يُمثّل الاتفاق الذي وقّعه كل من “بنيامين نتنياهو” و”بيني جانتس”، مساء يوم 20 إبريل الجاري، بشأن تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وبالتالي عدم التوجه لانتخابات رابعة؛ ظاهرة كاشفة عن العديد من الأمور المرتبطة بالحياة السياسية في إسرائيل، وأهمها ما يلي:
1- أن غالبية توجهات المجتمع الإسرائيلي تتراوح بشكل كبير وواضح بين اليمين المتطرف واليمين، ومن ثم لا مجال للوسط الإسرائيلي أو لليسار، أو أن تكون له وضعية مميزة أو تأثير سياسي خلال فترة طويلة قادمة.
2- أن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” سوف يُحقق إنجازًا غير مسبوق عندما يتولى رئاسة الحكومة الجديدة للمرة الخامسة في حياته السياسية. ليس ذلك فقط، وإنما يؤكد بذلك أنه لا يزال الشخصية الأولى على مستوى الرأي العام الإسرائيلي لشغل هذا المنصب بالرغم من اتهامه المباشر في العديد من قضايا الفساد، لا سيما وأن الشارع الإسرائيلي يبدي رضاه عن سياسته وإدارته في التعامل مع أزمة كورونا.
3- أن الحديث عن أن إسرائيل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط هي مقولة غير صحيحة. وخير مثال على ذلك أن “نتنياهو” تحرك منذ فترة بشكل قوي ضد القانون، وتدخل في أعمال القضاء بطريقة سافرة من أجل ألا يخضع للمحاكمة، وأن يظل رئيسًا للوزراء، مستثمرًا في ذلك تأييد الشارع اليميني له، وقدرته على تحريك هذا الشارع لصالحه مهما كانت النتائج.
3- هناك غياب واضح لجيل القيادات الإسرائيلية التي تتميز بالكاريزما والتي يمكنها أن تقود إسرائيل في مرحلة ما بعد “نتنياهو”، خاصة أن فكرة بزوغ نجم مجموعة من الجنرالات الإسرائيليين السابقين ودخولهم الحلبة السياسية، وعلى رأسهم رئيس الأركان الأسبق “بيني جانتس” ومعه كل من الجنرالين “جابي أشكنازي” و”موشيه يعلون”، لم تلقَ النجاح المتوقع، وفشلت كل الأفكار لإعادة استنساخ شخصيات استراتيجية مثل رئيس الوزراء الأسبق “يتسحاق رابين”.
وبالنظر لمسألة توزيع المناصب بين كل من الليكود (36 مقعدًا) وحزب “بيني جانتس” (الحصانة لإسرائيل 15 مقعدًا) وبمشاركة أحزاب أخرى يمينية ودينية (أرض إسرائيل وشاس ويهودية التوراة) ويسارية (العمل)، فإنه يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:
1- أن مدة عمل الحكومة الجديدة ستكون ثلاث سنوات، وتسمى حكومة طوارئ، ثم من المفترض أن تتحول إلى حكومة وحدة وطنية بعد انتهاء أزمة وباء كورونا، وسيتولى “نتنياهو” منصب رئيس الوزراء أولًا لمدة عام ونصف (أي حتى نهاية 2021)، على أن يتناوب معه “بيني جانتس” لمدة عام ونصف أخرى.
2- أن “بيني جانتس” سيتولى -بعد تصديق الكنيست على الحكومة- منصب رئيس الوزراء بالإنابة مع تحصين منصبه من خلال النص على عدم منح “نتنياهو” الحق في عزله من هذا المنصب.
3- أن الحكومة الجديدة الموسعة سوف تتشكل من 36 وزيرًا و16 نائب وزير. وقد تم توزيع الحقائب الوزارية مناصفة بين الحزبين، مع تولي “جانتس” منصب وزير الدفاع مؤقتًا. كما يتولى رئيس الأركان السابق “جابي أشكنازي” منصب وزير الخارجية، وسيتم تبادل المناصب بينهما خلال فترة وجيزة مع احتفاظ الليكود بوزارة المالية.
2- نجاح “نتنياهو” في جذب حزب العمل (ذي التوجهات اليسارية) للمشاركة في الحكومة وإغرائه بمنحه منصبين وزاريين (وزارة العمل وسيتولاها “عمير بيرتس” ووزارة الرفاه).
3- نجاح “نتنياهو” في تحصين منصبه أيضًا خلال فترة رئاسته للوزارة من خلال النص على بند مفاده أنه في حالة قيام أحد الطرفين (نتنياهو أو جانتس) بمحاولة إسقاط الحكومة أو عدم التصويت لصالح الميزانية أو حل الكنيست؛ فإن رئيس الحزب المنافس سوف يشغل منصب رئيس الحكومة فور أن يتم إجراء الانتخابات بعد ستة أشهر من تاريخ حل الكنيست.
4- أن قانون يهودية الدولة الذي صدق عليه الكنيست في 17 سبتمبر 2017، لن يتم تغييره، وبالتالي لن يتم إصدار أي قانون يتعارض مع قانون القومية اليهودية.
5- قدرة “نتنياهو” على استثمار أزمة كورونا لصالحه، وكذا استثمار ضعف الخبرة السياسية لجانتس في تفكيك ائتلافه (أزرق أبيض) واحتوائه ودفعه إلى تبني كل مواقف الليكود، وهو ما قد يُنبئ بأن مستقبل “جانتس” السياسي أصبحت عليه علامات استفهام كثيرة رغم ما يمنحه له هذا الاتفاق من مناصب له ولحزبه.
6- أن أحد الجوانب السلبية المرتبطة بهذا الاتفاق يتمثل في إمكانية التفكك الجزئي للتكتل اليميني الذي نجح “نتنياهو” في جعله متماسكًا لفترة طويلة، حيث أبدى “نفتالي بينيت” -زعيم حزب البيت اليهودي- معارضته للانضمام للائتلاف الحكومي بهذا التشكيل المعلن، وإن كان “نتنياهو” يسعى إلى الضغط عليه لإثنائه عن التمسك بهذا التوجه.
7- نجاح “نتنياهو” في تحييد زعيم حزب إسرائيل بيتنا “أفيجدور ليبرمان” الذي كان يمثل رمانة الميزان في تشكيل أية حكومة خلال الانتخابات الثلاثة السابقة، والذي يرتبط بعلاقات سيئة للغاية مع “نتنياهو”، ولن تصبح له القوة التي كان يتمتع بها خلال الفترة السابقة.
8- نجاح “نتنياهو” أيضًا في انتزاع نتائج الانتصار الذي حققته القائمة العربية المشتركة (15 مقعدًا) التي كان يمكن أن تكون الحزب الثالث، وبالتالي تقود المعارضة الإسرائيلية، إلا أن تفكك ائتلاف (أزرق أبيض) حرمها من هذه الميزة، وذهبت قيادة المعارضة إلى كل من “يائير لابيد” و”موشيه يعلون” (18 مقعدًا).
وإذا كانت المكاسب التي حققها “نتنياهو” من جراء هذا الاتفاق متعددة وواضحة، إلا أن أهم إنجازاته في هذا الشأن تتركز في نجاحه في تشكيل شبكة أمان شديدة الإحكام، وإغلاق المجالات الممكنة لمحاكمته مستقبلًا بسبب اتهامات الفساد المعلنة والموجهة ضده، والتي كان من المفترض أن تمنعه من الترشح للحكومة، بل وقد يصل به الأمر إلى السجن.
وفي هذا الإطار، نجح “نتنياهو” في تضمين الاتفاق الحكومي أن يكون لديه حق الاعتراض على أي قرار يتعلق بوزارة العدل التي ستئول إلى حزب “جانتس”، وكذا حق الاعتراض على تعيين كل من المستشار القضائي للحكومة والمدعي العام، مع فرضه تعيين ممثلين اثنين عن الليكود في لجنة القضاء، بالإضافة إلى عدم طرح أية قوانين في الكنيست ضد ترشح أي عضو لرئاسة الوزراء. ويدعم هذا الموقف أن رئاسة الكنيست ستعود إلى إحدى شخصيات الليكود ومرشح لها “ياريف لفين” (نشير في هذا المجال إلى أن القاضي في المحكمة العليا البروفيسور “أليكس شتاين” أشار إلى أن “نتنياهو” يمكنه مواصلة منصبه بعد تقديم لوائح اتهام ضده).
وإذا انتقلنا إلى الجانب السياسي الخارجي، من المهم أن أشير إلى إحدى النقاط شديدة الأهمية في اتفاق الحكومة الإسرائيلية وهي النص على أنه بحلول يوليو 2020 (أي بعد أسابيع قليلة) يتم تطبيق السيادة الإسرائيلية في منطقة غور الأردن. ولا شك أن ذلك يعد نقطة فاصلة ليس فقط بالنسبة لتوجهات الحكومة الجديدة، ولكنها ستكون عنصرًا ومتغيرًا جديدًا وخطيرًا في عملية السلام وتسوية القضية الفلسطينية، خاصة وأن منطقة الأغوار تمثل 30% من مساحة الضفة الغربية.
وارتباطًا بهذا التوجه الذي يؤكد استمرار إسرائيل في سياسة الضم والتهويد دون رادع؛ فإن ذلك يعني بداية ترجمة حقيقية لـ”صفقة القرن” التي ستجد طريقها إلى التنفيذ، خاصة أن اللجنة الإسرائيلية الأمريكية لترسيم الحدود الإسرائيلية ووضع الخرائط اللازمة في هذا الشأن تُجري أعمالها على قدم وساق منذ إعلان ترامب/نتنياهو عن الصفقة في أكتوبر 2019. كما أن الدعم الذي قدمه الرئيس الأمريكي من أجل استمرار “نتنياهو” في الحكم يهدف أيضًا إلى ضمان وجود القيادة الإسرائيلية القادرة على تنفيذ الصفقة، وبما يدعم في النهاية موقف “ترامب” في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وفي ضوء ما سبق، فمن الواضح أننا أمام حكومة إسرائيلية جديدة عمادها الرئيسي اليمين المتطرف واليمين والأحزاب الدينية، وسيظل “نتنياهو” والليكود متحكمين بقوة في سياسة الحكومة، ولن يكون لـ”بيني جانتس” أي تأثير يُذكر، على الأقل في الفترة الأولى، خاصة مع العديد من القيود المفروضة على وضعيته رغم ما يبدو من عكس ذلك. وسيكون قرار ضم أغوار الأردن هو أول تحرك فعلي على الأرض مع ما يعنيه من إنهاء لعملية السلام والقضاء التام على مبدأ حل الدولتين، وما قد يؤدي إليه ذلك من احتمالات عدم استقرار الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية. وبمعنى آخر، أن يتم تفجير انتفاضة ثالثة بكل ما تحمله من مخاطر وتداعيات.
من هنا، تبدو ضرورة أن تعيد السلطة الفلسطينية حساباتها بسرعة، انطلاقًا من أن هذا التطور الجديد يعني أن “صفقة القرن” سوف يبدأ تنفيذها فعليًّا في أعقاب تشكيل الحكومة الإسرائيلية، ومن ثم يفرض هذا الأمر على السلطة التحرك مع الدول العربية المؤثرة للاتفاق على خطة تحرك عاجلة لمواجهة هذا الموقف الإسرائيلي المدعوم أمريكيًّا، بمعنى أن يكون هذا التحرك الفلسطيني/العربي سابقًا للقرار الإسرائيلي المتوقع وليس في أعقابه.
وفي رأيي، هناك ضرورة للتركيز على أن يكون جوهر الخطة المقترحة تحركًا سياسيًا وقانونيًا على المستويين الإقليمي والدولي مشفوعًا بطرح رؤية واقعية للتسوية السياسية في المقابل حتى لا نترك الساحة خالية ومؤهلة أمام إسرائيل تنفذ سياساتها كما تشاء ودون أن يكون هناك شريك فلسطيني وعربي قادر على التحرك والتأثير واستخدام كافة الأدوات المتاحة لديه حتى ولو كانت أدوات محدودة.