزال التطبيع على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية والسعودية، حيث تأمل المملكة أن يُمكنها من تحسين الوصول إلى التكنولوجيا الإسرائيلية واجتذاب فرص استثمارية في قطاعات التكنولوجيا والزراعة والمياه والطاقة حيث تمتلك إسرائيل تقدمًا كبيرًا في هذه المجالات. علاوة على أن الولايات المتحدة تسعى لاستكمال حلقات التطبيع العربي الإسرائيلي لتعزيز الاندماج الأمني والتقني والاقتصادي لإسرائيل في الشرق الأوسط.
• غياب المبادرات بشأن بحرب غزة: لم تتضمن جولة ترامب إطلاق أي مبادرات تتعلق بوقف إطلاق النار في قطاع غزة أو بلورة آليات فاعلة لإدخال المساعدات، كما خلت تصريحات ترامب والقادة الخليجيين من أي إشارة إلى الخطة المصرية لإعادة الإعمار التي كانت قد حظيت بإجماع عربي خلال القمة الطارئة المنعقدة في القاهرة في مارس الماضي، مما يُثير مخاوف بشأن استمرار الجمود السياسي المرتبط بتنفيذها، في ظل عدم وجود مؤشرات على تخصيص تمويل فعلي أو تحديد جدول زمني لتطبيقها، ويُشير موقف ترامب إلى استمرار وجود تحفظات أمريكية حيال بعض بنودها، لا سيّما المرتبطة بمستقبل حركة حماس ودورها في إدارة شئون الحكم والأمن في غزة خلال اليوم التالي. ولم تتطرق تصريحات قادة المملكة إلى التحضيرات الجارية لعقد مؤتمر “تسوية القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين”، المقرر عقده في نيويورك خلال الفترة من 17 إلى 20 يونيو المقبل، برئاسة مشتركة بين المملكة وفرنسا؛ الأمر الذي يُضعف من أثره المحتمل في مسار الحل السياسي للقضية الفلسطينية.
وفي السياق ذاته، اقتصرت زاوية تناول ترامب للقضية الفلسطينية على المأساة الإنسانية التي يتعرض لها سكان القطاع، مع إشارات ضمنية تُحمّل حماس المسئولية الكاملة عن تدهور أوضاع القطاع، وهي معالجة جزئية ومنقوصة وتتجاهل جوهر المشكلة المتعلق بغياب وجود حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، والأكثر أن محادثات المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط ستيف وتكوف في الدوحة التي تزامنت مع زيارة ترامب لم تتضمن ضغوطًا حقيقية على إسرائيل أو إلزامها بالانسحاب من غزة؛ مما يعني أن مسألة الانسحاب ليست مطروحة حاليًا على الأجندة الأمريكية، بل إن بعض التصريحات الصحفية يُفهم منها أن مخطط تهجير الفلسطينيين لا يزال قائمًا بالنسبة لترامب؛ حيث قال: إن قطاع غزة يجب أن يتحول إلى “منطقة الحرية”.
وفي كل الأحوال، يُشير غياب إسرائيل عن جدول جولة ترامب الخليجية، بالتوازي مع نجاح المحادثات الأمريكية المباشرة مع حركة حماس بوساطة قطرية في إطلاق صراح الرهينة الأمريكي الإسرائيلي عيدان ألكسندر وإجبار إسرائيل على وقف الطيران الحربي والمُسير لعدة ساعات لتأمين إطلاق صراحه قبل ساعات من وصوله المنطقة، إلى تفضيل ترامب للمصالح الأمريكية حتى على حساب حلفيها الرئيسي في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لا تنطوي السياسة المذكورة عن خلافات استراتيجية عميقة بين البلدين، وإنما يؤشر إلى إعطاء الأولوية للمصالح الأمريكية على الحسابات الشخصية الضيقة لنتنياهو، واستعداد أكبر لمتابعة أجندته الإقليمية مع مراعاة أقل للمخاوف الإسرائيلية.
ختامًا، هيمن البعدان الاقتصادي والدفاعي على جدول أعمال جولة ترامب الخليجية، في حين تراجعت قضايا إقليمية رئيسية، مثل المفاوضات النووية مع إيران، وأمن الملاحة في البحر الأحمر، وتصاعد هجمات الحوثيين، إضافة إلى ملف إنهاء الحرب في غزة. ومع ذلك، حملت الجولة في طياتها رسائل سياسية واضحة، من بينها تأكيد أهمية منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي في حسابات السياسة الخارجية الأمريكية، والسعي إلى طمأنة الشركاء الإقليميين بشأن مستقبل الوجود الأمريكي في المنطقة، مع التشديد على أن الأولوية في أجندة الإدارة لا تتركز على تلبية مصالح الحلفاء بقدر ما تُمنح للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. وقد وظّف ترامب هذه الزيارة أيضًا لإبراز مظاهر القوة الأمريكية، والتأكيد على قدرته على تحقيق مكاسب اقتصادية من خلال إعادة صياغة العلاقات مع الحلفاء.