ظلت إريتريا لعقود من الزمان منذ استقلالها دولة مغلقة في ظل الزعامة الأبوية للرئيس “أسياس أفورقي”، وعادةً ما تم تصويرها في وسائل الإعلام الغربية على أنها تُحاكي تجربة كوريا الشمالية في الواقع الإفريقي. كما أدى النزاع المسلح على حدودها وحالة “اللا سلم واللا حرب” مع إثيوبيا إلى استنزاف موارد البلاد، حيث أضحت التهديدات الخارجية دافعًا لنظام الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة الحاكمة لتعزيز سلطتها الداخلية. وقد مثلت اتفاقية السلام مع إثيوبيا عام 2018، وخطوات التطبيع بين الجارتين التي تلتها، بما في ذلك إعادة فتح الحدود ولو لفترة محدودة؛ تطورات إيجابية بالنسبة لإريتريا للخروج من عزلتها وانفتاحها على المجتمع الدولي الأوسع. وبغض النظر عن إمكانية ترجمة هذه التطورات إلى تغيير سياسي حقيقي في الداخل، فإن إريتريا حافظت منذ استقلالها على دور مستقل في إطار بيئة جيوستراتيجية متحولة في منطقة القرن الإفريقي وحوض البحر الأحمر.
وإلى جانب المصالحة التاريخية بين إثيوبيا وإرتيريا، شهد عام 2018 ثلاثة أحداث مهمة في سياق توازنات القوة في منطقة القرن الإفريقي: أولها، في 23 يوليو، عندما أعلن الرئيس “أسياس أفورقي” أن مدة التجنيد الإلزامي الوطنية قد تصبح 18 شهرًا فقط، بدلًا من الخدمة مدى الحياة، بسبب “الديناميات المتغيرة” في المنطقة. ثانيها، هو توقيع الاتفاق الثلاثي في 5 سبتمبر بمدينة أسمرة بين إثيوبيا وإريتريا والصومال لتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية بين الدول الثلاث. وقد تم تشكيل لجنة مشتركة لزيادة التنسيق في هذه الأمور. ثالثها، هو اتفاق إريتريا وجيبوتي في 5 سبتمبر على تطبيع العلاقات بينهما بعد نزاع حدودي على منطقة كيب دوميرا أدى إلى اشتباكات عسكرية وإنشاء عملية لحفظ السلام.
ديناميات الداخل وحدود التغيير
عادةً ما تروج وسائل الإعلام الغربية لمفهوم هشاشة حكم الرئيس “أسياس أفورقي” في إريتريا وسيناريوهات التغيير من بعده. بيد أن التحولات الإقليمية الأخيرة، ولا سيما بعد جائحة كورونا، أثبتت أن قبضة الرئيس وجبهته الشعبية الحاكمة تزداد قوة. ولا أدل على ذلك من أنه قام في الثاني من مايو 2020 بزيارة غير متوقعة لإثيوبيا، واضعًا حدًّا للتقارير والتكهنات الإعلامية التي كانت تؤكد قرب اختفائه من المشهد السياسي في إريتريا. ربما يرى البعض أن الواقع الصارم للحياة في إريتريا أصبح من الصعب تحمله بالنسبة للكثيرين بعد خيبة أمل من فوائد المصالحة مع إثيوبيا، وعودة إغلاق الحدود بين البلدين، وأن الرغبة في التغيير تتزايد بين الإريتريين داخل البلاد وفي المهجر.
بيد أنه على مدى سنوات المنفى الطويلة، فشلت المعارضة الإريترية في الخارج في بناء جبهة متماسكة وتشكيل خطة لانتقال سياسي واجتماعي واقتصادي قابل للحياة. وعادةً ما تأخذ الاحتجاجات المناهضة للحكومة الإريترية مظاهر شكلية تتمثل في التظاهر أمام السفارات ومكاتب الأمم المتحدة في الخارج. كما ظهرت حركة شبابية باسم “كفاية”، حيث تقوم بتوزيع كتيبات تدعو إلى التغيير السلمي في البلاد. وقد دفع ذلك مجلة “الإيكونومست” العام الماضي إلى القول بأن دولة معسكرات العمل بالسخرة في إريتريا باتت تتهاوى.
ومع تغيرات وتحولات السياق المحلي والاقليمي فإنه لا يمكن القبول بفكرة تنامي المعارضة السياسية وقدرتها على تغيير النظام، على الرغم من تضخيم دورها بواسطة التقنيات الجديدة ووسائط التواصل الاجتماعي. وعلى العكس من ذلك، يمكن أن نذهب في تحليلنا في الجهة المقابلة إلى أبعد من ذلك. إذ تشير حقيقة بعض التطورات الجديدة، بما فيها جائحة فيروس كورونا؛ إلى أن “أسياس أفورقي” وحزبه الحاكم ربما يُعززان قبضتهما على السلطة. ولعل من أبرز المؤشرات والدلائل على ذلك ما يلي:
1- أن المعارضة بشكلها الحالي تبدو وكأنها مجرد “نمر من ورق”، إذ لم تستطع محاولات التمرد المحدودة –وإن كانت متكررة- على السياسات الحكومية أن تُحدِث انقسامًا في صفوف النخبة الحاكمة في أسمرة. ففي عام 2001، قامت مجموعة مكونة من 15 من كبار المسئولين في الحزب الحاكم بكتابة رسالة مفتوحة إلى أعضاء الحزب ينتقدون الحكومة لتصرفها “بطريقة غير قانونية وغير دستورية”. بيد أن الرد الحكومي كان حاسمًا، حيث تم إلقاء القبض على معظم هؤلاء المسئولين ومؤيديهم. ولم يكن مستغربًا أن تقوم ثلة من الجنود الغاضبين في يناير 2013 بالاستيلاء على مقر هيئة الإذاعة الحكومية في أسمرة. وتم تصوير الأمر من قبل دوائر المعارضة على أنها محاولة انقلاب، على الرغم من أنها في نهاية المطاف لم تدفع باتجاه تمرد أوسع في صفوف الجيش، وتم احتواؤها على الفور، كما حدث مع مجموعة الـ15 من قبل. كما تدعو الكنيسة الكاثوليكية في إريتريا –ولو على استحياء- منذ عام 2014 إلى الإصلاح السياسي، وكان الردّ الحكومي أيضًا حاسمًا من خلال إغلاق العيادات الطبية التابعة لهذه الكنيسة. بيد أن الحراك الشعبي في أواخر عام 2017 كان لافتًا، حيث خرجت أعداد غير مسبوقة من الطلاب إلى شوارع أسمرة للاحتجاج على تدخل الحكومة في شئون مدرسة إسلامية خاصة.
لقد أدت مشاعر الإحباط التي يعيشها الإريتريون جراء سياسة “العدو عند الباب” التي تُبرر انتهاج التجنيد الإلزامي إلى فرار أعداد كبيرة منهم إلى الخارج. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد اللاجئين بلغ نحو خمسة آلاف شهريًّا في عام 2014. وربما يُفسر لنا ذلك سر تزايد أعداد المعارضة الإريترية في الخارج، وهو ما يعكس أيضًا سر ضعفها وعدم قدرتها على صياغة أي تغيير حقيقي إلا إذا جاءت محمولة على أسنة رماح قوى خارجية.
2- انتهاج نظام “الزبائنية” السياسية: كما هو الحال في العديد من أنظمة الزبائنية السياسية في إفريقيا، يتم تقديم جميع الخدمات الحكومية الإريترية، من الأعلى إلى الأسفل، ضمن علاقات الراعي/ العميل، والتي تضم شبكة من الولاءات والصداقات والمحسوبيات والمزايا المستقبلية للخدمة المقدمة. وهنا يمكن التمييز بين مجموعتين: المجموعة الأولى، هي مجموعة المواطنين في المهجر والسكان المحليين، حيث يتمتع المواطنون في بلاد المهجر بوضع أعلى من السكان المحليين. ومن المتوقع أن يقوموا بالوفاء بالتزاماتهم تجاه النظام، مثل دفع ضريبة المهجر بنسبة 2%، والتبرع لمبادرات التمويل التي ترعاها الحكومة، مثل صناديق الشهداء وصناديق المعاقين بسبب الحرب. أما المجموعة الثانية فتضم سكان الحضر والريف من مختلف الطبقات والحالات. وفي أدنى درجات السلم الاجتماعي نجد اللاجئين الذين فروا من بلادهم لتجنب الخدمة الوطنية والتجنيد أو نزحوا بسبب الحرب مع إثيوبيا.
لقد بدأت الخدمة الوطنية في إريتريا في عام 1994، حيث تم تجنيد كل من هم فوق سن السادسة عشرة ودون سن الأربعين. ومنذ حرب الحدود مع إثيوبيا، تحولت الخدمة العسكرية إلى مدة طويلة قد لا تنتهي. ولذلك أدى هذا الاختلاف الصارخ في فرص الحياة والحقوق والامتيازات بين مواطني المهجر والسكان المحليين إلى إثارة رغبة لا تشبع لمعظم الشباب في سن العمل للبحث عن فرص وحقوق أفضل في المهجر.
3- انتهاء عزلة إريتريا إقليميًّا ودوليًّا: يمكن أن تؤدي التحولات الإقليمية والدولية إلى دعم نظام الجبهة الشعبية الحاكمة في إريتريا بزعامة ”أسياس أفورقي”. صحيح أن اتفاق السلام مع إثيوبيا لم يغير كثيرًا من نمط حياة معظم الإريتريين، لكنه أثبت صحة إصرار الجبهة الشعبية من أجل الديمقراطية والعدالة على أن أراضي إريتريا احتُلت بشكل غير قانوني من قبل إثيوبيا. علاوةً على ذلك، أدى التطبيع مع إثيوبيا إلى إلغاء عقوبات مجلس الأمن الدولي ضد إريتريا، وفتح فرص جديدة للاستثمار والانفتاح على الخارج. وبالفعل تطلع النظام الإريتري إلى إعادة بناء خارطة تحالفاته الخارجية. وتظهر عضوية إريتريا في مجلس حقوق الإنسان ورئاسة مبادرة الخرطوم عام 2019، وهي مبادرة مصممة للحد من الهجرة بين إفريقيا وأوروبا من خلال مكافحة الاتجار بالبشر وتهريبهم، إلى عودتها إلى فضاء الدبلوماسية الدولية. وقد فتح ذلك شهية أسمرة لعرض نفسها كوسيط إقليمي في أزمات القرن الإفريقي ومنطقة البحر الأحمر. وقد دفعت سياسة الانفتاح تلك الحكومةَ -على سبيل المثال- إلى إبرام بعض الصفقات التجارية في قطاع التعدين، كما قبلت تمويل بعض المشروعات التنموية من قبل جهات خارجية، بما في ذلك بنك التنمية الإفريقي. ولا شك أن ذلك كله سوف يخفف من بعض الضغوط على ميزانية الحكومة. ويُعزز في الوقت نفسه من قبضتها على السلطة.
التحولات الجيوستراتيجية الإقليمية
حاولت إريتريا منذ الاستقلال أن تقوم بدور بالغ الأهمية في معادلة توازنات القوة بمنطقة القرن الإفريقي، وهو ما وقف حائلًا أمام تفرد إثيوبيا بموقع الهيمنة الإقليمية. فقد اتسمت فلسفة النظام الحاكم في إريتريا تجاه الصياغة التنظيمية للتفاعلات الإقليمية والقارية في إفريقيا بالتعقيد الشديد. لم يكن خافيًا -إذن- انتقاد الرئيس “أسياس أفورقي” علنًا منذ البداية لمنظمة الوحدة الإفريقية -التي أضحت بعد ذلك الاتحاد الإفريقي- بسبب عجزها عن وضع حدٍّ للممارسات القمعية التي قامت بها النخبة العسكرية الإثيوبية في إريتريا زمن الاحتلال. ومنذ البداية لم تنشط إريتريا قط في الدبلوماسية القارية الإفريقية، بل إنه عندما فرض الاتحاد الإفريقي عقوبات على إريتريا في عام 2009 بسبب اتهامها بدعم جماعة الشباب المجاهدين المتطرفة في الصومال، أوقفت إريتريا مشاركتها في الاتحاد الإفريقي باعتباره أداة في يد الإمبريالية الأمريكية، وآلية لفرض الهيمنة الإثيوبية. بالإضافة إلى ذلك، فقد انسحبت إريتريا مرتين من تجمع الهيئة الحكومية للتنمية المعروفة باسم الإيجاد.
واقع الأمر أن إريتريا تتبنى مقاربات مختلفة لتحقيق التعاون الإقليمي. كان حلم “أفورقي” منذ البداية هو تحقيق مشروع “القرن الإفريقي الكبير” ليضم مجموعة من الأنظمة التي استطاعت الوصول إلى السلطة غلابًا من خلال حركات تحرر ذات ميول يسارية في الغالب خلال الفترة من 1991 وحتى 1997. وكان المأمول أن يضم هذا التحالف الذي يقوم على مفهوم التضامن الإقليمي بين القادة الجدد في الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا ورواندا. بيد أن تباين الرؤى بشأن الأزمة الصومالية والحرب مع إثيوبيا أدت إلى فشل هذه المبادرة الإقليمية. ومنذ ذلك الوقت تركزت الدبلوماسية الإريترية على خلق مساحة للمناورة، ورسم سياسة خارجية مستقلة عن الهيمنة الإثيوبية. على مدار عشرين عامًا تقريبًا، وقف “أسياس” حجر عثرة أمام طموحات الهيمنة الإثيوبية في الصومال ومنطقة القرن الإفريقي بشكل عام.
وتظهر التحركات الأخيرة للقيادة الإريترية الاتجاه نحو إقامة ما يُسمى “التحالف الكوشي الثلاثي” الذي تم توقيعه في سبتمبر 2018 بين إثيوبيا وإريتريا والصومال. وقد استضافت العاصمة أسمرة اجتماعًا لزعماء الدول الثلاث في يناير 2020 للنظر في تفعيل هذا التحالف. بيد أن الأهداف الخفية غير المعلنة متباينة من قبل الحلفاء الثلاثة. يسعى “آبي أحمد” إلى تحقيق حلم الهيمنة الإثيوبية عبر قيادة مشروع توحيد القرن الإفريقي. لقد عمل بجد لإعادة تأسيس البحرية الإثيوبية، التي تم تفكيكها في عام 1993 بعد أن فقدت امتدادها الساحلي إلى إريتريا. ويحتاج النهوض الإثيوبي إلى الوصول إلى البحر، وهو ما يعني أن وجود قوى حليفة في منطقة جوبالاند جنوب الصومال سوف يتيح الوصول دون عوائق إلى موانئ الصومال الخمسة في المحيط الهندي، وهي: كيسمايو، وبراوي، وبوصاصو، وبربرة، وهوبيو شمال مقديشو. إضافة إلى ذلك، تسعى إثيوبيا من عودة العلاقات مع إريتريا لاستعادة الوصول إلى مينائها هناك أيضًا.
وفي المقابل، فإن هذه التفاعلات الإقليمية الجديدة تعني زيادة مساحة النفوذ الإقليمي لإريتريا التي تحتفظ بشروطها الخاصة لتحقيق الأمن والسلام في المنطقة. ثمة تغيير في نمط مناورات الرئيس “أسياس أفورقي”، بسبب التحولات الجيوسياسية الأخيرة في المنطقة. إن قدوم الصين ودول الخليج وسعيها لكسب النفوذ في القرن الإفريقي، بالإضافة إلى القلق الأوروبي من أزمة اللاجئين؛ قد منح “أسياس” مزيدًا من النفوذ الدبلوماسي والمالي لينتقل به من حالة العزلة إلى النفوذ الإقليمي. إن قدرة “أفورقي” الفائقة على المناورة سوف تقوض في الواقع طموحات إثيوبيا التاريخية للسيطرة مرة أخرى على الجهود المبذولة لتحقيق مزيد من التكامل الإقليمي، وهو ما يعني أن نظام الجبهة الشعبية الحاكم في إريتريا بفلسفته الراهنة يشكل معادلًا استراتيجيًا لمنع هيمنة أي قوة منفردة في منطقة القرن الإفريقي.
وفي السياق نفسه، فإن إريتريا عادة ما تقف موقف التشكك إزاء المنظمات الدولية متعددة الأطراف والتي تخضع عادة لهيمنة بعض الأطراف الفاعلة الطامحة في السيطرة والنفوذ. ومن ثم، فإن الفكر السياسي الإريتري ينظر لمثل هذه التنظيمات على أنها مصدر تهديد ينبغي مواجهته، أو على الأقل الوقوف منه موقف الحياد إن لزم الأمر. ويتضح ذلك جليًّا من تردد إريتريا في الانضمام لمجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن الذي تم تأسيسه في الرياض في يناير 2020. ويبدو أن الانضمام الإرتيري يعكس طبيعة العلاقات المتميزة مع المملكة العربية السعودية ومصر، ولكنه يعبر أيضًا عن توجيه رسالة لإثيوبيا -التي لم تدع للانضمام إلى المجلس- بأنه على الرغم من العلاقات الوثيقة بين “آبي أحمد” و”أسياس أفورقي”؛ فإن لإريتريا خيارات استراتيجية أخرى لا تتطلب موافقة إثيوبيا.
تحتفظ إريتريا أيضًا بعلاقات وثيقة مع كل من مصر ودول الخليج العربية، ولا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. فقد تم توثيق التعاون الأمني مع الدولتين الخليجيتين، ولا سيما استخدام ميناء عصب الإريتري على البحر الأحمر في عمليات التحالف العربي في اليمن، وذلك مقابل دعم اقتصادي مهم لحكومة أسمرة. ولا شك أن هذه التحركات الإريترية التي قد تبدو متناقضة فإنها تذكر الجميع بأن إريتريا لديها بدائل مختلفة، وسوف تستمر في الحفاظ على معادلة توازن القوة في المنطقة.
لقد تلقى معظم القادة الثوريين الإريتريين تعليمهم في الصين خلال حرب الاستقلال، وهم عازمون على استمرار العلاقات القوية مع الصين. ويبدو أن إريتريا تحاول الاستفادة من الجهود المشتركة في بناء مبادرة “الحزام والطريق”، التي أطلقتها الصين بالتعاون الوثيق مع الدول الإفريقية. لقد أضحت الصين الشريك التجاري الأكبر لإريتريا، كما أنها أجرت العديد من الدورات التدريبية الثنائية في إريتريا منذ عام 2018، حيث يغطي التدريب مجالات، مثل: التمويل، والبث التلفزيوني، والصحة، والدبلوماسية، والهندسة، والزراعة، وصيد الأسماك، والرياضة.
سيناريوهات مستقبلية
يبدو أن سياسات الإغلاق الصحي المرتبطة بأزمة كورونا سوف تدعم من قبضة النظم الحاكمة في إفريقيا ومنها إريتريا، وهو ما يعني أن احتمالات التغيير السلمي تبدو محدودة حتى في حالة اختفاء رأس النظام طوعًا أو كرهًا. ثمة مسار التغيير الذي تقوده الجبهة الثورية للديمقراطية والعدالة على غرار النموذج الإثيوبي. في هذه الحالة سوف يمتلك الجنرالات (الجيش والشرطة والمخابرات) دورًا محوريًّا في الحفاظ على جوهر النظام وخياراته المحورية، ولا سيما الموقف من إثيوبيا. ثمة تقارير تتحدث عن دور محتمل لـ”إبراهيم” نجل الرئيس “أسياس” لخلافة والده، بيد أنه احتمال ضعيف نظرًا لقوة الطبقة الأوليجاركية المحيطة بالرئيس والمستفيدة من استمرار نظامه. وفي هذا السياق، لا تقدم المعارضة في الخارج أي بديل واقعي للنظام الحاكم.
المسار الثاني، يرتبط بحالة غياب الرئيس “أفورقي” وحدوث انقسام بين أطراف السلطة، وهو ما يذهب بنا إلى النموذج الصومالي، حيث يمكن استغلال الانقسامات العرقية والدينية في البلاد من قبل القوات المتنافسة على السلطة. وتوجد بعض الجماعات المتمردة على أساس عرقي وديني بالفعل في المناطق الحدودية وكانت تدعمها كل من إثيوبيا والسودان. ولا شك أن هذا السيناريو كارثي نظرًا لخبرة التدريب العسكري الشامل للشباب الإريتريين.
المسار الثالث، يرتبط باحتمال التورط الإثيوبي في الصومال في حالة الحرب الأهلية بعد رحيل “أسياس”. ويمكن أن تمتد الحرب الأهلية في إريتريا إلى إثيوبيا بسبب التداخل العرقي العابر للحدود، ولتحقيق الحلم الإثيوبي الخاص بالوصول للبحر مرة أخرى. ومن الممكن في هذه الحالة توظيف الإيجاد لتبرير هذا التدخل. وقد يتم تقسيم البلد فعليًّا إلى مناطق نفوذ، كما حدث في جنوب وسط الصومال. بيد أن هذا السيناريو مدمر، وقد يؤدي إلى عسكرة المنطقة بأسرها، وتدمير إثيوبيا من الداخل.
المسار الرابع، قد يدفع إلى إعادة تشكيل خريطة القرن الإفريقي؛ إذ من الممكن في حالة وجود زعيم قوي يحاول الخروج من عباءة الجبهة الشعبية بعد رحيل “أسياس” أن يُعيد النظر في العلاقة مع جبهة تحرير التيجراي في إثيوبيا. ومن المعروف أن جذور التوتر الحالي بين تيجراي إثيوبيا وإريتريا متجذرة في إرث الماضي، ولا سيما السياسات الإقليمية في حقبة ما بعد “منغستو هيلامريام” في إثيوبيا. قد يسعى الوحدويون من التيجراي إلى الانفصال وبناء جمهورية التيجراي الكبرى في منطقة القرن الإفريقي.
ثمة حاجة ملحة للحفاظ على استقرار ووحدة إريتريا حتى بعد رحيل “أفورقي”. إذ إن ذلك سوف يحافظ على توازن القوى الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر. لا تحتاج المنطقة إلى مزيدٍ من الانقسامات والصراعات. فالانتقال الديمقراطي لا يزال متعثرًا في كل من إثيوبيا والسودان، كما أن اتفاق السلام لم يختبر بين فرقاء النزاع في جنوب السودان، ولا تزال الحكومة الصومالية تعتمد في وجودها على القوات الأجنبية.