حتى بداية شهر مارس الماضي لم تكن هناك أي توقعات تُشير إلى احتمال انتشار كورونا على أراضي الولايات المتحدة بشكل وبائي، فالجهات المنوط بها متابعة ومكافحة هذا المرض المستجد، وعلى رأسها خلية العمل التي دشنها الرئيس الأمريكي بقيادة نائبه “مايك بينس” والمسماة White house Coronavirus task force، كانت دائمًا ما تبعث برسائل طمأنة حول الاستعدادات الأمريكية التي ستؤدي إلى تحييد COVID-19. وقد انعكست تلك الحالة من الطمأنينة على تصريحات الرئيس “ترامب” نفسه، الذي وقف أمام الشعب الأمريكي في 11 مارس الماضي ليؤكد أن الفيروس لن يقف في وجه الأمة الأمريكية، وأن الولايات المتحدة مستعدة أكثر من أي دولة حول العالم لمواجهته. ليتضح بعد ذلك بأيام معدودة أن حالة الطمأنينة التي سادت الولايات المتحدة لم يكن لها أساس، فالولايات المتحدة غرقت بشكل غير متوقع في مستنقع وباء كورونا، حيث بلغت أعداد المصابين بالفيروس حتى يوم 26 مارس 2020 أكثر من 85300 حالة (انظر شكل رقم 1)، وذلك وفق إحصاءات وزارة الخدمات الصحية والبشرية الأمريكية، لتتفوق الولايات المتحدة في ذلك اليوم على جمهورية الصين التي لم تسجل سوى 82000 حالة، وهو ما أدى لأن تصبح الولايات المتحدة الدولة الأولى عالميًّا في معدل الإصابة بفيروس COVID-19 المستجد

المصدر: الإحصاءات الرسمية للمراكز الأمريكية للوقاية والسيطرة على الأمراض “Centers of diseases control and prevention“.
الوباء المستشري في كل أنحاء الولايات المتحدة أحدث أضرارًا كبيرة، لكنه لم يضرّ أي ولاية أمريكية بالشكل الذي أضر به ولاية نيويورك، التي تضم في شقّها الجنوبي عاصمة المال والاقتصاد في الولايات المتحدة، المعروفة بالاسم نفسه “مدينة نيويورك” New York City (انظر الخريطة رقم 1). وقد أصبحت الولاية -وفق تقديرات السلطات الصحية الأمريكية- بؤرة للوباء، وذلك بعدما استحوذت على 45% من جملة الإصابات بكورونا على مستوى الولايات المتحدة، ليشار على إثرها إلى مدينة نيويورك على أنها مركز تلك البؤرة الوبائية، ليدفع هذا الأمر بالرئيس “ترامب” إلى إعلان حالة الطوارئ الشاملة في الولاية المنكوبة في 25 مارس الماضي.
خريطة رقم (1): تقسيم ولاية نيويورك بين الشق الجنوبي الذي يضم مدينة نيويورك، والشق الشمالي الذي يضم أغلب المقاطعات

الأزمة تسيطر على ولاية نيويورك
تم تسجيل أول حالة مصابة بفيروس كورونا داخل ولاية نيويورك في مطلع شهر مارس الماضي، وتحديدًا في مدينة نيويورك. ومنذ هذا اليوم أخذت أعداد المصابين في الارتفاع بمعدل وُصف في حينها بالمتوسط، لكن الوضع تصاعد بشكل خطير بعد 15 مارس (انظر شكل رقم 3)، حيث شهدت الولاية زيادات في أعداد المصابين قُدرت بالآلاف يوميًّا، وكان معظمها في داخل مدينة نيويورك، في حين لم تشهد باقي مقاطعات الشق الشمالي من الولاية Up state area سوى حالات قُدرت بالعشرات أو المئات على أكثر تقدير.
وإزاء هذا التنامي في أعداد الإصابات، اتخذ حاكم الولاية “أندرو كومو” Andrew Cuomo قرارًا في 15 مارس بتعليق الدراسة لمدة 15 يومًا، ثم امتد هذا التعليق لـ15 يومًا إضافية مع تصاعد أعداد الحالات المصابة، ليتبع ذلك القرار إعلان حالة الطوارئ على مستوى كل مقاطعات الولاية.
لكن الحاكم “كومو” اتخذ في وسط تلك الأحداث قرارًا غير موفق، حينما رفض تطبيق الحجر الصحي على مدينة نيويورك في 17 مارس الماضي، بالرغم من استحواذ المدينة على 67% من جملة الإصابات في الولاية. فقد فضل الحاكم تجنب غلق مؤسسات الأعمال، لتجنب انقطاع إيرادات الضرائب عن الولاية، والتي قدرها مكتب المراقبة المالية التابع لولاية نيويورك في عام 2019 بـ75 مليار دولار سنويًّا[1]. فضلًا عن عدم رغبته في الإضرار بسوق المال الذي فَقَدَ بالفعل منذ أول مارس 20% من قيمته.
لكن مع تفاقم أعداد المصابين بالمدينة، والتي وصلت في 20 مارس إلى 5683 حالة، عاد “كومو” لمحاولة تدارك الموقف، فأصدر قراره بإلزام جميع الشركات بإبقاء العمالة غير الأساسية بمنازلهم، كما أصدر قرارًا بحظر التجول Stay at home، وذلك لتقليص حركة المواطنين إلى حدودها الدنيا، فلا يسمح لهم بالتجول في المدينة إلا لقضاء الحاجيات الأساسية كشراء الدواء والطعام، كما مُنعت بمقتضى هذا القرار كافة التجمعات غير الضرورية، مثل: إقامة الحفلات، والشعائر الدينية، والرياضات الجماعية.

المصدر: النشرات اليومية الصادرة عن مكتب حاكم ولاية نيويورك، ومكتب عمدة مدينة نيويورك حول تطورات حالة الوباء.
أسباب أدت للوضع الوبائي الراهن
هناك مجموعة من الأسباب التي تُفسّر لنا هذا الانتشار الضخم للوباء، الذي يتمركز في معظمه داخل مدينة المال والاقتصاد (نيويورك).
1- حركة النقل الجوي الدولية
حركة السفر الجوي والمطارات هي أول العوامل التي تسببت في جلب وباء كورونا إلى ولاية نيويورك، فوفقًا للتقديرات التي أجرتها هيئة الموانئ The Port Authority of New York and New Jersey في عام 2019 المنصرم، تبين أن المطارات الأربعة التي تخدم الشق الجنوبي للولاية، تستقبل سنويًّا أكثر من 140 مليون راكب، نصفهم تقريبًا من مستخدمي الخطوط الدولية، كما تخدم تلك المطارات الأربعة 225 وجهة دولية ومحلية. ويُلاحَظ أنه قبل إعلان الإدارة الأمريكية عن قيود السفر، سواء على دول آسيا أو أوروبا المصابة بالفيروس، كانت حركة الركاب تسير بشكل طبيعي جدًّا، مما تسبب في دخول أعداد غير محددة من مصابي الفيروس إلى أراضي الولاية.
كما يُتوقع أن حالات التكدس التي شهدتها مطارات نيويورك في منتصف شهر مارس الماضي، وذلك بعد بداية تطبيق قيود السفر على أوروبا، كان لها دورها في زيادة انتشار الوباء، خاصة أن الآلاف من المواطنين اضطروا للانتظار في صالات ضيقة لإجراء الفحص الطبي قبل دخولهم البلاد، وهو ما تسبب في تناقل العدوى بينهم. ومن المتوقّع أن تظهر آثار الإصابة على المواطنين الذين كانوا في وسط تلك الحادثة خلال الأيام الأولى من شهر أبريل الجاري.
2- ارتفاع معدلات تزاحم السكان
رصدت الإحصاءات الرسمية في الولاية أن أعداد الإصابات تفاقمت بشكل استثنائي في الشق الجنوبي، خاصة في مدينة نيويورك، والسبب وراء ذلك هو التزاحم السكاني الشديد في تلك المنطقة، فالتزاحم هو بيئة مناسبة لانتشار فيروس كورونا الذي ينتقل عن طريق التنفس والمخالطة البشرية القريبة، سواء في مقرات العمل أو المواصلات والأماكن العامة وحتى المنازل، ويوضح الشكل (رقم 3) التوازي في ارتفاع الكثافة السكانية في مناطق الشق الجنوبي للولاية مع ارتفاع حالات الإصابة بالمرض بالمناطق ذاتها.
الارتفاع في وتيرة الإصابات دفع مسئولي الصحة في الولاية إلى الاعتقاد بأن الوباء ستكون له فترة ذروة قريبة، وأن فترة الذروة هذه ستقع في وقتٍ ما في الفترة من يوم 7 إلى يوم 20 من شهر أبريل الجاري، لذلك وضعت الحكومة المحلية استراتيجية للتعامل مع الوباء من شقين؛ أولهما التخفيف من تصاعد الحالات المصابة عن طريق تقليل التواصل المباشر بين المواطنين، وثانيهما تجهيز أكبر عدد ممكن من الأسرّة الطبية لاستقبال الحالات التي ستتزايد خلال الفترة القادمة. هذه الاستراتيجية وُضعت على الرغم من قناعة المسئولين -وعلى رأسهم الحاكم “أندرو كومو”- بأن الوباء سيضرب بقوة كبيرة، وأن العواقب ستكون غير متوقعة.
الارتفاع في وتيرة الإصابات دفع مسئولي الصحة في الولاية إلى الاعتقاد بأن الوباء ستكون له فترة ذروة قريبة، وأن فترة الذروة هذه ستقع في وقتٍ ما في الفترة من يوم 7 إلى يوم 20 من شهر أبريل الجاري، لذلك وضعت الحكومة المحلية استراتيجية للتعامل مع الوباء من شقين؛ أولهما التخفيف من تصاعد الحالات المصابة عن طريق تقليل التواصل المباشر بين المواطنين، وثانيهما تجهيز أكبر عدد ممكن من الأسرّة الطبية لاستقبال الحالات التي ستتزايد خلال الفترة القادمة. هذه الاستراتيجية وُضعت على الرغم من قناعة المسئولين -وعلى رأسهم الحاكم “أندرو كومو”- بأن الوباء سيضرب بقوة كبيرة، وأن العواقب ستكون غير متوقعة.

المصدر: المكتب الأمريكي للتعداد – الإحصاءات المنشورة لكثافة السكان. مكتب حاكم نيويورك – النشرة اليومية الخاصة بانتشار فيروس كورونا.
3- المرافق الصحية أضعف من أن تواجِه الوباء
تواجه المرافق الصحية في ولاية نيويورك أزمة بسبب تزايد أعداد المصابين بفيروس كورونا. فمحدودية عدد الأسرّة الطبية، وقلة عدد موظفي الرعاية الصحية، بالإضافة إلى محدودية توفر المستلزمات الطبية المطلوبة لمواجهة الوباء؛ يضع مستشفيات الولاية في موقف لا تحسد علية. ولقد بدأت بوادر تلك الأزمة في الوضوح مع اضطرار المستشفيات لتحويل قرابة 85% من مصابي الوباء إلى العزل المنزلي، والاكتفاء برعاية الحالات الحرجة فقط التي قُدرت في 28 مارس الماضي بـ7328 حالة، وذلك في محاولة من مسئولي الصحة بالولاية للتخفيف من على كاهل المنشآت الطبية التي تعانى أساسًا من ضغط كبير من قبل ظهور أزمة كورونا.
التزايد اليومي في أعداد المصابين دفع بالحاكم “أندرو كومو” إلى اتخاذ قراره بإنشاء عددٍ من المستشفيات المؤقتة في كل أنحاء مدينة نيويورك. كما قام بطلب تعبئة قوات الحرس الوطني التابعة للولاية في محاولة للسيطرة على الأزمة. ولعدم وجود كفاية في العمالة الطبية من أجل مواجهة الفيروس، ناشد الحاكم “كومو” المواطنين للتطوع للعمل في المستشفيات خلال الفترة القادمة، في حين تُناضل الحكومة المحلية للولاية من أجل الحصول على الآلاف من أجهزة التنفس الصناعي، التي وصفها الحاكم “كومو” بأنها ستكون أساسية للحفاظ على الآلاف من أرواح المصابين المحتملين بالفيروس خلال الأيام القادمة.
ولاية نيويورك تستعد الآن لتصاعد أزمتها مع فيروس كورونا، وللأسف فإن تصاعد الأزمة يعني وقوع المزيد من المصابين والضحايا، بالإضافة إلى خسارةٍ اقتصاديةٍ يصعب تعويضها، وهو ما يتطلب من الإدارة الفيدرالية وباقي الولايات أن تُعزز دعمها للولاية المنكوبة.
[1]URL: https://www.osc.state.ny.us/finance/finreports/fcr/2019/appendix-3.htm
باحث أول ببرنامج السياسات العامة