تشهد الساحة العالمية انتشار أشكال جديدة من الأمراض والأوبئة التي سرعان ما تنتشر بين الدول بما يهدد استقرار النظام العالمي، ويكبده خسائر بشرية كبيرة، ويحمِّل الاقتصاد العالمي أعباء ثقيلة قد يحتاج إلى سنوات لتعويضها. ويلاحظ أنه مع الانفتاح الاقتصادي، وازدهار حركة التجارة الدولية وانتقال رؤوس الأموال، وتزايد انتقال الأفراد عبر الحدود الدولية؛ تزايدت حالات انتشار الأوبئة، إذ أصبح الانفتاح الاقتصادي قناة لنقل الفيروسات بين الدول، وتحولها إلى أوبئة عالمية في أيام معدودة. وتستقبل منظّمة الصحة العالمية أكثر من 5 آلاف بلاغ مبكر عن أوبئة متفشية حول العالم سنويًّا، مثل: الكوليرا، والطاعون، والحصبة، والإنفلونزا، والسارس، وإنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير، وأخيرًا فيروس كورونا. ويتحمل الاقتصاد العالمي تكلفة سنوية تتراوح بين 500 مليار دولار و570 مليار دولار بسبب الأوبئة، بما يمثل نحو 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي.
في أواخر ديسمبر 2019، شهدت مدينة ووهان (وسط الصين) تفشي فيروس كورونا، وأعلنت منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ صحية عالمية، مما دفع الصين لإعلان الحجر الصحي وتقييد الرحلات الداخلية. وتلا الصين إعلان عدد كبير من الدول ظهور حالات إصابة بالفيروس فيها. ومن جهة أخرى، اتخذت الدول التي لم يظهر فيها الفيروس إجراءات حاسمة لمنع انتقال المرض إليها، مثل: وقف رحلات الطيران من وإلى الصين، وإعلان الحجر الصحي في المطارات.
ومع بروز الصين كلاعب رئيسي في الاقتصاد العالمي (ثاني أكبر اقتصاد في العالم)، فضلًا عن ارتباط الاقتصاد الصيني بالاقتصاد العالمي بدرجة كبيرة، مما يجعل أي هزات يتعرض لها الاقتصاد الصيني ذات تبعات عالمية خطيرة، خاصة مع تزامن ظهور وانتشار الفيروس في ظل ظروف عالمية غير مواتية؛ شملت تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، وأزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي Brexit، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة الامريكية والصين. وقد دفع ذلك إلى تخفيض توقعات نمو الاقتصاد الصيني إلى 5.5% على أقصى تقدير بدلًا من 6.1%، وتوقع تراجع الاقتصاد العالمي إلى 2.1% بدلًا من 2.4% خلال عام 2020، وفقًا لتقرير النمو الاقتصادي العالمي للبنك الدولي الصادر في يناير 2020، مما يستوجب دراسة تأثير انتشار فيروس كورونا على الاقتصاد الصيني والعالمي، وتبعات ذلك على الاقتصاد المصري.
التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا على الاقتصاد الصيني
منذ إعلان منظّمة الصحة العالميّة حالة الطوارئ دوليًّا بسبب الفيروس، سادت حالة من القلق والذعر داخل الاقتصاد الصيني والمتعاملين معه. وشهدت أسواق الأسهم والبضائع بالصين تراجعًا ملحوظًا، وتوقفت العديد من المصانع عن الإنتاج، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية، وأغلقت العديد من الشركات العالمية مكاتبها وفروعها في الصين، مثل: شركة آبل، ومكتب شركة جوجل، وشركة إيكيا، وتويوتا، وغيرها، فضلًا عن توقف عدد كبير من المصانع الصينية عن الإنتاج لفترة زمنية، مما يهدد بدفع معدلات البطالة إلى الارتفاع ودخول الصين في عزلة عن دول العالم. وكذلك شهدت البورصة موجة بيع للأسهم الصينية، حيث بلغت خسائر البورصة مئات المليارات، مما دفع البنك المركزي الصيني في فبراير الماضي إلى ضخ سيولة في الأسواق المالية تقدر بنحو 173 مليار دولار من خلال عمليات إعادة الشراء العكسي لتخفيف حدة تقلبات الأسواق. ومن جهة أخرى، خصصت الحكومة الصينية 6.12 مليارات دولار للإنفاق على العلاج من فيروس كورونا، الأمر الذي ينعكس على سائر بنود النفقات العامة وعجز الموازنة.
وامتدت خسائر الاقتصاد الصيني لتشمل كافة أوجه النشاط الاقتصادي وعددًا كبيرًا من القطاعات بما فيها قطاعات الترفيه والسياحة وخدمات السفر، حيث تزامن انتشار الفيروس مع عطلة العام القمري، فبلغت خسائر صناعة السينما 50 مليون دولار أمريكي، وانخفضت الرحلات الداخلية بنسبة 40%.
وقد دفع ذلك إلى تراجع توقعات معدل نمو الاقتصاد الصيني خلال الربع الأول من العام الجاري بأكثر من نقطة مئوية ليسجل في المتوسط 4.9%. كما تنحصر توقعات النمو السنوي خلال العام الجاري بين 5.5%- 4.5%، وهو أدنى مستوى له منذ 3 عقود.
تداعيات انتشار فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي
يشكل الناتج المحلي الصيني حوالي 20% من الناتج الإجمالي العالمي، لتحتل الصين بذلك موقع ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية (24% من الاقتصاد العالمي)، ويرتبط بدرجة كبيرة مع الاقتصاد العالمي من خلال حركة التجارة وانتقال الأفراد ورؤوس الأموال، فضلًا عن دخول المكوِّن الصيني في معظم المنتجات. ومن ثمّ، فإن تعرض الاقتصاد الصيني لتهديدات انتشار الأوبئة يُشكِّل مزيدًا من الضغوط على الاقتصاد العالمي الذي كان يعاني من تباطؤ في النمو خلال الأعوام الماضية نتيجة العديد من المخاطر السياسية والاقتصادية في مختلف أنحاء العالم. ووفقًا لوكالة بلومبرج، فإن الاقتصاد العالمي مهدد بخسارة أكثر من 160 مليار دولار نتيجة تفشي كورونا حول العالم. وتتمثل محاور التأثير في التجارة العالمية والاستثمار والسياحة والنفط.
أما بالنسبة لحركة التجارة العالمية فمن المؤكد تأثرها سلبيًّا، حيث تمثل الصين أكبر دولة مصدِّرة عالميًّا. ومع انتشار الفيروس وصعوبة فحص السلع المصدرة، يُتوقع أن تنخفض صادرات الصين وواردات العديد من الدول من الصين بما ينعكس على معدلات الإنتاج والتشغيل والتصنيع في الصين، وكذلك في الدول المستوردة، خاصة تلك التي تستورد مدخلات إنتاج وسلع وسيطة. وبالفعل، فقد أعلنت شركة “هيونداي موتور” و”كيا موتورز” عن تعليق بعض خطوط التجميع للشركتين بسبب نقص بعض الأجزاء التي تُصنَّع في الصين. ومن المتوقع أن تنخفض الشحنات العالمية من الهواتف الذكية بنسبة 2% – 5% عما كان متوقعًا هذا العام، حيث تصنع الصين 70% من جميع الهواتف الذكية التي تُباع في الأسواق العالمية. ويأتي قطاع النقل البحري على رأس القطاعات المتضررة، حيث انخفضت رسوم استخدام سفن “كيب سايز” العملاقة، والتي تستخدم عادة في نقل المواد الخام مثل خام الحديد، بنسبة 90% خلال شهر يناير، وذلك وفقًا لبلومبرج، ووفقًا لأحد مؤشرات متابعة أرباح شركات النقل البحري.
بالنسبة للاستثمار العالمي؛ فمع إغلاق العديد من الشركات العالمية الكبرى لفروعها في الصين ينخفض الإنتاج العالمي، وتنخفض الأرباح المحولة، وتتزايد معدلات البطالة، وينخفض معدل النمو الاقتصادي العالمي. ومن جهة أخرى، أدى ظهور وانتشار فيروس كورونا إلى حالة من القلق والتوتر انعكست آثارها على انخفاض البورصات العالمية، التي تتأثر بدرجة كبيرة بتراجع معنويات المستثمرين والمتعاملين بالسوق في ظل الخوف من انتشار المرض وليس المرض نفسه، مما أدى إلى تراجع أسعار الأسهم الأمريكية والأوروبية والآسيوية وغيرها، وتزايد الطلب على الملاذات الآمنة مثل الذهب الذي سجل ارتفاعات تجاوزت 4%.
وفيما يتعلق بقطاع السياحة، يلاحظ أنه منذ إعلان وجود فيروس كورونا بالصين علقت العديد من شركات الطيران رحلاتها من وإلى الصين، حفاظًا على صحة المسافرين والعاملين بها، مما يؤثر بلا شك على قطاع السياحة بالصين وبالعديد من الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة، حيث يمثل السائحون الصينيون نحو 7% من إجمالي حركة السياحة الوافدة إلى البلاد. وقد جاءت تلك الأحداث خلال الاحتفال برأس السنة الصينية الذي يُعتبر أحد أهم المواسم السياحية في الصين لتقدر الخسائر المتوقعة للقطاع بنحو 5.8 مليارات دولار، حيث يعد السياح الصينيون الأكثر إنفاقًا على السلع الفاخرة في العالم. كما أعلنت المملكة العربية السعودية إلغاء تأشيرات رحلات العمرة مما يكبدها خسائر كبيرة، خاصة مع اقتراب شهر رمضان، وتزايد رحلات السياحة الدينية بالمملكة.
أما بالنسبة لقطاع النفط، فتمثل الصين ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها أكبر مستورد له، مما يعني تأثر سوق النفط بدرجة كبيرة بما يمثل خطرًا اقتصاديًّا كبيرًا على الصين وخارجها، خاصة في ظل تراجع الطلب على وقود الطائرات. فمع تراجع الطلب على النفط بدرجة كبيرة، تنخفض أسعاره، بما يمثل تهديدًا للدول المصدِّرة للنفط، خاصة دول الخليج العربي التي توجه جزءًا كبيرًا من إنتاجها من المواد البترولية إلى الصين. وتقدر وكالة بلومبرج الأمريكية انخفاض الطلب من الصين بنحو 3 ملايين برميل نفط في اليوم، أو ما يعادل 20% من الاستهلاك، والذي يمثل الانخفاض الأكبر في سوق النفط منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. وقد يدفع ذلك الدول المصدِّرة للنفط إلى تخفيض إنتاجها بدرجة كبيرة لتعويض انخفاض الطلب والحد من تراجع الأسعار بدرجة كبيرة.
تداعيات انتشار فيروس كورونا على الاقتصاد المصري
في ظل انتشار فيروس كورونا وتهديده الاقتصاد الصيني والعالمي، وتأثيره على عددٍ من القطاعات المهمة كالتجارة والاستثمار والسياحة والنفط، فمن غير المتوقع أن يظل الاقتصاد المصري بمعزل عن الأحداث الاقتصادية العالمية الكبرى. فمع توقف بعض أنشطة الإنتاج في الصين، وتراجع حركة التجارة الخارجية، ستنخفض الواردات المصرية من الصين، والتي تمثل أكبر مورد لمصر، حيث بلغت الواردات الصينية 15% من إجمالي واردات مصر في يناير 2020. ومع انخفاض الواردات، خاصة من المواد الخام والسلع الوسيطة، ينخفض الإنتاج والتشغيل، وترتفع معدلات التضخم. وعلى الرغم من ارتفاع معدل التضخم في يناير 2020 إلى 2.7% مقارنة بـ2.4% في ديسمبر 2019، إلا أنها ما زالت نسبة ضئيلة لم تنعكس على سياسة التيسير النقدي التي يتبعها البنك المركزي المصري. من جهة أخرى، نجد أن الاقتصاد المصري يتمتع بالصلابة في ظل وجود عدة عوامل جاذبة للاستثمار، من أهمها البنية التحتية القوية، وقانون للاستثمار داعم لبيئة الأعمال، واتساع السوق المحلية، وتعدد الاتفاقيات التجارية مع العديد من الدول والتكتلات الاقتصادية. وتمكن تلك العوامل من تحويل مخاطر انخفاض الواردات الصينية إلى فرصة حقيقية لتوجه عناصر الإنتاج المحلية إلى التصنيع والإحلال محل الواردات، وكذلك التوسع في التصدير، وتشجيع استهلاك المنتج المحلي.
ختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من التهديدات الاقتصادية الكبيرة الناتجة عن انتشار الأوبئة والفيروسات عالميًّا، إلا أن حجم هذه التهديدات يرتبط بمدى قدرة الدول على الحد من انتشارها، والذي يتوقع أن يكون ليس بالبعيد في ظل التطورات الهائلة في الرعاية الصحية في العصر الحديث في العديد من دول العالم. ومن المتوقع أن تتعافى أسواق المال بشكل أسرع من أسواق السلع، إذ إن استجابة أسواق السلع تتم بشكل أبطأ، ويستغرق استعادتها لنشاطها وقتًا أطول وتكلفة أكبر. وقد أوضحت تلك الأزمة عدم صلابة الاستقرار الاقتصادي العالمي الذي سرعان ما اختل وتأثرت جميع قطاعاته في مختلف أنحاء العالم، وإن كان لتوقيت ظهور الفيروس دور كبير في ذلك. من جهة أخرى، فقد أظهرت الأزمة مدى الارتباط بين الاقتصاد الصيني والاقتصاد العالمي وتأثيرها على مختلف دول العالم من خلال تصديرها السلع الوسيطة والمواد الخام لتمثل بذلك المحرك الرئيسي لقطاع الصناعة في العديد من الدول، الأمر الذي يمثل جرس إنذار لتلك الدول لاستغلال أكفا لمواردها الاقتصادية المحلية في إشباع احتياجات مواطنيها، وتحريك الاقتصاد المحلي.