فرضت العديد من دول الاتحاد الأوروبي حظرًا على صادرات الأسلحة إلى تركيا اعتراضًا على غزوها العسكري لشمال سوريا. وفي حين لم تكن تلك العقوبات هي الأولى من نوعها، فقد سبق أن فرضت بعض تلك الدول في سنوات سابقة عقوبات مماثلة على تركيا، لكنها لم تكن واسعة النطاق على النحو الحالي، ذلك أن المجموعة الأوروبية التي انضمت إلى قرار الحظر تشكل القوى الأوروبية المؤثرة في قائمة تصدير الأسلحة إلى تركيا، وبينما تقول أنقرة إنها استعدت لقرار من هذا النوع ولديها قدرات إنتاج محلية وبدائل تعويضية؛ إلا أنه لا يعتقد في صحة هذا الأمر. ومن المتصور أنه في حال طالت فترة الحظر فإن التسليح التركي سوف يتأثر إلى درجة كبيرة. لكن يُعتقد أيضًا بدرجة أكبر أنه قد لا ينعكس مفعول الأثر الفوري لتلك العقوبات على أنقرة، خاصة ما يتعلق بحملتها ضد الأكراد في سوريا، لكن من المؤكد أنها ستنعكس لاحقًا في ظل استمرار تصاعد مؤشرات التوتر التركي – الأوروبي التي يتوقع لها تداعيات أكثر سلبية على القطاعات العسكرية والعلاقات الاقتصادية والدبلوماسية في المدى المتوسط، في ظل استمرار السياسات التي ينتهجها الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”.
مؤشرات مهمة
بحسب التقارير الدولية، ومنها تقرير sipri، فإن تركيا خلال الأعوام (2014 / 2018) جاءت في الترتيب رقم 13 في استيراد الأسلحة على مستوى العالم، حيث كانت تستورد من الولايات المتحدة حوالي 60% من متطلباتها التسليحية من الخارج، تليها إسبانيا بحوالي 17٪، وإيطاليا بنسبة 15٪. أما بالنسبة لألمانيا فمن الواضح أنها كانت تشكل أحد أهم الدول المصدِّرة للسلاح إلى تركيا، حيث بلغ متوسط الصفقات العسكرية التركية مع ألمانيا ما يعادل ثلث الصادرات الألمانية، وخلال عام 2018 بلغت 243 مليون يورو، وفي الربع الأول من العام الجاري بلغت تقريبًا حوالي 184 مليون يورو، وهو ما يعني تنامي معدلات الزيادة في الاستيراد منها. وجاءت فرنسا في المرتبة الثالثة، فقد بلغت مبيعاتها من الطائرات -بحسب تقارير الاتحاد الأوروبي- العام الماضي 1.4 مليار يورو. وقبلها كانت قد أصدرت تصاريح بلغت قيمتها 736 مليون يورو لمعظم المركبات العسكرية والإلكترونيات. أما إسبانيا فقد وصلت إلى حوالي مليار دولار.
ماذا تقول هذه المؤشرات؟
هناك عدد من الملاحظات يمكن استنتاجها استنادًا إلى المؤشرات السابقة:
1- أنه لا مصداقية للرقم الذي طرحه كل من الرئيس التركي ووزير خارجيته بأن تركيا ستعتمد على الإنتاج المحلي للتصنيع العسكري بنسبة 70% من الاحتياجات، لعدة أسباب، من بينها -على سبيل المثال- ما تعكسه الأرقام السابقة التي تشير إلى تنامي معدلات الاستيراد العسكري الخارجي خلال الأعوام السابقة، على الرغم من مؤشرات تنامي معدلات التصنيع المحلي. لكن التحسن في معدلات التصنيع المحلي من الواضح أنه لم ينعكس على متطلبات الاستيراد بشكل قوي، وهو ما يعكسه تقرير متزامن أيضًا مع تقرير IISS أشار إلى أنه على الرغم من الطموح التركي بالوصول بحجم الصادرات العسكرية إلى 25 مليار دولار وفق رؤية 2023 إلا أن هذه الصادرات لم تتجاوز ربع هذا المعدل تقريبًا.
2- مع مواصلة دعم قاعدة التصنيع المحلي التركي، فإن ذلك يأتي اعتمادًا على الخارج بنسبة كبيرة في ظل حالة المؤشرات الاقتصادية التي تأثرت خلال السنوات السابقة بأوضاع سياسية. وكان في مقدمة هذا الدعم الشراكة القطرية لتركيا في التصنيع العسكري من خلال شركة BMC، لكن حجم الاستثمارات الأضخم يتجلى في الاستثمارات الأمريكية في هذا المجال التي بلغت حوالي 42 شركة تقريبًا. لكن تأثير إتمام تركيا صفقة S-400 الروسية كان واضحًا وانعكس على 10 شركات بشكل مباشر بخسائر قدرت بحوالي 12 مليار دولار أبرزها: TAI – Alp Aviation – Aselsan- Tubitak-SAGE – ROKETSAN.
3- بحسب Global Fire Power بلغ حجم الدين الخارجي الخاص بالتسلح وفق أحدث تقرير ما يعادل نصف الموازنة العسكرية تقريبًا. فقد بلغت الموازنة العسكرية حوالي 8 مليارات و600 مليون، مقابل دين 4 مليارات و542 مليون دولار. وبالتالي فإن اللجوء إلى بدائل في حال طول أمد الحظر سيحمل الاقتصاد التركي أعباء إضافية قد يكون من الصعب تحملها.
4- هناك دولتان، هما السويد وفرنسا، طالبتا بحظر شامل للأسلحة الأوروبية على تركيا، وهو مؤشر على أن قائمة العقوبات نوعية. ويؤكد ذلك أن بعض الدول علقت صفقات والأخرى جمدتها، وهناك دول أعلنت أن الحظر سيشمل قائمة الأسلحة التي يمكن استخدامها في العملية العسكرية دون أن تحدد ماهية هذه العقوبات بشكل واضح، وبالتالي هناك تباينات وربما انقسام أوروبي حول العقوبات وجدواها كورقة ضغط.
طبيعة العقوبات
بحسب القرارات الأوروبية فإن العقوبات على التسليح التركي يشمل تعليق صفقات متفق عليها، وهو مع أغلب الدول المشاركة في قرار الحظر، وأيضًا تجميد ووقف أي صفقات إضافية قد يتم طلبها من الآن فصاعدًا حتى إشعار آخر. وبحسب وزراء الخارجية في اجتماع الأسبوع الماضي في لوكسمبورج بهذا الشأن فإن الدول الأوروبية ترفض دعم الحملة العسكرية التركية على سوريا، ولا تريد تحويل السلاح إليها لاستخدامه فيها، وهو ما يعني أن الحظر مرتبط بالعملية، وبالتالي سيتم استئنافه في أعقاب ذلك. وقد يكون من تداعيات ذلك ارتفاع معدلات الحصول على الأسلحة من تلك الدول في وقت لاحق بمعدلات أكثر من السابق، وهو ما يتضح من مؤشرات سابقة. على سبيل المثال، ارتفعت معدلات الشراء من فرنسا في أعقاب وقف مؤقت في عام 2012 على خلفية إدانة الاتحاد لتركيا في مذابح الأرمن، وكذلك ارتفعت وفق المؤشرات المشار إليها سابقًا مع ألمانيا بعد توقف في 2016 بسبب غزو تركيا لعفرين، لكن معدلات الاستئناف سجلت لاحقًا تناميًا على الطلب.
وبالتالي، فإن التعليق أو التجميد هو إشعار سياسي بالدرجة الأولى من جانب القوى الأوروبية التي صوتت بالإجماع ضد تركيا، وهو تأكيد على أنها لا تريد التورط بأي حال من الأحوال في تلك العملية ولو بشكل غير مباشر، وإطلاق رسائل تحذيرية في هذا الإطار. لكن -في المقابل- يظل أن سوق الأسلحة يحقق عوائد مهمة لهذه الدول، وبالتالي لن يكن بمقدورها إطالة أمد الحظر.
1- أوراق تركيا
تتعامل تركيا على أساس أنها لم تستسلم لقرارات الحظر الأوروبي، بل على العكس ترى أن لديها الكثير من أوراق الضغط ومساحات المناورة في هذا الصدد، من ذلك -على سبيل المثال- عضوية الناتو التي لم تتأثر، بل حتى لم تكن هناك إدانة من جانب الحلف، وربما يعود ذلك لأسباب خاصة بالحلف، منها -على سبيل المثال- المشاركة التركية ذات الثقل في الحلف كثاني أكبر دولة بعد الولايات المتحدة، والقاعدة التصنيعية المشتركة. فقد أشار الأمين العام للحلف إلى أنه “لا يريد خسارة تركيا”. ويُشير هذا إلى طبيعة التفاعلات الحالية في إطار العلاقات التركية مع أعضاء الحلف، فهي في المرحلة الحالية ليست علاقات تحالف ولا عداء، بل ربما كان هناك تأييد من دول في الحلف للعملية العسكرية التركية داخل سوريا في حدود ما يُمكن القبول به، بحيث لا يزيد التوغل في العمق السوري -على سبيل المثال- عن 32 كلم، وعدم إطالة أمد العملية من حيث الوقت وزيادة الخسائر البشرية. وبالتالي، فإن تركيا تراهن على أن تلك العقوبات لن تطالها، وأنها ستفعل في الأخير ما تريد. كذلك لا يزال بيد تركيا أوراق أخرى لابتزاز القوى الأوروبية، منها محاولة استغلال ورقة تنظيم “داعش”، بالإضافة إلى إغلاق أجوائها على الدول التي فرضت عليها عقوبات ما قد يؤثر على العديد منها كما حدث في مرات سابقة.
2- روسيا والناتو والعقوبات الأوروبية
المعادلة التقليدية أنه كلما زادت تركيا ابتعادًا عن الغرب تقاربت مع روسيا. وتتجلى هذه المعادلة في المرحلة الراهنة أكثر من أي وقت مضى، وربما ضمن تفسيرات عديدة أيضًا في إطار ما يتعلق بسياسة الناتو “التصالحية” تجاه تركيا كما يشير إلى ذلك بعض الساسة الأوربيين، ذلك أن الناتو يحاول الموازنة بين الضغط على تركيا وبين محاولة الحد من المزيد من الانفتاح التركي على روسيا، فالأخيرة لم تعارض التحرك التركي في شرق الفرات من جهة، كما يوازن بين مصالحه في الإبقاء على تركيا داخل الحلف والذي يمكن أن يكون تأثيره الاستراتيجي أكبر على الحلف من تأثير ارتدادات الغزو التركي لسوريا، لذا يفضل اللجوء إلى فرض عقوبات ثنائية أو شبه جماعية مؤقتة على تركيا في إطار الاتحاد الأوروبي أفضل من اتخاذ موقف مضاد بشأن عضويتها في الحلف.
إجمالًا، يمكن القول إن الأثر السياسي للعقوبات الأوروبية الخاصة بالتسلح تجاه تركيا يظل أكثر تأثيرًا على تركيا من الأثر العسكري المباشر على العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا. كما أن تركيا -أو بالأحرى نظام أردوغان- أصبح يمثّل عبئًا على أوروبا، لكن أغلب تلك الدول لا تريد التفريط في تركيا كحليف في الناتو، كما لا تريد الصدام معها في الوقت الذي تجنح فيه تركيا باتجاه تعزيز العلاقات أكثر مع روسيا، بينما تتضرر أوروبا من تداعيات ذلك، وعليه لن تمارس مزيدًا من التصعيد بما يتجاوز قرارات حظر الأسلحة على تركيا، وستفتح المجال الدبلوماسي لاحتواء الأزمة وآثارها المتعددة الأبعاد. وفي المقابل، لا يمكن التقليل من آثار تلك القرارات على تركيا، بل على العكس من ذلك فقد تدفع بتركيا إلى تحجيم العملية، لكنها لن تلغيها أو تتراجع عنها.