مثّلت أزمة “كورونا المستجد” إحدى أهم المشكلات الكبيرة التي واجهتها إسرائيل خلال السنوات الأخيرة في ضوء تصاعد عدد الإصابات (تقترب من ثلاثة آلاف وخمسمائة حالة) والوفيات (أكثر من 12 حالة) حتى يوم 28 مارس الحالي، مما دفع حكومة تسيير الأعمال برئاسة “نتنياهو” إلى اتخاذ قرارات متعددة ومتشددة وإجراءات طوارئ لوقف هذا التصاعد الخطير في الأزمة دون وجود دلائل على إمكانية احتوائها خلال الفترة القريبة القادمة. وإذا كانت لهذه الأزمة تداعيات سلبية مستقبلية في مجالات مختلفة، أهمها المجالان الاقتصادي (خاصة البطالة) والصحي (عدم استعداد النظام الصحي لمواجهة هذه الأزمات)؛ إلا أن التأثيرات السياسية الداخلية للأزمة باتت شديدة الوضوح، خاصة بالنسبة لجهود تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة.
وإذا كانت التأثيرات العامة لهذه الأزمة قد تبدو طبيعية في ظل معاناة العديد من دول العالم من جراء آثارها، إلا أن الأمر الملفت للنظر والذي يجب الوقوف عنده كثيرًا يتمثل في التحول السياسي المفاجئ الذي حدث من جراء هذه الأزمة، وكيف عكست تأثيراتها غير المتوقعة، سواء على مسألة تشكيل الحكومة التي عهد الرئيس الإسرائيلي “رؤوفين ريفلين” لزعيم حزب أزرق أبيض “بيني جانتس” بتشكيلها، أو على المستقبل السياسي لزعيم الليكود “بنيامين نتنياهو” والمصير الذي سيواجهه بعد إدانته في عدة قضايا فساد.
وتجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من حصول الليكود على 36 مقعدًا، ووصول كتلة اليمين مجتمعة إلى 59 مقعدًا، إلا أن رئيس الدولة قام بتكليف “بيني جانتس” الحاصل على 33 مقعدًا بتشكيل الحكومة، وذلك بعد أن أوصى 61 عضو كنيست لرئيس الدولة بتزكية “جانتس” لهذه المهمة (هذه الكتلة مكونة من كل من أزرق أبيض، واليسار، وليبرمان، والقائمة العربية). وقد بدأ بالفعل “جانتس” مشاوراته الحزبية مؤخرًا من أجل استكشاف فرص التشكيلة الجديدة لحكومته، والأحزاب التي ستشارك معه في الائتلاف، وحصة كل منها في المناصب الوزارية التي سيتم توزيعها عليهم.
وبالتوازي مع ذلك، فقد لوحظ حرص رئيس الدولة (الليكودي) على أن يؤكد خلال فترات كثيرة أهمية ألا تتجه الأمور إلى انتخابات رابعة للكنيست، وبالتالي طالب بتشكيل حكومة وحدة وطنية قوية قادرة على قيادة إسرائيل، ومواجهة التحديات التي تواجهها. ثم اتجه بعد ذلك إلى الدفع في اتجاه تشكيل حكومة طوارئ في أعقاب انتشار وتصاعد أزمة الكورونا تحت مبرر أن الوضع الحالي أصبح يتطلب التعاون والتضافر بين الحزبين الكبيرين (الليكود وأزرق وأبيض). ومن هنا تم التأسيس لفكرة التنسيق والتفاوض من جديد بين “نتنياهو” و”جانتس” من أجل أن يتفقا على تشكيل حكومة تجمع حزبيهما بصفة أساسية (69 مقعدًا) كما تسمح بضم أحزاب أخرى على استعداد للمشاركة في الحكومة.
من هذا المنطلق، التقط “نتنياهو” هذا التوجه ليؤكد تأييده الكامل بل واستعداده لاتخاذ كل الخطوات العملية لوضع هذا التوجه موضع التنفيذ. وبدأ الدخول في مفاوضات سرية مع “بيني جانتس” لم تستغرق وقتًا طويلًا أسفرت عن حدوث تغيير حاد في مواقف “جانتس” الذي انتهى به الأمر إلى الموافقة على صفقة لم تُعلن رسميًّا كافة تفاصيلها حتى الآن، ولكن بدأ تنفيذها فعليًّا بتولي “جانتس” يوم 26 مارس الجاري رئاسة الكنيست بالانتخاب مدعومًا بأصوات اليمين كمرحلة أولى يعقبها تفعيل عمل الكنيست ولجانه المختلفة، ثم الدخول في مرحلة تالية في مفاوضات تشكيل الحكومة مع “نتنياهو”، وهو الأمر الذي أدى إلى حدوث انشقاق كبير في تحالف أزرق أبيض، وانفصال كل من “يائير لابيد” و”موشيه يعلون” عنه، واعتزامهم قيادة المعارضة في الكنيست باعتبارهما الحزب الذي سيكون لديه أكبر الأصوات (من 17 – 18 مقعدًا) بعد أن يندمج كل من الليكود و”جانتس” في حكومة وحدة وطنية أو حتى حكومة طوارئ.
ومن المؤكد أن “نتنياهو” كان على قناعة بأنه لا يزال يمتلك العديد من الأدوات التي تُمكّنه أولًا من الهرب من مسألة محاكمته التي تأجلت بسبب أزمة الكورونا (تكرار محاولاته للتدخل في القضاء والعملية التشريعية)، ثم القفز على رئاسة الوزراء مرة أخرى. وأهم هذه الأدوات هي:
– خبرته السياسية الطويلة وقدرته على الحفاظ على تماسك كتلة اليمين البالغ عدد مقاعدها 59 مقعدًا، وبما لا يسمح لـ”بيني جانتس” باختراقها، وجذب أي من أعضائها إلى الائتلاف الحكومي الجديد.
– قدرته على استثمار أزمة كورونا في إقناع الرأي العام الإسرائيلي بأن الظروف التي تمر بها الدولة تفرض وجود حكومة قوية برئاسته قادرة على مواجهة مخاطر هذه الأزمة وتأثيراتها.
– امتلاك “نتنياهو” كافة أوراق التعامل مع أزمة كورونا، وأن يكون هو شخصيًّا وبعض الأجهزة الأمنية من يتحكمون في مقدرات الأزمة، الأمر الذي أدى إلى زيادة شعبيته طبقًا لآخر استطلاعات الرأي.
– استمرار تمسكه بمواقفه السياسية المعروفة، خاصة مسألة ضم غور الأردن، واعتزامه طرح هذا الأمر في الكنيست قبل إعلان تشكيل الحكومة الجديدة من أجل أن يضغط على “جانتس” ويجبره على اتخاذ الموقف نفسه، ومن ثم يؤثر على تماسك الوضع داخل التكتل الذي يقوده “جانتس” وخاصة موقف القائمة العربية المشتركة التي ترفض بشكل قاطع أية محاولات لضم منطقة الأغوار.
وفي الجانب المقابل، انتهج “بيني جانتس” أسلوبًا مغايرًا ومفاجئًا خلافًا لما كان قد التزم به طوال الفترة السابقة، وبصفة خاصة اتفاقه مع الائتلاف الذي يترأسه ومع كتلته التي قامت بتزكيته لتشكيل الحكومة بعدم الانضمام لحكومة وحدة وطنية ما دام “نتنياهو” زعيمًا لليكود، وأن أحد الأهداف الرئيسية التي تجمعهم هي إبعاد وإسقاط “نتنياهو”، بل وسن القوانين التي تحول دون توليه رئاسة الوزراء، وبالتالي يكون مصيره السجن. ومن هنا يثور التساؤل حول طبيعة الأسباب التي دفعت “جانتس” إلى تغيير مواقفه. وفي هذا المجال نشير إلى ما يلي:
– أن أزمة كورونا أصبحت تمثل الأولوية الأولى لدى الرأي العام الإسرائيلي، ومن ثم فقد رأى “جانتس” أن جهوده لتشكيل الحكومة قد تبوء بالفشل مما قد يؤدي برئيس الدولة إما إلى إعادة تكليف “نتنياهو” أو التوجه لانتخابات رابعة للكنيست، وهو الأمر الذي لا يضمن معه “جانتس” الحصول على نفس عدد المقاعد التي حصل عليها (33 مقعدًا) لا سيما مع البدء في تراجع شعبيته طبقًا لآخر استطلاعات الرأي وبما قد ينهي مستقبله وطموحه السياسي.
– أن الرأي العام الإسرائيلي لا يزال يفضل أن يتم تشكيل حكومة وحدة وطنية بين “نتنياهو” و”جانتس”. كما أن كافة الاستطلاعات تؤكد تفضيل المواطن الإسرائيلي لنتنياهو كرئيس للوزراء بنسب أكبر من “جانتس”.
– عدم ثقة “جانتس” في موقف رئيس حزب (إسرائيل بيتنا) “أفيجدور ليبرمان” الذي من المؤكد أنه كان سيثير العديد من العقبات، ويطرح الكثير من المطالب التعجيزية كشرط لانضمامه للحكومة.
– قناعة “جانتس” بأن حكومة جديدة برئاسته تحظى بثقة 61 عضو كنيست فقط ستكون حكومة أقلية ضعيفة لن تصمد أمام المعارضة القوية التي سيقودها “نتنياهو” أو الليكود، وبالتالي قد لا تمكث الحكومة الجديدة إلا فترة وجيزة يتم بعدها اللجوء لانتخابات رابعة خلال عام.
– إدراك “جانتس” أن اعتماده على دعم القائمة العربية المشتركة (15 مقعدًا) لاقى العديد من الانتقادات من جانب أحزاب يمينية ودينية. كما أنه يعلم أن تحالفه مع القائمة لن يمكث كثيرًا وسينهار فور اتخاذه أي موقف سياسي متشدد تجاه القضية الفلسطينية، خاصة ضم غور الأردن، حيث يعتزم تنفيذ هذا الإجراء تمشيًا مع مواقفه المعلنة ومع “صفقة القرن”.
وبالتالي، أصبح المناخ الداخلي مهيأ أمام حدوث التغيير المطلوب، وبدأت عملية التفاوض والصفقات تتوالى بين “نتنياهو” و”جانتس”، حيث تم الضغط على رئيس الكنيست السابق الليكودي المتشدد “يولي أدلشتاين” للاستقالة طبقًا لقرار قضائي كان يعتزم عدم تنفيذه لإنقاذ “نتنياهو” مما أثار العديد من الانتقادات حول عدم احترام القيادات الإسرائيلية، بمن فيهم “نتنياهو” نفسه، لقرارات المحكمة العليا التي وصف أحد قضاتها مسألة التدخل في قراراتها وعدم تنفيذها بأنه “وباء دستوري شديد”، إلا أن هذا الأمر قد انتهى بانتخاب “جانتس” رئيسًا للكنيست بدلًا من “أدلشتاين”.
ومن المتوقع أن تبدأ خلال فترة قريبة مفاوضات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي ستكون أهم معالمها طبقًا لما رصدناه حتى الآن ما يلي:
– أن يترأس “نتنياهو” رئاسة الوزراء أولًا لمدة عام ونصف، ثم يتولاها “جانتس” بعد ذلك (يونيو 2021)، على أن يتولى “جانتس” في الحكومة الجديدة منصب القائم بأعمال رئيس الوزراء ووزير الخارجية، ويتولى وزير الخارجية الحالي “إسرائيل كاتس” منصب وزير المالية.
– حصول حزب “جانتس” (الذي أصبح يمتلك حاليًّا عدد 15 مقعدًا بعد انشقاق لابيد ويعلون) على العديد من الوزارات من بينها الاقتصاد والثقافة والإعلام.
– حصول رئيس الأركان الأسبق “جابي أشكنازي” على منصب وزير الدفاع على أن يعود الوزير الحالي “نفتالي بينيت” لتولي منصب وزير التعليم.
– الترتيب لعودة “يولي أدلشتاين” (أحد رجال نتنياهو الأقوياء) لرئاسة الكنيست مرة أخرى بعد تشكيل الحكومة ضمانًا لعدم تمرير أية قرارات ضد “نتنياهو”.
– تولي أحد أعضاء حزب “جانتس” منصب وزير العدل، على أن يكون ذلك بالتوافق التام بين “نتنياهو” و”جانتس” في ضوء أهمية هذا المنصب وتأثيره على موضوع محاكمة “نتنياهو”.
في ضوء ما سبق وفي ظل المعطيات الحالية المرصودة حتى الآن، يمكن القول إن أزمة كورونا مثلت لـ”نتنياهو” طوق النجاة من المحاكمة، بل وإمكانية استمراره في منصب رئيس الوزارء للمرة الخامسة، مستثمرًا أيضًا ضعف الخبرة السياسية لـ”بيني جانتس” وقدرته على احتوائه، ومنحه بعض المناصب التي تُرضي غروره. وفي رأيي فإن حكومة الوحدة الوطنية القادمة برئاسة “نتنياهو” سوف تمثل استمرارًا لنفس نهج الحكومات السابقة التي لن تكون لعملية السلام أولوية في أجندتها، خاصة وأنها ستتجه فور تشكيلها إلى تنفيذ خطة السلام الأمريكية وعلى رأسها ضم منطقة غور الأردن ورسم خريطة جديدة لإسرائيل تحقق لها أمنها وأهدافها على حساب الحقوق الفلسطينية.
وإذا كانت هذه هي الصورة العامة للتطورات الداخلية في إسرائيل ومدى ما وصلت إليه جهود تشكيل الحكومة الجديدة، فمن الضروري مواصلة متابعة تأثيرات أزمة الكورونا على الموقف الإسرائيلي بصفة عامة خاصة مع تزايد حدة هذه الأزمة وتصاعد عدد المصابين والوفيات بشكل مستمر ومدى ما يشكله هذا المتغير من نجاح لنتنياهو في امتلاك زمام الأمور، أم إن الأمر يمكن أن يخرج عن سيطرته إذا ما تفاقمت الأزمة بشكل غير مسبوق وغير محسوب، وإن كانت كل المؤشرات تشير حتى الآن إلى أن إدارة “نتنياهو” للأزمة لا تزال تلقى ترحيبًا من الرأي العام الإسرائيلي.