كان لانتشار فيروس كورونا المستجد تأثيراته على تفاعلات الحراك الشعبي في العراق والذي انطلق منذ أكتوبر 2019 مطالبًا برحيل النخبة العراقية بعد إخفاقها في تجاوز الأزمات الأمنية والاقتصادية، واستمرار المحاصصة الطائفية التي شكّلت إرثًا بغيضًا هيمن على مفردات المشهد العراقي منذ إسقاط نظام “صدام حسين” عام 2003. وقد تجلّى ذلك التأثير من خلال اتجاه قطاع كبير من المشاركين في الاحتجاجات إلى تعليق التظاهرات والمسيرات الشعبية في كافة الميادين العراقية خشية تفشي فيروس كورونا بين المتظاهرين، لا سيما أن الإحصاءات الرسمية كشفت حتى 22 أبريل 2020 عن وصول عدد المصابين بفيروس كورونا في العراق إلى 1600 شخص فيما وصل عدد الوفيات إلى 82 حالة. وبرغم ذلك، رفض عددٌ من منتسبي الحراك الشعبي مغادرة الميادين، باعتبارها تشكل خطوة نحو الحفاظ على مطالبهم، ومنادين بالاستمرار في كافة الميادين حتى وإن كان بشكل رمزي، لتظل جذوة الحراك قائمة حتى تتحقق أهدافه، ومنعًا للقوى المهيمنة على هيكل القرار في العراق من تبريد الحراك والتحلل التدريجي من مطالبه.
وقد حاولت الحكومة التعامل مع أزمة فيروس كورونا كما تعاملت معها العديد من الدول، لا سيما أن العراق يجاور إيران، ولديه معها تفاعلات رسمية ومجتمعية ودينية كثيفة، في الوقت الذي اعتبرت فيه منظمة الصحة العالمية إيران إحدى النقاط الساخنة لتفشي الفيروس منذ اكتشافه في مدينة ووهان الصينية في ديسمبر 2019. في هذا الإطار، تم تشكيل خلية أزمة بموجب الأمر الديواني رقم 55 لسنة 2020، حيث قررت الحكومة إعلان حالة الطوارئ الصحية في البلاد، وتعطيل الدوام الرسمي في المؤسسات التعليمية والجامعات والكليات الحكومية والأهلية، وتعليق الرحلات الجوية من وإلى مطار بغداد. كما قررت الحكومة فرض حظر التجوال في العاصمة والمحافظات العراقية، وتوعدت بعقوبات تشمل فرض غرامات ومصادرة السيارات على المخالفين للحظر المفروض تجنبًا لمخاطر تفشي الفيروس. كما أعلنت هيئة المنافذ الحدودية العراقية مطلع مارس الماضي عن توقف المنافذ الحدودية مع إيران، وذلك حمايةً للعراقيين من مخاطر انتشار الفيروس، وأوضح رئيس هيئة المنافذ الحدودية العراقي “عمر الوائلي” أن إغلاق الحدود يعني توقف التبادل التجاري بشكل مؤقت، بينما سُمح للمسافرين العراقيين الموجودين في إيران بالعودة إلى العراق في موعد أقصاه الخامس عشر من مارس الماضي. كما أقرت خلية الأزمة بأن الدوام الرسمي في الوزارات والجهات غير المرتبطة بالمؤسسات الحكومية الأخرى سيكون بنسبة 50% بشكل متناوب باستثناء الأجهزة الأمنية والصحية، وكذلك الاستمرار في منع التجمعات بالأماكن العامة.
رؤى متباينة
منذ تسجيل أول حالة إصابة بفيروس كورونا في فبراير 2020 بالعراق، بدأ الجدال بين جماعات الحراك حول قضية استمرار التظاهرات والاحتجاجات، أو إيقافها، إلى حين السيطرة على الفيروس. وبات واضحًا منذ ذلك الحين انقسام جماعات الحراك بين اتجاهين رئيسيين: الأول، يمثل الغالبية من المتظاهرين ورموز الحراك، ويطالبون بإيقاف كافة الفعاليات في ميادين العراق المختلفة. على هذه الخلفية، أصدر اتحاد الطلبة في محافظة ذي قار بيانًا، في 21 مارس، علق بموجبه وجوده في ساحة الحبوبي وسط مدينة الناصرية التي تعد أحد معاقل الحركة الاحتجاجية الرئيسية، بعد ساحة بغداد، حيث نص البيان على أنه: “نظرًا للظروف الراهنة التي يمر بها بلدنا ومحافظتنا العزيزة ذي قار بسبب تفشي فيروس كورونا، واستجابة منا لتوجيهات وإرشادات وزارة الصحة وخلية الأزمة؛ لذا قرر اتحاد خيم ذي قار المتكون من 30 خيمة تعليق وجوده في ساحة الحبوبي مؤقتًا لحين انتهاء الأزمة الراهنة، ومنع أي تجمعات أو نشاطات طلابية في الساحة”. في السياق نفسه، أعلن المسئولون بمحافظتي البصرة والنجف أن جماعات الحراك قامت بالفعل بإخلاء الساحات تلبيةً لدعوة السلطات الحكومية ورموز العشائر ورجال الدين لمنع تفشي عدوى كورونا بين المواطنين.
أما الاتجاه الثاني فهو يرفض تعليق التظاهرات، ويُصر على الاستمرار مهما كان الثمن، حتى لا يفقد الحراك زخمه في تحقيق أهدافه، والذي نجح في اقتناص بعضها، كان أبرزها إجبار “عادل عبدالمهدي” -رئيس الحكومة- على تقديم استقالته في ديسمبر 2019، برغم دخول العراق منذ ذلك التوقيت في دوامة لتشكيل الحكومة الجديدة بعد اعتذار كل من “محمد علاوي”، و”عدنان الزرفي”، بعد تكليفهما لإخفاقهما في تشكيل الحكومة، ثم تكليف “مصطفى الكاظمي” بتشكيل الحكومة الجديدة. كما كان من تداعيات الحراك أيضًا تعديل قانون الانتخابات، وإعادة تشكيل المفوضية العليا للانتخابات، وهي قضايا وفق التيار الراغب في استمرار التظاهرات تشكل حتى من الناحية الرمزية بُعدًا معنويًّا يُعطي أهمية لبقاء عدد من المتظاهرين في عدد من الخيم ببعض الميادين.
ووفق هذا التيار فإن عمليات تعقيم هذه الخيم ستتم من خلال الجهود التطوعية للمتظاهرين، وأن من تبقى من المعتصمين عليهم اتخاذ كافة الاحتياطات وإجراءات الحجر الصحي في خيمهم، مع تقليل عدد الأفراد في كل خيمة إلى حدود اثنين أو ثلاثة أفراد، فيما يبرر بعض المتظاهرين بقاءهم بأنهم لن يسمحوا بتبديد أحلامهم التي قدموا أمامها 30 ألفًا بين قتيل وجريح ومعوق، فضلًا عن رغبتهم في استمرار الوجود الرمزي في الميادين العراقية، على اعتبار أن مخاطر فيروس كورونا أقل وطأة من مخاطر الفساد الذي دمر العراق الذي يُعد من أغنى بلدان العالم، ما أدى إلى تردي الأوضاع الاقتصادية وتهالك البنية التحتية وانتشار الفوضى والأمراض.
كما نجحت أزمة كورونا -وفق مؤيدي هذا الاتجاه- في عزل البلدان المتدخلة في شئونهم، وإغلاق الحدود معهم في إشارة ضمنية إلى إيران. كما أدت تداعيات الأزمة أيضًا إلى سحب عدد من البلاد الأوروبية لقواتها من العراق، مثل فرنسا والتشكيك، وتقليل دول أخرى من أعداد قواتها الموجودة بالعراق، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. وهو ما يعني وفقًا لهذا الاتجاه أن فيروس كورونا المستجد حقق العديد من مطالبهم التي فشلت حكومات متعاقبة في تحقيقها.
وربما يمثل قرار رفع الحظر الجزئي في العراق مخاطرة قد تُسهم في عودة قطاع من المتظاهرين للميادين العراقية، وهو القرار الذي اقترحه وزير الصحة ورئيس خلية الأزمة “جعفر علاوي” وحظي بموافقة اللجنة العليا للصحة والسلامة الوطنية. واستنادًا للقرار، صار بوسع أصحاب المهن وبعض القطاعات الحكومية والأهلية، وأصحاب المصانع الصغيرة ومحال بيع المواد الكهربائية والهواتف الجوالة وغيرها، العمل خلال ساعات رفع الحظر. وقد كان من نتائج رفع الحظر جزئيًّا وقوع مواجهات بين عدد من المتظاهرين وأصحاب المحال التجارية في محيط الميادين الذين تضررت مصالحهم. ورغم أن معدلات الإصابة والوفيات لا تزال منخفضة نسبيًّا في العراق قياسًا بدول أخرى، فإن قطاعات واسعة ما زالت تخشى من تعرض البلاد لنكسة وبائية نتيجة الرفع الجزئي لحظر التجول مع حلول شهر رمضان المبارك. وهذه المخاوف تتطابق مع التوصيات التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية، وتشديدها على ضرورة أن يكون تخفيف القيود المفروضة لمنع تفشي فيروس كورونا بشكل تدريجي.
تداعيات محتملة
إذا كان تأثير أزمة كورونا قد أسهم في خفوت حدة تظاهرات الحراك في الشارع العراقي؛ إلا أنه -في مقابل ذلك- أدى إلى استمرار تنامي أدوار وكلاء إيران في العراق، سواء على مستوى الميليشيات المدعومة من إيران، مثل قوات الحشد الشعبي وحزب الله العراقي، أو على مستوى المساومات التي تستغلها القوى الشيعية برغم انقسامها لتشكيل الحكومة الجديدة بعد فشل محاولتين سابقتين لتشكيلها لفرض سياسة الأمر الواقع على المشهد العراقي فيما بعد مرحلتي حراك أكتوبر وأزمة كورونا.
على مستوى تزايد أدوار وكلاء إيران في العراق، أدت أزمة كورونا إلى تزايد نشاط التنظيمات والميليشيات المدعومة من إيران. فقد تزامن انتشار الفيروس مع استهداف هذه الميليشيات مناطقَ تمركز قوات التحالف الدولي بضربات صاروخية، حيث صرّح الكولونيل “مايلز كاجينز” المتحدث باسم الجيش الأمريكي في العراق، في 12 مارس 2020، بقوله: “إن أكثر من 15 صاروخًا صغيرًا أصابت قاعدة التاجي التي تستضيف قوات التحالف الدولي”. وأسفر الهجوم عن مقتل جنديين أمريكيين وجندي بريطاني، مما استدعى تدخل مقاتلات سلاح الجو الأمريكي لتوجيه ضربات ضد تشكيلات الحشد الشعبي وكتائب حزب الله. في السياق نفسه، وصف “محمد محيي” -المتحدث الرسمي باسم كتائب حزب الله العراقية- في نهاية مارس 2020 في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية، الانسحابات الأمريكية من بعض قواعدها في العراق بأنه لا يمثل انسحابًا حقيقيًّا، وإنما مجرد إعادة تموضع نظرًا لما تعرضت له من ضربات قوية، متعهدًا بمواصلة استهداف القوات الأمريكية في البلاد.
أما على مستوى مساومات القوى الشيعية لتشكيل الحكومة الجديدة، فإذا كانت الكتل والقوى السياسية اتفقت على تكليف “مصطفى الكاظمي”، والذي تجلى في وجود ممثليها خلال اجتماع الرئيس “برهم صالح” لتكليف “الكاظمي” بتشكيل الحكومة؛ إلا أنها لم تتفق على شكل الحكومة المقبلة، وما إذا كان يغلب على تركيبتها أن تخضع لسياسة المحاصصة أم ستكون مستقلة من التكنوقراط، لا سيما وأن فريقًا من الكتل الشيعية يرى ضرورة أن تكون الحكومة سياسية محاصصاتية، وتيار آخر يرى ضرورة أن تكون مستقلة. وللمفارقة فإن هناك داخل تحالفي الفتح والحكمة اعتراضات فيما يتعلق بحصصهم في الحكومة وتركيبة عضويتها، مما أدى إلى غياب رؤية موحدة للقوى الشيعية كنوع من المساومة للحصول على أكبر قدر من المكاسب في ظل تبني كافة الكتل الشيعية لاتفاق ضمني يقوم على ضرورة إخراج القوات الأمريكية من العراق، على أن يكون هذا الهدف ضمن أولويات أي حكومة جديدة، وهي القضية الرئيسية المشتركة على أجندة القوى الحليفة لإيران بعد إعادة تموضعها لصالح المشروع الإيراني منذ مقتل “قاسم سليماني”، ولها أولوية تسبق الحصول على حصص وزارية في حكومات ما بعد “عادل عبدالمهدي” ومنها حكومة “الكاظمي” التي لا تزال قيد التشكيل. وهو الأمر الذي جعل القوى السياسية الكردية والسنية تطالب بضرورة خروج قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران من المناطق المحررة من سيطرة تنظيم داعش.
مجمل القول، إن تأثير أزمة كورونا على الحراك الشعبي في الحراك، بقدر ما أسهمت في الحد من عمليات الحشد والتعبئة داخل الميادين العراقية لكبح تفشي الفيروس بين المتظاهرين؛ بقدر ما مثلت فرصة مواتية استغلها وكلاء إيران لتعزيز ممارساتهم في العراق، وهو المسلك الذي يرفضه جموع المتظاهرين منذ تفجر الحراك، ومنهم من خرج من قلب المناطق والمدن الشيعية رافضًا المحاصصة الطائفية، وتمدد المشروع الإيراني في العراق، ومطالبًا بعودة العراق للعراقيين بعيدًا عن التجاذبات الإقليمية والدولية.
فهل تنجح حكومة “الكاظمي” إذا قُدر لها التشكيل في طمأنة مناصري الحراك الشعبي بأن مطالبهم ضمن أولويات برنامج الحكومة الجديدة؟ أم إن العودة للميادين ستكون الخيار الأصعب والأكثر تكلفة بكل ما تحمله من تداعيات على الأمن الصحي والاستقرار في العراق بشكل عام؟