جاءت العملية النوعية التي نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية في الثالث من يناير 2019، وأسفرت عن مقتل “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ومهندس الأذرع الإيرانية الخارجية، و”أبو مهدي المهندس” نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقية، وعدد من الشخصيات العراقية الموالين لإيران؛ لتثير العديد من التساؤلات حول تداعيات العملية التي جاءت ردًّا على الاستفزازات الإيرانية وتماديها في تجاوز الخطوط الحمراء، وما إذا كانت ستُسهم في تنامي النفوذ الأمريكي والإيراني في العراق لتوظيفه في عملية المواجهة الممتدة بين الطرفين، أم ستكون العملية بداية مرحلة مفصلية لاستعادة العراق لسيادته وتحجيم الصراع الدولي والإقليمي على أراضيه. فما بين مقتل “سليماني” وقصف قاعدة عين الأسد بالعراق، انفتح المشهد على كل الاحتمالات، منها اندلاع حرب شاملة بين الجانبين مرورًا بحرب الوكالة، وأغلق على وقع هدنة فرضها الأمر الواقع بين واشنطن وطهران.
دوافع توظيف النفوذ
أسهمت دوافع عديدة في توظيف أدوات النفوذ الأمريكي والإيراني المتجذر في العراق ليصل إلى نقطة حافة الهاوية بين البلدين، وتغيير قواعد الاشتباك من خلال المواجهة المباشرة بينهما على الساحة العراقية. ولعل أبرز هذه الدوافع تتمثل في التالي:
الدافع الأول: انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي مع إيران في مايو 2018، وقيامها بفرض عقوبات اقتصادية وتجارية على إيران على خلفية هذا الانسحاب، بما دفع إيران إلى أن تتخذ من نفوذها في العراق وسيلة لمحاولة التخفيف من حدة هذه الضغوط باعتباره الشريان الاقتصادي الأول في ظل العقوبات الراهنة ضدها، حيث يُقدر حجم التبادل التجاري بين إيران والعراق بـ11 مليار دولار خلال عام 2018. وذلك وفقًا لتصريحات وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف” خلال مشاركته في مؤتمر اقتصادي أقامته القنصلية الإيرانية في كربلاء بالعراق مطلع عام 2019. فيما تشير تقديرات اقتصادية إلى أن إيران تستهدف الوصول بحجم التبادل التجاري بين البلدين لما يقرب من 20 مليار دولار.
الدافع الثاني: يرتبط بالحراك العراقي الذي بلغ ذروته في نهاية عام 2019 والذي شكل رفضًا قاطعًا للنفوذ الإيراني المتغلغل في العراق منذ الاحتلال الأمريكي الذي أسهم في انكسار قوة العراق وخصمه من رصيد القوة العربية، وتحويل العراق إلى واحة للتيارات الإرهابية والمتشددة التي انتشرت لاحقًا في دول الإقليم. وقد تجسد هذا الرفض للتغلغل الإيراني في الجسد العراقي من قبل المتظاهرين وهتافاتهم التي مثلت تغيرًا جذريًّا في الموقف من إيران ومن قلب المناطق الشيعية في العراق مثل “إيران بره بره.. بغداد تبقى حرة”. كما أحرق الشباب الغاضب في المسيرات صور الخميني، والقنصلية الإيرانية في النجف، وهاجم مقرات الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران. وهو ما جعل النظام الإيراني يدرك أن بقاءه في العراق أصبح على المحك، فسعى لتوظيف صراعه مع الولايات المتحدة لتشتيت جهود الحراك بعيدًا عن هدفه الرئيسي لإنهاء الحكم القائم على أسس مذهبية وطائفية. وهو الأمر الذي تجلى بوضوح في أن أول بوادر للتوتر بدأ بين الجانبين في العراق كان عقب اندلاع الانتفاضة العراقية بشهرين، وبعد أن فشلت إيران ووكلاؤها من العراقيين في إخمادها. ففي 28 ديسمبر 2019، قامت ميليشيات حزب الله العراقي بتنفيذ هجوم صاروخي على قاعدة أمريكية K1 بكركوك شمال العراق، حيث أسفر الهجوم عن مقتل متعاقد أمريكي من أصل عراقي وإصابة أربعة عسكريين أمريكيين.
الدافع الثالث: وربما الأهم، يرتبط بمواجهة مشكلات الداخل الأمريكي والإيراني من خلال السعي لتحقيق انتصارات خارجية، فـ”ترامب” يواجه مأزقًا داخليًّا بمحاولات عزله، ويسعى لتحسين فرص إعادة فوزه في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في نوفمبر 2020. أما النظام الإيراني فإنه يواجه انتفاضة داخلية حادة بسبب الأزمات الاقتصادية، ومشروعه الطائفي في العراق ولبنان، بعد اندلاع المظاهرات الرافضة للطائفية وللتغلغل الإيراني الذي أسهم في خلخلة تلك المجتمعات وارتدادها للمكونات الأولية الطائفية والمذهبية بعيدًا عن ركائز قيم المواطنة والتعايش السلمي، وهو الأمر الذي دفع بنظامي “ترامب” في الولايات المتحدة الأمريكية والملالي في إيران للهروب من مشكلات الداخل بتوظيف نفوذهما في العراق باتجاه التصعيد المحسوب وتبني سياسة حافة الهاوية، حيث أسفر هذا التصعيد المتبادل عن قيام وكلاء إيران من الميليشيات الشيعية باستهداف القاعدة الأمريكية K1، وردت الولايات المتحدة باستهداف خمسة مقرات لحزب الله في غرب العراق وشرق سوريا، وأدت تلك الضربات إلى مقتل خمسة عشر شخصًا من مقاتلي الحزب في العراق. ثم جاءت ذروة التصعيد باستهداف مقر السفارة الأمريكية في بغداد من قبل أنصار “الحشد الشعبي” في العراق ليكون الرد الأمريكي بعملية نوعية غير تقليدية وخارج الحسابات باغتيال “قاسم سليماني” عراب المشروع الإيراني في مناطق تمدده العربية، والذي سبق أن أشار في 23 نوفمبر 2011 إلى أن التطورات السياسية الداخلية التي تشهدها بعض الدول تخلق “إيرانات” جديدة على حد تعبيره.
تقارب حذر
جاء الرد الإيراني على عملية “مقتل سليماني” باستهداف مباشر من إيران في 7 يناير 2019 بقصف قاعدتين عسكريتين في العراق تتواجد بها قوات عسكرية أمريكية. ولكن العملية الإيرانية لم تُسفر عن وقوع خسائر في صفوف القوات الأمريكية سوى ما أعلن عنه مؤخرًا من إصابة 11 جنديًّا أمريكيًّا بأعراض ارتجاج بالمخ ومعالجة العديد منهم. وهو ما يعني لجوء إيران إلى السيناريو الأقل تكلفة. وقد جاء المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس “ترامب” عقب العملية الإيرانية في 8 يناير 2019 ليحمل العديد من الرسائل؛ الأولى الاتجاه نحو التهدئة لا التصعيد، وأن كلا الطرفين لا يرغبان في حرب مباشرة بينهما، وهو ما سبق أن أكده الرئيس “ترامب” بأن إيران لا يمكن أن تكسب عن طريق الحرب وإنما يمكن أن تنجح في المفاوضات. أما الرسالة الثانية، فإنها ارتبطت بدعوة حلف الناتو للقيام بدور أكبر في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يعني دحضًا لتهديد “ترامب” بالانسحاب من الحلف أو خفضًا للمساهمات المالية الأمريكية للحلف. أما الرسالة الثالثة فإنها ترتبط بإمكانية التفاوض مع إيران، وإن كان “ترامب” قد أكد أنه لم يعد هناك وقت للتسامح مع التصرفات الإيرانية ونظامها الذي يدعم الإرهاب، متعهدًا بفرض عقوبات فورية على النظام الإيراني دون الرغبة في إسقاطه.
تداعيات محتملة
لا شك أن الصراع بين واشنطن وطهران بدأ في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، ومحاولة إيران الاستئثار بالسلطة والـتأثير من خلال وكلائها في الداخل العراقي، بعدما أسهم الغزو في إسقاط نظام “صدام حسين” الذي مثّل حائط صد أمام طموحات إيران التوسعية. لذلك فإن مستقبل النفوذ الأمريكي والإيراني في العراق بعد مقتل “سليماني” سيتوقف على مدى نجاح الحراك العراقي، واستمراره في تحقيق مطالبه بإنهاء الحكم الطائفي والمذهبي حتى يتمكن العراق من استعادة سيادته كاملةً دون تدخلات خارجية في قراره السياسي. وهو ما يعني أن العراقيين أمام استراتيجيتين رئيسيتين للحد من النفوذ الأمريكي والإيراني في العراق؛ الاستراتيجية الأولى وهي التي بدأت بعد مقتل “قاسم سليماني” مباشرةً، وترتبط بالحد من النفوذ الأمريكي في العراق، والذي بدت بوادره في العديد من المؤشرات، أبرزها: مطالبة مجلس النواب العراقي في جلسة استثنائية في 5 يناير 2020 الحكومة العراقية بإلغاء طلب المساعدة المقدم منها إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”، وذلك لانتهاء العمليات العسكرية والحربية في العراق وتحقيق التحرير والنصر وفقًا لما جاء في نص البيان. كما طلب مجلس النواب أيضًا من الحكومة العراقية العمل على إنهاء تواجد أي قوات أجنبية في الأراضي العراقية، ومنعها من استخدام الأراضي والمياه والأجواء العراقية لأي سبب كان.
في مقابل التصور السابق والمدعوم من إيران، ثمة رؤية مغايرة ترى أن الانسحاب الأمريكي ربما يسهم في تأزيم الواقع الأمني، وعودة تنظيم “داعش” للواجهة، حيث حذر زعيم ائتلاف الوطنية “إياد علاوي” رئيس الوزراء العراقي الأسبق في بيان له في 15 يناير 2020، من تكرار السيناريو السوري في العراق، في حال انسحاب القوات الأجنبية، مشيرًا إلى أنه كان على البرلمان محاسبة الحكومة ومراقبة آليات تطبيق قواعد الاشتباك العسكري من حيث طريقة وتوقيتات ونوعية الأسلحة المستخدمة، على ألّا يكون العراق كدولة دعت التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمساعدته في حربه ضد “داعش” وهي صاحبة القرار وليس غيرها، ساحة مفتوحة أمام القوى الإقليمية والدولية.
وبرغم أن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” أعلن عن أن بلاده لم تعد بحاجة كبيرة إلى الشرق الأوسط، خاصةً وأنها أصبحت أكبر دولة للنفط والغاز في العالم، خلال خطابه الذي ألقاه في 8 يناير 2019 لتحديد ملامح التعامل الأمريكي مع إيران بعد قصفها الصاروخي لقاعدتين عسكريتين في العراق، إلا أن ثمة اتجاهات ترى أن إعادة الانتشار للقوات الأمريكية بعد مقتل “سليماني” تدحض هذه الفكرة، وأن انخراط الولايات المتحدة في معادلات صراعات المنطقة سيتزايد. ويؤيد هذا التوجه إعلان واشنطن عزمها نقل 5000 جندي أمريكي إضافي إلى المنطقة، وجرى إرسال 3000 منهم بالفعل، و200 من القوات الخاصة، بحيث بلغ إجمالي القوات الأمريكية في الشرق الأوسط 80 ألفًا. يُضاف إلى ما سبق تهديد “ترامب” في حال الإصرار على انسحاب القوات الأمريكية من العراق بإيقاف الحساب البنكي العراقي في البنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك الذي تشكل قانونيًّا عام 2003 بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 لمساعدة الحكومة العراقية في إدارة موارد البلاد، حيث يتم دفع عائدات النفط العراقي بالدولار الأمريكي لهذا الحساب يوميًّا، وكذلك تهديده بخصم تكاليف القوات الأمريكية ومنشآتها في العراق من هذ الحساب الذي يحتوي على ما يقرب من ٣٥ مليار دولار وفق تقديرات عدد من المتابعين للشأن العراقي.
أما الاستراتيجية الثانية وربما الأهم فإنها ترتبط بإنهاء النفوذ الإيراني في العراق برغم صعوبة تكلفته في ظل إعادة التموضع للكتل السياسية الشيعية بعد مقتل “سليماني”، وهي تلك القوى التي حاولت أن تتخذ مواقف أكثر استقلالية من التبعية لإيران (مقتدى الصدر – الحكيم) منذ اندلاع الحراك العراقي، بما جعلها تعيد النظر في هذه المواقف، والتي ربما تجلت في دعوة “مقتدى الصدر” لمليونية في الميادين والشوارع لرفض الوجود الأمريكي في العراق، في محاولة لتحقيق اصطفاف شيعي لاستمرار الهيمنة الإيرانية على هياكل السلطة في العراق حتى في ظل رفض قوى الحراك لهذه الهيمنة باعتبارها أحد مسببات أزمة العراق الأمنية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن موقف المرجعية الدينية وتقاربها مع مطالب الحراك، وانضمام قوى سياسية محسوبة على إيران إلى المطالبة باستقلالية القرار الوطني العراقي وتخليصه من كل مظاهر التبعية لإيران؛ قد يمثل مسارًا مناسبًا للبناء عليه، لا سيما أن الحراك قد نجح في تحقيق خطوات جادة في اتجاه ذلك الهدف، أبرزها: إجبار “عادل عبدالمهدي” رئيس الوزراء العراقي على تقديم استقالته، وتغيير قانون الانتخابات الذي أدى إلى الفرز المذهبي والطائفي والمناطقي، وتغيير أعضاء هيئة مفوضية الانتخابات التي كانت قائمة بشكل رئيسي على المحاصصة الطائفية.مجمل القول، إن تداعيات مقتل “سليماني” ربما تمثل نقطة في تحول مسار العراق نحو استعادة سيادته كاملة على أرضه من خلال بدء مرحلة جديدة ربما قد تطول لإنهاء نفوذين يتعايشان على أزمات العراق، فـ”سليماني” الذي هندس دور الميليشيات العسكرية كأذرع إيرانية، وعاش على بحور من دماء مواطني الدول العربية في سوريا ولبنان والعراق واليمن، اغتيل بنفس أساليبه التي وظفها لخدمة مشروع “تفتيتي” استهدف بالأساس الدول العربية. وللمفارقة فإن عملية اغتياله والرد عليها ربما كشفت عن زيف الادعاءات والشعارات البراقة لدى نظام الملالي في إيران لمواجهة القوة الأمريكية. لذلك فإن نجاح العراقيين في الحد من النفوذ الأمريكي والإيراني سيتوقف على مدى قدرتهم على تحقيق اصطفاف وطني داخلي ضد الوجود الأجنبي بكل صوره على أراضي العراق، والجاهزية لملء الفراغ أمنيًّا واقتصاديًّا، وتوظيف كل نفوذ لإنهاء الآخر بشكل مرحلي وتدريجي، لا سيما وأن ارتباطهما جاء متزامنًا، سواء من حيث نقطة البداية التي ارتبطت بالاحتلال الأمريكي للعراق، أو من خلال التوظيف المتعمد لأدواتهما في العراق لخدمة مشاريع الهيمنة الإقليمية والدولية على أراضٍ عربية لا تزال مستباحة حتى إشعار آخر.