تصاعدت التوترات بين الولايات المتحدة وإيران خلال الأسابيع الأخيرة بعدما أرسلت الأولى المزيد من قواتها العسكرية إلى الشرق الأوسط، ومنها حاملة الطائرات “أبراهام لينكولن”، وقاذفات بي – 52، وصواريخ باتريوت؛ لمواجهة التهديدات الإيرانية للقوات والمصالح الأمريكية في المنطقة.
وفي المقابل، صعّدت طهران من إظهار قوتها من خلال وكلائها في المنطقة، الذين استهدفوا ناقلات نفطية قرب إمارة الفجيرة، ومحطتين للنفط بالمملكة العربية السعودية، فيما تم اعتباره ردًّا إيرانيًّا على التصعيد الأمريكي.
بيد أن الطرفين أعلنا رفضهما للحرب، لكنهما يستندان إلى هذا التصعيد العسكري -وفقًا للعديد من التحليلات- لتعزيز وضعهما التفاوضي في حال التهدئة، والشروع في المفاوضات حول القضايا الخلافية التي تتخطى الطموح النووي الإيراني.
سياسة “رجل الأعمال”
ينتهج الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” سياسة “رجل الأعمال” التي تقوم في أغلبها على حسابات المكسب والخسارة، وفقًا لمبدأ “الصفقة”. وبشكل عام، تقوم تلك السياسة على توجيه التهديدات وتصعيد الخطاب ضد الخصوم، ثم فرض عقوبات اقتصادية صارمة، بطريقة تدفعهم إلى الجلوس على طاولة المفاوضات وفق الشروط الأمريكية.
وترجع هذه السياسة إلى اقتناع الرئيس “ترامب” بقدرته على الضغط على المنافسين والخصوم للحصول على تنازلات خلال اللقاءات الثنائية؛ إيمانًا منه بقدراته التفاوضية، التي تسمح له بإنجاز الصفقات.
وقد اتخذ الرئيس “ترامب” منذ وصوله للبيت الأبيض خطوات تصعيدية ضد إيران، جاء أبرزها في إعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي في مايو ٢٠١٨، وإعادة فرض العقوبات التي كان قد تم وقفها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة لعام ٢٠١٥، وإدراج الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية.
وفي إطار تصعيد الضغط على إيران، أنهت الإدارة الأمريكية وقف الإعفاءات الخاصة بشراء النفط الإيراني التي كانت ممنوحة لثماني دول. وأخيرًا نشرت قطعًا بحرية استراتيجية، بينها حاملة الطائرات الأمريكية “أبراهام لينكولن”، وقوة من القاذفات في الخليج العربي، لردع طهران عن استهداف مصالح الولايات المتحدة أو حلفائها بالمنطقة ردًّا على حملة التصعيد الأمريكي القاسية.
ومع حملة التصعيد الأمريكي، أعلن “ترامب” أثناء مؤتمر صحفي عقده مع رئيس الوزراء الياباني “شينزو آبي” أن بلاده لا تسعى إلى تغيير النظام في إيران. وأضاف أنه لا يُعارض الدخول في مفاوضات جديدة معها، مشيرًا إلى وجود رغبة لدى طهران في الحوار، لكن النظام الإيراني عبر عن عدم رغبته في التفاوض مع الولايات المتحدة التي جاء ردها صارمًا، حيث شددت على استمرار العقوبات، ووجود شروط مسبقة لأي مفاوضات، أعلنها وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” في مايو 2018.
وتتمثل أبرز الشروط الـ١٢ التي كان قد أعلنها “بومبيو” لرفع العقوبات والدخول في مفاوضات مع إيران، في: كشف طهران للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن التفاصيل العسكرية السابقة للبرنامج النووي والسماح لخبرائها بالوصول غير المشروط للمواقع النووية، وإنهاء نشر الصواريخ الباليستية والصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، بجانب إنهاء دعم الجماعات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى سحب جميع القوات الإيرانية من سوريا.
المراوحة بين “توزيع الأدوار” و”كسب الوقت”
تتبنى إيران في مواجهة الضغوط والعقوبات الأمريكية خطابًا يقوم أغلبه على الإعلان عن عدم جدوى تلك العقوبات، وأنها غير مؤثرة، ثم تتجه بعد ذلك إلى التصعيد اللفظي والتهديدات، وفي خطوة تالية تدعو إلى الحوار والتفاوض.
وارتباطًا بذلك، تجمع إيران بين سياسة “توزيع الأدوار” و”كسب الوقت”، وقد كان ذلك جليًّا منذ التفاوض بشأن الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥، حيث اعتمدت سياسة “توزيع الأدوار” من خلال تناقض المواقف بين المسئولين الإيرانيين، وذلك لتوسيع هامش الخيارات المتاحة أمام المفاوض الإيراني، وتمكينه من الضغط على الطرف الآخر، وكذلك تقليص قدرته على انتزاع تنازلات من طهران. كما اعتمدت أيضًا سياسة “كسب الوقت” من أجل الاستمرار في تطوير برنامجها النووي لتحسين وضعها التفاوضي، إضافة إلى إنهاك المفاوض الغربي للحصول على أكبر قدر من الامتيازات.
وفيما يتعلق بموقف طهران من التوترات الأخيرة، وخاصة قرار الرئيس “ترامب” الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي، فقد اعتمدت على سياسة “تبادل الأدوار”، حيث أجمعت القوى الإيرانية على التنديد بهذا القرار، لكن المواقف تباينت بين الإصلاحيين الذين يأملون في استمرار الاتفاق، والمحافظين الذين يدعون لرد أكثر تشددًا.
وفي المقابل، التزمت إيران بالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي، ودعت الأطراف الأخرى إلى حماية الاتفاق، كنوع من سياسة “كسب الوقت”، استنادًا إلى أن الاتفاق لم يُثن طهران عن التوسع في دورها الإقليمي ودعم وكلائها في المنطقة.
واتساقًا مع السياسة الإيرانية التي تقوم على “تبادل الأدوار” و”كسب الوقت”، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ردًّا على دعوة الرئيس “ترامب” للتفاوض، إن طهران لا ترى أي فرصة للتفاوض مع الولايات المتحدة. كما قال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية “علي خامنئي”، إن إيران لن تتفاوض مع واشنطن حول برامجها النووية والصاروخية، تعقيبًا على تلميح الرئيس “حسن روحاني” إلى إمكانية الدخول في محادثات مع الولايات المتحدة في حال رفع العقوبات المفروضة على دولته.
وتُعد صيغة “لا حرب ولا تفاوض” جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية “المقاومة الرشيدة” التي يعتمدها “خامنئي”. وارتباطًا بذلك أرسلت إيران وزير خارجيتها “محمد جواد ظريف” إلى العراق، حيث أعلن من هناك أن دولته مستعدة لتوقيع معاهدة “عدم اعتداء” مع دول الخليج العربي.
سيناريوهات متداخلة
استنادًا إلى السياسة المركّبة التي يتبناها كل طرف، يبدو أن عملية التهدئة والدخول في مفاوضات حقيقية لن تكون بالأمر اليسير، وإنما ستتخللها موجات من الشد والجذب، ليس فقط بين الطرفين الأصيلين (الولايات المتحدة وإيران)، ولكن أيضًا بدخول أطراف ووكلاء آخرين. ويمكن إجمال مستقبل المفاوضات في أربعة سيناريوهات رئيسية، هي:
السيناريو الأول- لا تفاوض ولا مواجهة: يقوم هذا السيناريو على فكرة أساسية مفادها أن كلا الطرفين يسعى بكل طاقته للتصعيد والظهور بمظهر الطرف الأقوى. ويتوقع أن تستمر حالة التصعيد اللفظي حفاظًا على ماء الوجه، وكذلك رفع الشروط التفاوضية. فقد يسعى الرئيس الأمريكي “ترامب” إلى استمرار التصعيد اللفظي حتى يستطيع الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة المقرر لها نوفمبر 2020، وتعزيز الإحساس بعدم الاستقرار في منطقة الخليج من أجل الحصول على المزيد من المكاسب والامتيازات المالية والدفاعية.
وفي المقابل، قد تسعى إيران إلى الاستمرار في التصعيد اللفظي للالتفاف حول أزماتها الداخلية الخانقة، وتوحيد الشعب خلف قيادته انطلاقًا من وجود مؤامرة خارجية. وكذلك للاستفادة من كسب الوقت لتوسيع نفوذها الإقليمي، لا سيما وأن وكلاءها قد حققوا انتصارات عديدة، وذلك في ظل التزام الأطراف الأخرى بالاتفاق النووي.
ويستند هذا السيناريو إلى رغبة الولايات المتحدة في استمرار الضغط لتحقيق أمرين؛ إما إسقاط النظام في إيران، وإما قبوله التفاوض وفق الشروط الأمريكية. في حين تسعى طهران إلى استمراره أملًا في وصول رئيس جديد في 2020 يعيد العمل بالاتفاق النووي.
السيناريو الثاني- مفاوضات كسب الوقت: ينطلق هذا السيناريو من أن حالة التصعيد وصلت إلى نقطة حرجة وضعت كلا الطرفين في موقف حرج، وأن تحول التصعيد إلى مواجهة عسكرية لن يكون في مصلحة أي طرف. ومن ثم، ستكون لديهما رغبة متبادلة لتجاوز الأزمة الحالية من خلال الجلوس على طاولة المفاوضات.
ويرتبط هذا السيناريو بمواقف الأطراف الأخرى التي تدفع نحو التهدئة، وإدراك إدارة “ترامب” أن التصعيد سيكون عالي التكلفة، ومدى إدراك إيران أن لدى “ترامب” فرصًا كبيرة للاستمرار في السلطة، ومن ثم فليس لديها بديل سوى التواصل مع إدارته، لكنها لن تقدم تنازلات حقيقية، ولن تلتزم بأي تعهدات، وقد يصبح الأمر مجرد تكرار للقمم الثنائية التي عُقدت بين الرئيس الأمريكي وزعيم كوريا الشمالية “كيم جونج أون”.
السيناريو الثالث- مفاوضات جزئية: ينطلق هذا السيناريو من إدراك الطرفين لخطورة التصعيد، ويستند كذلك إلى دور الأطراف الأخرى في الدفع نحو التهدئة. ويقوم على فكرة التمسك الإيراني بالاتفاق النووي، الأمر الذي قد يُقنع الولايات المتحدة بإعادة العمل به في مقابل الدخول في مفاوضات حول الأمور الأخرى التي تؤرق الإدارة الأمريكية.
وعلى الرغم من الرفض الإيراني الدائم للدخول في اتفاق يشمل الأمور غير النووية؛ إلا أنها قد ترى في هذا الطرح مناورة تُمكّنها من إنقاذ الاقتصاد الإيراني قبل انهياره. وقد تسعى -في سبيل ذلك- إلى إطالة أمد المفاوضات وعدم إنهائها أو عرقلتها، حتى تستفيد من الوقت في إعادة تحسين أوضاعها. ولن تكترث طهران بالوصول إلى نتائج حقيقية، لأنها في أسوأ الظروف ستكون حصلت على اعتراف أمريكي إضافي بالاتفاق النووي.
أما الإدارة الأمريكية فقد ترى في قبول إيران للجلوس على مائدة المفاوضات للتباحث بشأن قضايا كانت دومًا مسار رفض إيراني انتصارًا أمريكيًّا كبيرًا. أضف إلى ذلك أن جلوس واشنطن مع طهران على مائدة المفاوضات سيعزز من الامتيازات التي تحصل عليها الأولى من دول الخليج العربي.
السيناريو الرابع- مفاوضات حقيقية: يستند هذا السيناريو إلى استمرار الولايات المتحدة في الضغط على إيران إلى الحد الذي يدفع النظام الإيراني إلى الاستجابة للشروط الأمريكية. وينطلق من أن الأطراف الأخرى التي تُعوّل عليها إيران في مواجهة واشنطن لن تقف بالضرورة معها ولن تدعمها. فبينما يبدو الاتحاد الأوروبي داعمًا للصفقة النووية، وغير راضٍ بالضرورة عن التحركات الأمريكية؛ إلا أنه غير راضٍ أيضًا عن السياسة الإيرانية، ولديه كذلك تخوف عميق من تطويرها منظومة الصواريخ الباليستية.
وعلى الرغم من الدعم الذي تتمتع به إيران من جانب الصين التي تُعد مستوردًا مهمًّا للنفط الإيراني؛ إلا أن بكين تتجه إلى خفض استهلاكها من النفط الإيراني. أما روسيا، فقد ترى أن خروج طهران من سوق النفط قد يزيد من عوائدها المستقبلية، بجانب تزايد رغبتها في تحجيم دورها في سوريا.
ومن ثم، يستند هذا السيناريو إلى دعوة جماعية للشروع في التفاوض حول اتفاق جديد وشامل، يتجاوز الالتزامات النووية التي يتضمنها الاتفاق الحالي، إلا أنه من الصعب تصور قبول إيران له دون توافر حزمة حوافز واسعة ومشجعة.
واستنادًا إلى العرض السابق، وأيًّا كان السيناريو الأرجح؛ يبدو أن كل طرف لن يتخلى عن سياسته في التعاطي مع الطرف الآخر، حتى وإن أبدى تراجعًا محدودًا أو مرونة معقولة. وعليه، فإن السيناريو المرجح هو السيناريو الثاني الخاص بمفاوضات “كسب الوقت”، يليه السيناريو الثالث “المفاوضات الجزئية”، تأسيسًا على المواقف المتشددة للطرفين، والرغبة في تجاوز الأزمة الراهنة. وسيرتبط نجاح السيناريو الرابع (المفاوضات الناجحة) بالموقف النشط والمؤثر للأطراف والقوى الدولية، التي عليها أن تستوعب الأزمة وتعمل على تجاوزها.