شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا ملحوظًا بدور الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة. وتنامى مؤخرًا الحديث حول التوظيف الروسي لهذه الظاهرة في عددٍ من المناطق، الأمرُ الذي سعت للوقوف عليه الورقةُ المنشورةُ بموقع “معهد أبحاث السياسة الخارجية” في ديسمبر 2019، والمعنونة: “الشركات العسكرية الروسية الخاصة: استمرارية وتطور النموذج” “Russian Private Military Companies: Continuity and Evolution of the Model”، للباحثة “آنا بورشفسكايا” Anna Borshchevskaya المتخصصة في السياسات الروسية تجاه الشرق الأوسط. وقد حاولت الورقة الوقوف على تاريخ روسيا الممتد في توظيف هذه الشركات، مرورًا بتطوير ونمو هذا الدور في ظل رئاسة “فلاديمير بوتين”، وصولًا لاستعراض أنشطة هذه الشركات في عدد من الدول.
توظيف قديم وجدل قائم
أشارت الكاتبة إلى أن الدول الغربية رأت أن الدولة يجب أن تحتكر القوة العسكرية دون غيرها. ومع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي تغيرت تلك النظرة، لعدد من العوامل من بينها: اندلاع الصراعات حول العالم، وتدفق الأسلحة والمعدات العسكرية للسوق العالمية، ناهيك عن ضعف عدد من الدول خاصة الإفريقية. كل ذلك كان مقدمة لظهور الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، حيث أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا من بين أوائل الدول في توظيف واستخدام تلك الشركات للقيام بمهام وأعمال خاصة في عدد من النزاعات والصراعات. في هذا السياق، حظيت الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة باهتمام واسع في الغرب خلال السنوات الماضية.
وأكدت الكاتبة إمكانية تقسيم شركات الأمن الخاصة إلى فئات عدة بناء على الوظائف التي تؤديها، سواء تلك المرتبطة بالتحليل والتخطيط الاستراتيجي أو المتعلقة بالقيام بمهام الحراسة وتوفير السلع والخدمات للقوات العسكرية، أو القيام بأعمال استخباراتية، فضلًا عن الاشتراك والانغماس في النزاعات أو الصراعات المسلحة، ناهيك عن تقديم المشورة والتدريب لموظفي الأمن. وتعمل هذه الشركات على استقطاب وتوظيف المحاربين القدامى في المقام الأول، ومع ذلك قد ينضم إليها بعض الأشخاص مقابل مسح تاريخهم الإجرامي السابق، أو الأشخاص العاطلون عن العمل الذين يعانون من أوضاع اقتصادية واجتماعية معقدة.
ونوهت الورقة إلى أن الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة تواجه عدة مشكلات، من بينها ما يتعلق بالتعريف، خاصة في ظل غياب التوافق الدولي حول مفهوم هذه الشركات. فعلى الرغم من أن الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم تعطي تعريفًا واضحًا للمرتزق؛ إلا أن هؤلاء يختلفون بشكل كبير عن الشركات العسكرية والأمنية، حيث نجد أن المرتزقة يقاتلون من أجل تحقيق مكاسب فردية وخاصة، في حين أن هذه الشركات لها اهتمامات وغايات أوسع من ذلك بكثير، خاصة في ظل علاقتها بالدولة وسعيها الدائم لبناء قاعدة من العملاء.
وأوضحت الكاتبة أن توظيف روسيا لهذه الظاهرة لم يكن حديث العهد، حيث استخدم القياصرة منذ القدم القوات العسكرية شبه الحكومية في تنفيذ عدة مهام من بينها تهدئة الاضطرابات الداخلية وحماية الحدود. ومن بين هؤلاء مجموعة “القوزاق” قبل أن يتم استهدافهم من قبل “الإرهاب الأحمر” عام 1919، ثم واصل الاتحاد السوفيتي الاعتماد بشكل كبير على الفواعل من غير الدول في الأنشطة العسكرية، حيث استخدم القادة الروس آنذاك ما يُسمى بـ”المتطوعين” إلى جانب القوات النظامية للقيام بعمليات في الخارج بغرض تحقيق مجموعة من الأهداف السياسية والعسكرية عبر توظيف تلك المجموعات في عملية القتال نيابة عن الحكومات من أجل مزيدٍ من التنافس العالمي، فضلًا عن نشر الأيديولوجيا الشيوعية ضمن أهداف روسيا في ذلك الوقت.
الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة.. حدود الدور
يوجد في روسيا العديد من الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، على الرغم من أن مثل هذه الشركات غير قانونية بموجب الدستور والقانون الروسي، حيث تحظر القوانين إنشاء الجمعيات العامة التي تشمل ضمن أهدافها إنشاء وحدات مسلحة، خاصة أن المادة 71 من الدستور تعتبر مسائل الدفاع والأمن والحرب والأمور المتعلقة بالسياسة الخارجية من المهام الأصيلة للدولة. ورغم ذلك، أشارت الكاتبة إلى وجود علاقات وطيدة بين هذه الشركات والكرملين، إلا أن عدم الشرعية القانونية لهذه الشركات يعطي روسيا ميزة كبيرة في إنكار والتنصل من كافة الاتهامات التي تُشير إلى تورطها في توظيف هذه الشركات لخدمتها.
وقد ألمحت الكاتبة إلى صعود التوظيف الروسي لتلك الشركات في ظل حكم “بوتين”، واستشهدت بتورط مواطنين روسيين في عملية اغتيال الرئيس الشيشاني الأسبق “سليم خان بندرباييف” في عام 2004، رغم نفي موسكو تورطها في هذه العملية، فضلًا عما اقترحه رئيس الأركان الروسي آنذاك “نيكولاي ماكاروف” في 2010 بضرورة استخدام الشركات الأمنية للقيام بمهام خارج البلاد. وفي أعقاب ما عُرف بموجة الربيع العربي التي بدأت في عام 2011، ارتكزت الاستراتيجية العسكرية الروسية على توظيف الشركات العسكرية الخاصة بما يتماشى مع الطبيعة المتغيرة للحروب والصراعات. وفي أوائل 2012، كشفت هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية عن إنشاء وحدة للعمليات الخاصة، وقد تم الإعلان عنها بشكل رسمي في مارس 2013، لتشمل عدة مهام خارج البلاد حسب الجنرال “فاليري غيراسيموف”. وأشارت الكاتبة إلى أن فهم حدود وطبيعة دور الشركات العسكرية الأمنية في عهد “بوتين” يرتبط بشكل كبير بتشكيل وإنشاء هذه الوحدة.
وفيما يتعلق بالتوظيف الخارجي، أكدت الكاتبة أن شركة “الفيلق السلافي” قد بدأت مهامها في سوريا عام 2013، قبل عامين من تدخل روسيا بشكل رسمي. وذكرت الكاتبة أن الشركة تم إنشاؤها خصيصًا للعمل في سوريا من قبل “مجموعة موران الأمنية”. وقد سلطت الكاتبة الضوء على الطبيعة الفريدة لمجموعة “فاغنر” Wagner Group التي يمتلكها “يفغيني بريغوجين” – المشهور بطباخ “بوتين”- باعتبارها أشهر الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة في روسيا والتي تأسست رسميًّا سنة 2014. وقد لعبت المجموعة عدة أدوار خارجية، سواء في أوكرانيا بعد ضم شبه جزيرة القرم، والتي أصبحت قاعدة تدريبية للشركات العسكرية والأمنية الخاصة، بالإضافة إلى توسيع عمل الشركات الأمنية الروسية في عددٍ من المناطق الأخرى، ومنها: سوريا، وليبيا، وفنزويلا، وكوبا، وإفريقيا الوسطى، والسودان، وغيرها من الدول، وهو ما يدل على الأهمية المتزايدة لهذه الشركات وفقًا لرؤية الكرملين بعد عام 2012، حيث تم التعويل على دور هذه الشركات في تحقيق أهداف السياسة الخارجية بتكلفة منخفضة وأدوات جديدة.
وفي السياق ذاته، أكدت الكاتبة أن تواجد “فاغنر” في سوريا قد احتل الصدارة في أعقاب الغارة الجوية الأمريكية (فبراير 2018)، بمنطقة دير الزور، والتي أسفرت عن وقوع عدد من الضحايا (200 إلى 300 شخص) كان أغلبهم من العناصر المقاتلة لدى الشركة الروسية. وقد استخدمت الكاتبة هذه العملية كدليل على الانغماس الروسي عبر الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في مناطق النزاع للعب أدوار مؤيده ومساندة للدور الروسي الرسمي.
ختامًا، خلُصت الكاتبة إلى أن الكرملين يعمل على توظيف الشركات العسكرية والأمنية الخاصة لتحقيق جزء من أهداف السياسة الخارجية الروسية، ورأت أن ظهور هذه الشركات في مناطق معينة يعني بالضرورة أن هذه المناطق تمثل أهمية بالغة في الاستراتيجية الخارجية لموسكو، خاصة أن هناك مناقشات قد طُرحت في روسيا نهاية عام 2017 تتعلق بتقنين عمل هذه الشركات، وإضفاء شرعية قانونية عليها، حيث أشار وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” (يناير 2018) إلى أن الاستخدام المتزايد للشركات العسكرية الخاصة من قبل المجتمع الدولي يحتاج إلى إصلاح تشريعي في القانون الروسي. ومع ذلك فقد حذر عدد من الخبراء العسكريين الروس من هذه الخطوة، مؤكدين أن تقنين وضع هذه الشركات يمثل خطرًا على الوضع الداخلي في روسيا، خاصة أن هؤلاء -حال عودتهم لوطنهم- يمكنهم أن يشكلوا قوة عسكرية وأداة ضغط في حالة حدوث أزمة داخلية، فضلًا عن أن تقنين هذه الشركات لن يسمح لروسيا بالتهرب من المسئولية عن أفعال هذه الشركات فيما بعد التقنين.
للاطلاع على الورقة، انظر:
Anna Borshchevskaya,” Russian Private Military
Companies: Continuity and Evolution of the
Model”, Foreign Policy Research
Institute, December 2019, Available At https://www.fpri.org/wp-content/uploads/2019/12/rfp4-borshchevskaya-final.pdf