دشّن فض اعتصام القيادة العامة في الثالث من يونيو (2019) لدخول الأزمة السودانية مرحلة جديدة كانت سمتها الأبرز تصاعد الأدوار الدولية بقبول من اللاعبين الداخليين الرئيسيين. وبينما كان الاهتمام الدولي مصاحبًا للأزمة السودانية منذ سقوط الرئيس “عمر البشير” في أبريل الماضي، جاء الموقف الدولي منذ الساعات الأولى لفض الاعتصام أكثر حدة ورغبة في الاشتباك المباشر مع تطور الأحداث في السودان، على النحو الذي تجسد في وساطة إفريقية تقودها إثيوبيا، تبعها انخراط أمريكي عبر وفد دبلوماسي رفيع المستوى زار العاصمة السودانية الخرطوم والتقى الأطراف الرئيسية. وقد كشف هذا التحول عن مسارات عدة للدور الخارجي في الأزمة السودانية في مرحلة ما بعد فض الاعتصام، سيكون لها أثر واضح على مسار الأحداث في المستقبل.
الوساطات الإفريقية
تمثّلت الاستجابة الإفريقية الأولى لفض اعتصام القيادة العامة في اتخاذ مجلس السلم والأمن الإفريقي قرارًا في السادس من يونيو بتعليق عضوية السودان في المنظمة القارية. ولتجنب فقدان الاتصال بالفرقاء السودانيين، طلب مجلس السلم والأمن الإفريقي من الهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد) بذل الجهود لاستعادة السلم والاستقرار في السودان. ونظرًا لتولي رئيس الوزراء الإثيوبي “أبيي أحمد” رئاسة “إيجاد” في الوقت الحالي فقد أعلن عن اعتزامه التوجه للخرطوم للتوسط بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، وهي الزيارة التي قام بها فعلًا في السابع من يونيو واستمرت ليوم واحد، لكنه أبقى “محمود درير” مبعوثًا خاصًّا لإثيوبيا في الخرطوم لمباشرة التواصل مع جميع الأطراف عن قرب، والذي يعمل كذلك على تنسيق جهوده مع مبعوث الاتحاد الإفريقي للسودان الدبلوماسي الموريتاني “محمد الحسن ولد لبات” الذي شغل هذا المنصب منذ نهاية أبريل الماضي بحيث يمكن الحديث عن وساطة إفريقية موسعة تعبر عن الاتحاد الإفريقي والإيجاد والحكومة الإثيوبية معًا.
وخلال زيارته للخرطوم، التقى “أبيي أحمد” برئيس المجلس العسكري الفريق “عبدالفتاح البرهان”، كما التقى بوفد ممثل لقوى الحرية والتغيير وذلك بعدما أعلن الطرفان قبولهما الوساطة الإثيوبية. وبينما لم تتضمن زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي تقديم مقترحات محددة لتسوية القضايا الخلافية، طالب “أبيي أحمد” كافة الأطراف في السودان “بالسير سريعًا نحو اتفاق يؤسس لمرحلة انتقالية ديمقراطية”. كما طالب الجيش والشعب والقوى السياسية السودانية بتركيز جهودهم على “مستقبل الأمة”، داعيًا الجيش السوداني والمنظومة الأمنية للتركيز على الدفاع عن “حرمة الوطن وسيادته وأمن المواطنين وممتلكاتهم”، والقوى السياسية للتركيز على مصير البلاد في المستقبل، وتجنب الوقوع رهينة لعقبات ومعوقات الماضي.
وقد جاءت موافقة قوى الحرية والتغيير مشروطة بعدد من الشروط، أولها اعتراف المجلس العسكري بارتكاب مجزرة فض الاعتصام، وإطلاق سراح جميع المعارضين والسياسيين وأسرى الحرب، وإطلاق الحريات العامة، ورفع الحصار عن الشعب السوداني من خلال انتشار المظاهر العسكرية في المدن السودانية، بالإضافة إلى رفع الحظر عن خدمة الإنترنت.
وبدوره، أعلن المجلس العسكري بعد نحو أسبوع من المبادرة الإثيوبية عن شروطه للعودة للتفاوض خلال مؤتمر صحفي في الثالث عشر من يونيو. وقد تضمنت هذه الشروط الاحتفاظ بأغلبية ورئاسة المجلس السيادي، وعدم السماح بالاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة مرة أخرى، والاعتراف بأن قوى الحرية والتغيير قد مارست تصعيدًا لا يتماشى مع التفاوض في إشارة للعصيان المدني الذي شهدته البلاد، ورفض تسليم كافة مؤسسات الحكم الانتقالي لقوى الحرية والتغيير باعتبارها غير مفوضة من الشعب السوداني، ورفض كافة المطالب بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في أحداث فض الاعتصام لما يمثله ذلك من عدوان على سيادة السودان، ورفض محاولات بعض الأحزاب السياسية من قوى الحرية والتغيير لتجنيد عناصر من المؤسسة العسكرية، والاستمرار في قطع الإنترت في الوقت الراهن لخطورتها على الأمن.
الانخراط الأمريكي
منذ تصاعد الاحتجاجات في السودان في ديسمبر الماضي، وُجهت اتهامات عديدة لإدارة الرئيس “ترامب” بتبني موقف سلبي من الأوضاع في السودان على النحو الذي تجسد في محدودية الاستجابة الأمريكية، وتأخرها في الكثير من الأحيان، فضلًا عن اتخاذ جميع التحركات الأمريكية طابع الاستجابة الآنية للأحداث والتي لا تعكس استراتيجية أمريكية واضحة المعالم بشأن الملف السوداني ككل، وهو الأمر الذي لم يعد ملائمًا لمواجهة النفوذ الصيني والروسي المتزايد في السودان.
ودفعت التطورات الأخيرة الولايات المتحدة لتغيير نهجها في التفاعل مع ملف السودان بصورة كبيرة. إذ تمثلت الاستجابة الأمريكية الأولى لمستجدات ما بعد فض اعتصام القيادة العامة في بيان الخارجية الأمريكية الصادر في السادس من يونيو والذي دعت فيه الولايات المتحدة لاستئناف المفاوضات بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير من أجل التوافق على ترتيبات نقل السلطة لحكومة مدنية. وتضمن البيان ترحيبًا أمريكيًّا بالبيانات الصادرة عن العديد من القوى الإقليمية كالسعودية والإمارات ومصر والاتحاد الإفريقي والتي دعت جميعها الأطراف السودانية لضبط النفس واستئناف المفاوضات.
وفي خطوة تالية أكدت التنسيق الأمريكي مع القوى الإقليمية المهتمة باستعادة الاستقرار في السودان، تلقى الدكتور “أنور قرقاش” -وزير الدولة الإماراتي للشئون الخارجية- اتصالًا هاتفيًّا من “ديفيد هيل” -وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشئون السياسية- وذلك بغرض مناقشة الأوضاع المستجدة في السودان من خلال استعراض الوضع القائم والجهود الدولية والإقليمية الداعمة للحلول السياسية، بجانب تأكيد المسئول الأمريكي على موقف بلاده الداعم لنقل السلطة لحكومة بقيادة مدنية وفقًا لرغبات الشعب السوداني.
ومع استمرار تعقد الأوضاع في السودان وتضاؤل فرص عودة المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير للمفاوضات بمبادرة ذاتية، صعدت الولايات المتحدة من درجة انخراطها في الشأن السوداني، لتعلن الخارجية الأمريكية عن زيارة “تيبور ناجي” -مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الإفريقية- للخرطوم في الثاني عشر من يونيو في محطة أولى من جولة تشمل كذلك إثيوبيا للالتقاء بمسئولي الاتحاد الإفريقي لبحث الملف السوداني، قبل أن يتوجه إلى موزمبيق وجنوب إفريقيا في زيارة يغلب الطابع الاقتصادي على جدول أعمالها.
وقد شهدت زيارة “تيبور ناجي” للخرطوم قدرًا ملحوظًا من التعتيم الإعلامي، إذ لم يُفصَح عن مضمون الاستقبال الرسمي للمسئول الأمريكي إلا من قبل السفيرة “إلهام إبراهيم محمد أحمد” -وكيل وزارة الخارجية السودانية بالإنابة- والتي قدمت للمسئول الأمريكي إحاطة بتطورات الأوضاع في السودان منذ الإطاحة بالبشير، مؤكدة انحياز القوات المسلحة للمطالب الشعبية، فضلًا عن إشارتها للتطورات الإيجابية والتقدم الذي أحرزته الوساطة الإفريقية من أجل عودة الأطراف السودانية للتفاوض. وفي المقابل، أكد مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الإفريقية حرص المجتمع الدولي على نجاح المساعي المبذولة للتوصل لتسوية بشأن إدارة المرحلة الانتقالية والتحول الديمقراطي في السودان، مشددًا على دعم بلاده لجهود الوساطة الإفريقية والإثيوبية. واتصالًا بملف العلاقات الثنائية السودانية الأمريكية الذي شهد تطورات كبيرة في العامين الأخيرين، أعرب “ناجي” عن تطلع بلاده لرفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى مستوى السفراء، ولرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وبجانب استقباله في وزارة الخارجية، عقد “تيبور ناجي” لقاءين منفصلين، اجتمع في الأول منهما مع رئيس المجلس العسكري الانتقالي، بينما اجتمع في اللقاء الثاني بوفد ممثل لقوى الحرية والتغيير. ولم يشهد أي من اللقاءين طرح المسئول الأمريكي مبادرة لتسوية الخلاف بين الطرفين، أو عرض وساطة أمريكية مستقلة، كما لم يُعرف عن مضمون اللقاءين سوى القليل من المعلومات.
وقد تمثل الإجراء الأكثر أهمية الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية في تعيين السفير “دونالد بوث” مبعوثًا خاصًا للسودان من أجل قيادة الجهود الأمريكية لدعم الحل السياسي للأزمة الحالية بما يعكس رغبة الشعب السوداني. ولا يُعد “بوث” غريبًا عن الملف السوداني، إذ سبق وأن عين مبعوثًا خاصًا للسودان وجنوب السودان بين عامي 2013 و2017 خلال رئاسة “باراك أوباما”، قبل أن يشغر المنصب منذ وصول “دونالد ترامب” للسلطة. وقد انخرط “بوث” في مهام منصبه سريعًا مستعينًا بخبرة طويلة في القارة الإفريقية راكمها منذ عام 2005 بعمله سفيرًا للولايات المتحدة في ليبيريا وزامبيا وإثيوبيا، حيث رافق “بوث” “تيبور ناجي” في زيارته للخرطوم، وشارك في الاجتماعات التي عقدها “ناجي” مع مختلف الأطراف السودانية.
سمات الدور الخارجي في مرحلة ما بعد التدويل
كشف التحول في مواقف الأطراف الدولية من الأزمة السودانية في أعقاب فض الاعتصام عن عدد من السمات الرئيسية التي يمكن من خلالها توقع الأثر المتحقق من التدخل المتزايد للأطراف الدولية في التفاعلات السودانية، ومن بين أهم هذه السمات:
1- الاكتفاء بصيغة وساطات الحد الأدنى
كان القاسم المشترك بين كل الجهود الدولية هو الالتزام بصيغة الوساطة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير من دون تقديم أي مبادرة مستقلة للحل بعيدة عن رؤى الفرقاء السودانيين. وبمرور الوقت تبلور دور الوسيط الإثيوبي في نقل المطالب المتبادلة بين طرفي التفاوض غير المباشر. كما تراجع دور الوسطاء على اختلافهم بصورة أكبر بعدما عادت قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري لعقد مؤتمرات صحفية للتعبير عن وجهة نظر كل منهم إزاء الوضع الراهن، وشروط استئناف التفاوض مرة أخرى، بما لا يترك مساحة كبيرة للوسيط لأن يمارس دورًا فعليًّا.
ولا ينتقص هذا الوضع من قيمة الوساطات ولا الوسطاء أنفسهم، لكنه يضع سقفًا محدودًا للمتوقع من هذه الوساطات، حيث ينصب جهدها الأكبر على نقل وجهات النظر انطلاقًا من حيث انتهت المفاوضات المباشرة قبل تعليقها وقبل فض اعتصام القيادة العامة. ولما كانت هذه المفاوضات قد وصلت إلى طريق مسدود خصوصًا بشأن تشكيل ورئاسة المجلس السيادي، لا ينتظر أن يسفر دخول أي من الوسطاء الإقليميين أو الدوليين عن تغير موقف أحد الأطراف من هذه القضية المحورية مما قد يأذن بنهاية الخلاف وبداية المرحلة الانتقالية. كذلك فإن الواقع يشير لصعوبة كبيرة في تطبيق أي من الحلول المقترحة لمشكلة المجلس السيادي، فإذا كان المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير يرفضان التفاوض المباشر بدعوى انعدام الثقة المتبادلة، فكيف لهذين الطرفين أن يشتركا في عضوية المؤسسة الممثلة للسلطة العليا في البلاد لمدة ثلاث سنوات.
وإذا كانت جميع الأطراف المتقدمة بالوساطة أو الداعمة لها على دراية كاملة بمحدودية النجاح المتوقع لهذه الوساطات في إنهاء الخلاف بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، يظل المكسب الرئيسي الذي يمكن التوصل إليه على أرض الواقع هو تجنب انسداد قنوات الحوار بين الجانبين وانسياقهما في التصعيد عبر محاولة فرض الحلول الأحادية. فمنذ تعليق المفاوضات شهدت الأوضاع في السودان مستوى غير مسبوق من التصعيد منذ سقوط “البشير”، بلغ ذروته مع فض القوات المسلحة لاعتصام القيادة العامة، وما تبع ذلك من رد فعل من الجانب الآخر تمثل في الدعوة للإضراب العام والعصيان المدني. ومثل هذه الإجراءات لا تزيد الموقف إلا تعقيدًا، بحيث تتضاءل فرص نجاح المفاوضات بل وفرص عقدها من الأساس، مع اكتساب الحلول الأحادية أهمية متزايدة نظرًا لما لها من فاعلية في فرض الأمر الواقع. وهذا الموقف عبر عنه صراحة مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الإفريقية في زيارته للعاصمة الإثيوبية أديس أبابا التي أعقبت زيارته للخرطوم، حيث قرن تحذيره من انتهاج الأطراف السودانية على اختلافها الحلول الأحادية وتصاعد فرص انتشار الفوضى في السودان.
2- استمرار السياسة الأمريكية في الربط بين ضفتي البحر الأحمر
في إشارة ذات دلالة بالغة الوضوح والأهمية، أشارت الخارحية الأمريكية في بيانها الأول بشأن الأوضاع في السودان بعد فض اعتصام القيادة العامة بالإعلان عن تقدير الولايات المتحدة للبيانات الصادرة عن كل من السعودية والإمارات ومصر، وهو الأمر الذي يأتي استمرارًا لسياسة أمريكية بدأت منذ تولي الرئيس “ترامب” السلطة تقوم على الربط بين منطقة الشرق الأوسط من ناحية، والقرن الإفريقي والبحر الأحمر من ناحية أخرى، لتمارس دول الشرق الأوسط دورًا فعالًا في توفير بيئة أكثر استقرارًا في الإقليم المجاور على النحو الذي ظهر في الدور الكبير للسعودية والإمارات في التوصل لاتفاقية للسلام بين إثيوبيا وإريتريا العام الماضي، وبعد تقديم الإمارات دعمًا اقتصاديًا كبيرًا لإثيوبيا لمواجهة أزمتها الاقتصادية التي أعقبت التغيير السياسي. وفي الحالة السودانية تجسد هذا الدور منذ سقوط “البشير” في صورة مساعدات إغاثية ومالية عاجلة قدمتها كل من مصر والسعودية والإمارات، وعبر توفير مناخ داعم للاستقرار على النحو الذي أكدته قيادات الدول الثلاث خلال لقائها بالفريق أول “عبدالفتاح البرهان” رئيس المجلس العسكري الانتقالي في جولته الخارجية الأولى التي استهلها بزيارة القاهرة ثم أبوظبي قبل أن يشارك في قمتي مكة العربية والإسلامية.
وقد ألمحت العديد من التحليلات إلى أن الانخراط الأمريكي المتأخر في الأزمة السودانية من خلال زيارة الوفد الدبلوماسي رفيع المستوى للخرطوم يأتي “لسحب التفويض الأمريكي” للدول العربية الثلاث، والذي كانت الإدارة الأمريكية قد اعتمدت عليه في إدارة جهود استعادة الاستقرار في السودان، مقابل إعادة توجيه هذا الدعم للوساطات الإفريقية. لكن تشير الكثير من الحقائق إلى مجانبة هذا المنطق للصواب. فمن ناحية، يعتمد رئيس الوزراء الإثيوبي “أبيي أحمد” في جزء كبير من نشاطه الخارجي على رصيده المتراكم من تحقيقه حدًّا أدنى من التوافق مع إريتريا بعد عقدين من الصراع، ولم يكن السلام القائم حاليًّا بين إثيوبيا وإريتريا ليتحقق من دون الدور الفاعل لدول الخليج. ومن ناحية ثانية، جاء الموقف الإقليمي المرحب بالوساطات الإفريقية والمساعد على نجاحها لينفي أي فرصة لتنافس دولي على الوساطة على غرار تنافس الكتلتين العربية والإفريقية على تقديم مبادرات تسوية الصراع الصومالي في بداياته في مطلع التسعينيات وهو ما كان له دور كبير في استدامة الصراع وتعقده. ومن ناحية ثالثة، وبغض النظر عن طبيعة الحل السياسي الذي سيتم التوصل إليه في السودان، يعد البديل العربي هو الأقرب والأفضل للسودان كشريك للتنمية في ظل الحاجة الملحة لمنح الاقتصاد السوداني دفعة كبيرة للأمام بما يعد ضامنًا لجهود استعادة الاستقرار في البلاد.
3- البناء على خبرات التدويل في أزمات سودانية سابقة
في مواجهة الأوضاع السياسية بالغة التعقيد التي يمر بها السودان، استحضر الكثير من السياسيين والمحللين الخبرة التاريخية السودانية كمرجعية مهمة تقدم الكثير من التفسيرات للوضع القائم وتقترح بعض الحلول الفعالة. وقد أعاد الكثيرون فيه إحياء تجارب سودانية في إقصاء الحكم العسكري والتحول لحكم مدني، سواء في تجربة الإطاحة بالرئيس “إبراهيم عبود” عام 1964، ومن بعده الرئيس “جعفر نميري” عام 1985. ويظهر بُعد آخر من تأثير الخبرة التاريخية على الأوضاع في السودان، وهو البعد المتعلق بالانفتاح على الوساطات الخارجية في مواجهة أوضاع داخلية معقدة، حيث تراكمت هذه الخبرة نتاج الفاعلية التي حققتها وساطة الإيجاد في معالجة ملف الحرب بين الشمال والجنوب بالأساس. على هذا يأتي انفتاح المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير على الوساطة الإفريقية في الأزمة الراهنة انعكاسًا للخبرة السودانية.
كذلك لا يُعد تعيين الولايات المتحدة مبعوثًا خاصًا للسودان أمرًا مستحدثًا، فمنذ تعيين الرئيس الأمريكي السيناتور “جون دانفورث” مبعوثًا خاصًّا إلى السودان في عام 2001، تعاقب على المنصب خمسة أشخاص كان آخرهم “دونالد بوث” نفسه قبل شغور المنصب لأكثر من عامين. وعلى الرغم من تركيز شاغلي هذا المنصب على البعد المتعلق بمجابهة مهددات الأمن القومي الأمريكي، إلا أن تدخلاتهم في الملفات السياسية كان لها أثر كبير في التطورات التي شهدها السودان في العقدين الأخيرين. فعلى سبيل المثال، كان “دانفورث” أحد أهم اللاعبين المؤثرين في عملية التوصل لاتفاق السلام الشامل عام 2005 الذي وضع حدًّا لأطول حرب أهلية في القارة الإفريقية والذي مهد لاستقلال دولة جنوب السودان. وهذا الانخراط الأمريكي في الشأن السياسي السوداني سار على الأسس التي صاغها “دانفورث” في تقريره النهائي المرفوع للرئيس الأمريكي، حيث أكد أن على الولايات المتحدة ألا تكون لها مبادرة سلام مستقلة في السودان، وإنما تكتفي بلعب الدور المساعد والمحفز للمبادرات المقدمة من الأطراف المحلية والإقليمية من خلال الدبلوماسية النشطة والفعالة. ولا يأتي الانخراط الأمريكي الأخير في الأزمة السودانية إلا استمرارًا لهذا النهج.
4- الوجه الآخر للتدويل- دور الأطراف الدولية المستبعدة
لا تُعد الوساطات المظهر الوحيد لتدويل الأزمة السياسية في السودان، فمنذ اليوم الأول لخروج “البشير” من السلطة منح المجلس العسكري الانتقالي أهمية كبيرة لملف السياسة الخارجية، عبر عدد من الإجراءات الحاسمة التي أنهت سياسات “البشير” في السنوات الأخيرة القائمة على المراوحة بين الأقطاب الإقليمية والدولية، ليتبنى السودان في الأشهر الأخيرة مواقف واضحة تجلت أبرز ملامحها في فك الارتباط بالمحور التركي القطري.
كما حسمت العديد من الدول الأوروبية موقفها مبكرًا، حيث تردد العديد من الدبلوماسيين على موقع الاعتصام أمام القيادة العامة، وكان أبرزهم السفير البريطاني “عرفان صديق” الذي استدعته الخارجية السودانية مؤخرًا احتجاجًا على تصريحاته تعليقًا على التطورات في السودان والتي اعتبرتها السلطات السودانية تدخلًا مرفوضًا في الشأن السوداني الداخلي. واتسق الموقف البريطاني مع عدد من مواقف الدول الأوروبية الأخرى كفرنسا وإيطاليا وهولندا والسويد وغيرها، إذ يقوم موقف هذه الدول جميعها على تقديم الدعم غير المشروط لقوى الحرية والتغيير، والإصرار على نقل إدارة المرحلة الانتقالية لهيئة مدنية بخروج المجلس العسكري من المشهد السياسي في أسرع وقت، وهو الأمر الذي وسع الفجوة بين هذه الدول وبين المجلس العسكري الانتقالي، الأمر الذي فتح المجال أمام الخطوات الأمريكية باعتبارها أكثر حيادًا ومعقولية.
وبينما تسعى كل هذه الأطراف الدولية لتأمين الحد الأدنى من مصالحها في السودان بما يشهده من أوضاع سياسية متغيرة، تأتي هذه المساعي عبر آليات مختلفة يتسم بعضها بطابع السرية، لكن لا يمكن غض الطرف عن تأثير هذه الآليات على المشهد السوداني والذي سيؤثر بالسلب في أغلب الأحيان على استقرار الدولة السودانية وفرص اجتيازها الأزمة الحالية بأقل الأضرار.
على هذه الخلفية، لا ينتظر أن تسفر الوساطات الدولية عن تحولات كبرى في مواقف الأطراف أو المشهد السياسي المتأزم في السودان، إلا أن هذه الوساطات يمكن أن تحول دون انهيار العملية السياسية الانتقالية في السودان بما يفتح الباب أمام احتمالات الانزلاق إلى المسار العنيف أو الفوضوي، لتبقى أوراق اللعبة السياسية في يد أصحابها الأصليين من الفاعلين السودانيين ممثلين في المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير بجانب القوى السياسية الأخرى التي بدأت في تقديم نفسها على نحو أكثر تنظيمًا وجدية بما يرشحها للعب دور متنامٍ في المرحلة المقبلة.