السياسة الاقتصادية هي معيار النجاح الأهم لأي نظام سياسي في العالم، لكنه في مصر يتمتع بأهمية خاصة لعدة اعتبارات يمكن إجمالها في أن عمليات الإصلاح الاقتصادي تعددت على مدار التاريخ منذ وفاة الرئيس الأسبق “جمال عبدالناصر”، وخلال عهدي الرئيس “السادات” والرئيس “مبارك”، لكنها جميعها فشلت ولم تؤدِّ إلا إلى مزيدٍ من الإفقار الاقتصادي من ناحية، وإلى مزيدٍ من الاضطرابات السياسية في البلاد، من ناحية أخرى.
ورغم ما أدت إليه مشاركة مصر في حرب تحرير الكويت (1991) من خفض مديونية مصر إلى قرابة 22 مليار دولار، وهو نصف المديونية المصرية قبل هذه الحرب؛ إلا أن هذه المديونية تصاعدت خلال حكم الرئيس الأسبق “مبارك” إلى أكثر مما كانت عليه قبل حرب تحرير الكويت بقليل، ثم تآكل الاحتياطي من النقد الأجنبي المصري في عصر حكومة الإخوان الذي استمر عامًا واحدًا، مما مثّل عنصرًا ضاغطًا على مصر خلال المرحلة الانتقالية وخلال حكم السنوات الأربع الأولى للرئيس “السيسي”، وكان لزامًا علينا اقتحام المشكلة الاقتصادية، وهو ما تم مع إعادة انتخابه رئيسًا لمصر اعتبارًا من عام 2018، فقد توالت القرارات الاقتصادية الإصلاحية الجريئة بالتنسيق مع البنك الدولي وصندوق النقد، مثل: قرار تحرير سعر صرف العملات الأجنبية، وتحرير أسعار الكهرباء والمواد البترولية.
وتوالت الإشادات بالسياسات الاقتصادية من كبريات المؤسسات الاقتصادية العالمية، وزادت الثقة في الاقتصاد المصري. وإذا بمصر تحقق أعلى معدلات للنمو الاقتصادي حتى بالمعايير العالمية. وبالرغم من ذلك، لم يَلْقَ الأمر عناية من الإعلام المصري بما يليق بالحدث، ولا بما يليق بأهميته، مما استدعى التعرف على ملامح الإنجاز المصري في هذا الملف المهم، وهل تتوافر عناصر الاستدامة لهذه التنمية أم إنها طفرة غير قابلة للتكرار لا قدر الله. ويتم ذلك من خلال متابعة معدل نمو التنمية في العالم مع التركيز على الشرق الأوسط، ثم معدل النمو الاقتصادي في مصر، بجانب تناول ملامح السياسة الاقتصادية التي اتّبعتها مصر، وملامح شروط استدامة عملية التنمية الراهنة.
أولًا- التحولات الاقتصادية العالمية والتنمية
إذا ألقينا نظرة عامة على حالة الاقتصاد العالمي خلال عامي 1017-2018، فمن المؤكد أننا سنخرج بنتيجة سلبية عن حالة هذا الاقتصاد الذي شهد عودة واشنطن إلى فرض سياسات حمائية، ليس ضد الصين فقط ولكن ضد حلفاء الولايات المتحدة أيضًا، وعودة إلى رفع أسعار الفائدة الأمريكية، ما أدى إلى مشكلات اقتصادية في مختلف العالم، أبرزها اضطراب الاقتصادات الناشئة المدينة بالدولار، حتى إن الأرجنتين وتركيا واجهتا مشكلات اقتصادية حادة وصلت لدرجة الأزمات.
إضافة لذلك، شهدت أسواق الاقتصاد العالمي الكلاسيكية الثلاثة، وهي أسواق رأس المال، والعمل، والإنتاج، اضطرابات غير مسبوقة؛ فقد أدى تشديد السياسات النقدية في أسواق رأس المال -نتيجة استخدامها كأداة لعلاج الاختلالات الهيكلية- إلى جعل منحنى العائد بين عائدات السندات المالية طويلة الأجل ومنحنى عائد السندات المالية قصيرة الأجل مسطحًا، وهو مؤشر لاتجاه الاقتصاد العالمي نحو الركود وتباطؤ معدلات النمو.
كذلك شهد سوق العمل نوعيات جديدة من العمالة، بعضها مؤهل تأهيلًا عاليًا وبخاصة في مجالات المعلوماتية ومجال الابتكار العلمي ومجال النانو تكنولوجي، وظهرت شبكات عديدة من باحثين ينتمون إلى جميع دول العالم يطرحون الجديد في هذه العلوم وانعكاساتها على المجتمع، وهو عمل مرن لا يتقيد بوظيفة معينة ولا بأصول ثابتة ولا يحتاج إلى رأس مال، ولا ينتمي لدولة أو إقليم محدد في العالم، أي إنه عمل تشاركي. أما سوق الإنتاج فقد اتسع باتساع العالم أجمع لأنه يقوم -كما سيتضح في الحالة المصرية- على المدن المعولمة أو المدن الكونية لإنجاز عمليات اقتصادية مرتبطة بالعولمة في مختلف مؤسسات الدولة القومية، وسيقود التنمية في هذه الدول، وبالتالي يقود هذه الدول نحو مزيدٍ من العولمة.
السياسات التي وضعها “ميلتون فريدمان” في سبعينيات القرن العشرين (حائز على جائزة نوبل عام 1976) لتعديل سياسات “كينز” المتبعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وقامت عليها سياسات مؤسسات “بريتون وودز” انهارت، وأصبحت سياسات إجماع واشنطن “موضة قديمة” لا تصلح لعالم جديد ينبغي أن تقوم سياساته الاقتصادية على “المعرفة”. ومع أزمة 1998 في الولايات المتحدة وأوروبا، تأكد العالم أن الاقتصاد العالمي ليس بإمكانه تجنب وقوع أزمة بدون مساعدة الدولة، ولذا كانت السياسات المتبعة لعلاج الأزمات الاقتصادية المتتابعة متناقضة تمامًا مع أفكار “فريدمان” وإجماع واشنطن. وأصبحت بيئة الاقتصاد العالمي بيئة مضطربة بسبب ظهور نمط اقتصادي جديد لم تتكشف كل عناصره بعد، مع استمرار بعض قواعد الاقتصاد القديم، إضافة إلى التأكد من أن منصات اقتصاديات المعرفة تهز قواعد البيئة الاقتصادية لإجماع واشنطن بعنف، بما يُنبئ بتغيير الاقتصاد العالمي كلية.
في ظل هذه التطورات الاقتصادية الجديدة، توقع العالم تواضع معدلات النمو في مختلف أنحاء العالم خلال عام 2016، إلا أن نتائج 2018-2019 جاءت على عكس التوقعات، فقد جاءت معدلات النمو في مختلف مناطق العالم على نفس غرار معدلات النمو في العام السابق له، وحققت تحسنًا أفضل. راجع شكل رقم (1).
شكل رقم (1): معدل النمو الاقتصادي في العالم (2018-2019)

وكما يتضح من بيانات الشكل رقم (1)، جاءت آسيا في الترتيب الأول من حيث معدل النمو الاقتصادي، يليها إفريقيا، ثم شرق أوروبا، ثم الشرق الأوسط بنسبة نمو بلغت 2.2%. ويرى المحللون الاقتصاديون أن النمو المتباطئ لغرب أوروبا يرجع إلى النمو المتباطئ لسياسات حكومة إيطاليا الشعبوية، وقرار البنك المركزي الأوروبي لإنهاء برنامج التسهيل الكمي الخاص به تدريجيًّا.
ثانيًا- معدلات النمو في مصر
رغم أن معدل النمو في الشرق الأوسط بلغ 2.2% خلال عام 2018-2019، إلا أن مصر حققت أحد أعلى معدلين للنمو في الإقليم، حيث حققت 5.6% بعد سوريا التي حققت معدل نمو قدره 9.9% نتيجة تحسن الاستقرار السياسي وانتهاء العمليات الإرهابية في معظم أنحاء الدولة.
والواقع أن نسبة النمو التي حققتها مصر هذا العام كانت أعلى من النسبة التي حققتها خلال عام 2017-2018، والتي بلغت 5.3%، وهو ما يؤكد سلامة ونجاح سياسات الإصلاح الاقتصادي التي اتّبعتها مصر لتحقيق نمو اقتصادي مستدام، وهو أمر يستحق المتابعة والإشادة به. كذلك، فإن هذه النسبة من النمو تضع مصر في مصاف أفضل عشرة اقتصادات في العالم من حيث النمو الاقتصادي، وتضع التجربة المصرية في الإصلاح الاقتصادي في موضع الاهتمام العالمي لبحث سبل تحقيق استدامة النمو الاقتصادي، وهذا هو جوهر هذا المقال.
جاءت مصر ضمن الفئة الثالثة على مستوى العالم من حيث معدل النمو الاقتصادي. فقد حققت الفئة الأولى معدل نمو يفوق 7% لأسباب متنوعة، مثل الهند وسوريا وبنجلاديش وإثيوبيا وفيتنام. وحققت الفئة الثانية معدل نمو يفوق 6% ويقل عن 7%، مثل فيتنام والصين وماليزيا والفلبين. بينما حققت الفئة الثالثة معدل نمو بلغ حوالي 5%-6%.
لكن ليس معنى ذلك أننا عبرنا عنق الزجاجة على المستوى الاقتصادي؛ إذ لا تزال عملية الإصلاح المالي تتطلب جهودًا أكبر خلال المرحلة القادمة.
ثالثًا- ملامح استدامة الإصلاح الاقتصادي في مصر
قام برنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر على فكرة رئيسية مفادها ضرورة تكامل سياسات الإصلاح الاقتصادي، وسياسات الحماية الاجتماعية للطبقات الأكثر فقرًا، وإصلاح بيئة الاستثمار، والإصلاح النقدي. والتكامل بين هذه الأبعاد والمكونات في عملية الإصلاح الاقتصادي في مصر كان سر نجاح الحالة المصرية؛ ذلك أن الإصلاح الذي يقوم على تولي كل وزير عملية الإصلاح على مستوى وزارته أو القطاع المعني به واستبعاد التنسيق مع غيره من الوزراء لم يعد مجديًا؛ فالاقتصاد والتحول الاجتماعي كيان متكامل لا غنى عن ضرورة إخضاعه لسياسة إصلاحية واحدة، تمامًا كما أن الإصلاح السياسي والتعليمي والإداري والصحي هو عملية متكاملة لا بد من التعامل معها على هذا الأساس.
في هذا الإطار، استهدفت سياسات الإصلاح الاقتصادي في مصر تحقيق عدة أهداف في وقت واحد، شملت إصلاح الاختلالات الهيكلية التي كان يُعاني منها الاقتصاد المصري، ورفع معدل النمو الاقتصادي، وخفض معدل البطالة، والعمل على زيادة نسبة الاستثمار الخاص وزيادة إنتاجيته في المكون الاقتصادي القومي، وجذب الاستثمارات الأجنبية في ظل عالم اقتصادي واحد لا يعترف بأي نوع من الحواجز أيًّا كان نوعها، ويستند إلى اقتصاديات المعرفة تخطيطًا وإنتاجًا وتمويلًا وتسويقًا وتطويرًا.
في هذا الإطار، تتبدى بوضوح أهمية عناصر الاستدامة للتنمية الاقتصادية في مصر. ولهذا جاءت القرارات الاقتصادية الجريئة، وفي مقدمتها تحرير سعر الصرف كضرورة لا بد منها لضمان الاستدامة، باعتبار أن سعر الصرف وتوافر النقد الأجنبي هو حجر الأساس لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية، بقدر ما هو حجر الأساس لحساب التكاليف الاقتصادية عامة إنفاقا وربحًا، وهو أيضًا حجر الأساس لتأكيد الثقة في الاقتصاد المصري.
كذلك فإن الإصلاح الاقتصادي له آثاره السلبية على الطبقات والفئات الأكثر فقرًا في المجتمع، كما أن له آثاره السلبية على السكان المهمشين، ومن ثمّ كان لا بد من توفير حزمة من سياسات الحماية الاقتصادية والاجتماعية لهذه الفئات. ومن هنا ظهرت أهمية برامج الإسكان الاجتماعي، وبرنامج تطوير العشوائيات، وبرامج تمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر وبرامج الدعم النقدي المباشر.
كذلك كانت مشروعات البنية التحتية، ومشروعات القطاعات المعمارية العديدة التي تعيد إلى الأذهان خطط الإنفاق الحكومي التي اتبعها الاقتصادي البريطاني “كينز” بعد الحرب العالمية الثانية لإعادة بناء أوروبا، والتي استهدفت تدوير رؤوس الأموال والحد من البطالة، وكانت من عناصر استدامة نمو الاقتصاد الأوروبي.
وأولت عملية الإصلاح الاقتصادي أهمية كبيرة لتحسين بيئة الاستثمار من خلال التحول إلى البيئة الرقمية، والتحول إلى سياسات الشباك الواحد للمستثمرين، وزيادة القدرات التنظيمية لهيئة الاستثمار، وإعادة النظر في الأبعاد القانونية لهذه السياسات، والتوسع في إنشاء المزيد من المناطق الاستثمارية والمناطق الحرة.
المناطق الاستثمارية الجديدة وانتشارها على محافظات عديدة مع التحول للمنظومة الرقمية يثير من جديد قضية المدن الكونية الذكية التي تُعد أساسًا لسياسات العولمة، وكيف تنجز هذه المدن عدة عمليات مهمة للعولمة داخل مؤسسات الدولة القومية، وكيف أن هذه المدن تقود عملية جديدة لإعادة صياغة دور الجغرافيا من جديد لتحقيق هذه العولمة وأهدافها، ومنها زيادة إدماج الدول في عملية العولمة، وأن هذا الدور لا يزال قيد التشكيل، ولكن القاعدة العامة التي تحكمه هي أنه كلما زاد الدور العولمي الذي تلعبه المدن الذكية كلما انعكس هذا الدور على الاقتصاد المحلي للدولة التي تنتمي إليها هذه المدن. بمعنى آخر، فإن هذه المدن هي قاطرة التنمية المستدامة في الدولة.
إذن، هذه المناطق الاستثمارية المنتشرة على نطاق جغرافي واسع في محافظات مصر تؤدي في الحقيقة وظائف عالمية من خلال القيام بالاستثمار ودعم العملية الإنتاجية في مؤسسات وزارة الاستثمار، والمجتمعات العمرانية الجديدة، ووزارة الكهرباء وهيئة الطرق والكباري، ووزارة العمل، ووزارة المالية، ووزارة النقل، ووزارة التموين. فهل أدركنا الآن ماذا تفعل المناطق الاستثمارية الجديدة؟ فما بالنا وأن مجمل هذه الشبكة من التفاعلات المفتوحة عالميًّا في جوهرها وطبيعتها؟ نعم هناك أهداف عولمية من إنشاء المناطق أو المدن الاستثمارية تفوق في أهميتها النسب المحققة في معدلات النمو الاقتصادي نتيجة خطة الإصلاح الاقتصادي، وهذه الأهداف العولمية ينبغي أن تكون موضع تركيزنا مستقبلًا.
لماذا ينبغي أن تكون الأهداف العولمية من المدن الاستثمارية هي أساس تركيزنا مستقبلًا؟ السبب بسيط، ويتمثل في أن لدينا خمسة مؤشرات عالمية لتصنيف دول العالم اقتصاديًّا وفقًا لمعيار الأخذ باقتصاديات المعرفة، وهي اقتصاديات المستقبل والأكثر ربحية وتنافسية، وهذه المؤشرات مركبة تأخذ بعين الاعتبار التعليم ونوعيته إجمالًا، وتعليم علوم الكمبيوتر وتطبيقاته، وإعداد الخريجيين، ومدى توافر الخامات اللازمة لتلك الصناعات، والقدرة الاستيعابية للاقتصاد، والسياسات الاستثمارية المطبقة، والبنية القانونية، والقدرة على التسويق.. إلخ، وهذه المؤشرات هي مؤشرات المنتدى الاقتصادي بدافوس، ومؤشر جولدمان ساكس، ومؤشر استاندارد أند بورز، ومؤشر داو جونز، وأخيرًا مؤشر فايننشال تايمز. وقد أجمعت هذه المؤشرات على أن عدد الدول الأكثر اقترابًا لنادي اقتصاديات المعرفة قريبًا تتراوح بين 11-24 دولة، وأن أهم وأقرب ثلاثة دول منها لتحقيق هذا الهدف هي: إندونيسيا في آسيا، والمكسيك في أمريكا اللاتينية، ومصر في إفريقيا. إذن، مصر لديها فرصة تاريخية ومؤهلة للانضمام لأقوى اقتصادات العالم، ويبقى أمامها فقط دعم هذا الترشح من خلال تفعيل دورها في دعم قطار العولمة الذي يقترب سريعًا من المحطة المصرية، وهذا هو أكبر ضمان لاستدامة التنمية في مصر مستقبلًا.
الخلاصة، أن مصر حققت إنجازًا اقتصاديًّا جيدًا بكل المعايير، وأنها مرشحة لدخول نادي اقتصادات المعرفة بقوة، وأن ما يتردد عن زيادة المديونية يتطلب دراسة العلاقة بين عوائد الديون قصيرة الأجل وعوائد الديون طويلة الأجل. كذلك بالرغم من أهمية التحليل الكلي للتنمية، إلا أن التحليل الجزئي مطلوب بنفس الدرجة من الأهمية.
كذلك لا بد من الوضع في الاعتبار التحولات الجديدة في الاقتصاد المصري، كجزء من تحولات الاقتصاد العالمي، والتي بدأت في الترسخ داخل المجتمع المصري، مثل اتساع دور الشركات العالمية مثل أوبر وأمازون والبنوك الأجنبية المختلفة، والشمول المالي، والدفع الإلكتروني، وإدخال مفاهيم جديدة على العملية الاقتصادية مثل سلاسل الإنتاج، وزيادة المخزون المعلوماتي، والاقتراب بشكل أسرع من البيئة الذكية والإدارة عن بعد. كل هذه التحولات والعوامل تُمثل أسسًا علمية واقعية لإعادة اكتشاف الدولة ودورها وعلاقتها بالمجتمع في المستقبل.