لم ينقضِ إلا وقت قصير من إقرار البرلمان العراقي منح الثقة لرئيس الوزراء الجديد “مصطفى الكاظمي”، بعد منتصف ليلة السادس من مايو، حتى أسرع وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” إلى الهاتف لكي ينقل تهاني بلاده على تسلمه المنصب، ويعلن دعمها للوزارة التي شكلها. في الأحوال الاعتيادية تُعتبر مثل هذه الاتصالات من أمور البروتوكول الروتينية في العلاقات الدولية، لولا أن الظروف التي يمر بها العراق والملابسات التي أحاطت بانتخاب “الكاظمي” كانت قد تداخلت فعلًا في العلاقات الشائكة بين بغداد وواشنطن، مما منح التهنئة دلالات خاصة للمحللين.
لم تقتصر مكالمة “بومبيو” العاجلة للكاظمي على إزجاء التهاني، بل أرفقها بتعهدٍ صريحٍ بمساعدة العراق في مواجهة أزمته الاقتصادية، وبقرار تمديد الإعفاءات الممنوحة للعراق لاستيراد الطاقة من إيران لمدة 120 يومًا استثناء من العقوبات المفروضة على طهران، وهو قرار سيُتيح للعراق الفرصة لاستمرار الحصول على الكهرباء والغاز من إيران مرهونًا بالموافقة الأمريكية كي لا يتعرض العراق نفسه للعقوبات لو جرى انتهاكه.
وبعيدًا قليلًا عن المواقف الرسمية الأمريكية، فقد ترددت في بعض الأوساط الإعلامية والبحثية الأمريكية القريبة من المؤسسة الرسمية أصوات “قرقعة” الكئوس، فيما بدا احتفالًا بوصول “الكاظمي” إلى كرسيّ رئاسة الوزارة في العراق، حتى إن صُحفًا أمريكية رئيسية مثل “نيويورك تايمز” عنونت أخبارها في اليوم التالي بالخط العريض، بوصف “الكاظمي” بالمدعوم أمريكيًّا.
ولكي نفهم قليلًا السياق الذي جرى فيه الترحيب الأمريكي الحار بـ”الكاظمي”، لا بد من العودة إلى الأجواء الصاخبة التي جرى فيها اختيار رئيس الوزراء العراقي الجديد، والتي جاءت على وقع اتهامات من جانب بعض الجماعات السياسية الشيعية التي أشارت -تلميحًا أو تصريحًا- إلى علاقات تربط “الكاظمي” بالولايات المتحدة، والتي وصلت إلى حدّ اتهامه بالضلوع في عملية قتل الجنرال الإيراني “قاسم سليماني” ونائب رئيس هيئة الحشد “أبو مهدي المهندس” في بغداد في يناير الماضي.
في الحسابات السياسية فإن المواقف الأمريكية الواضحة والصريحة تجاه “الكاظمي” تمثل دعمًا مبرمًا لرئيس الوزراء الذي من المتوقع أن يواجه ضغوطًا كبيرة من إيران ومن الجماعات الشيعية المدعومة منها. لكن أن يكون فوز “الكاظمي” بالمنصب انتصارًا سياسيًّا ودبلوماسيًّا لواشنطن واختراقًا للنفوذ الإيراني في العراق كما عبر عنه البعض يبقى أمرًا مشكوكًا فيه إلى حدٍّ كبير.
لكن بعيدًا عن “قرقعة” الكئوس في واشنطن، أو جعجعة قادة الميليشيات الموالية لإيران في بغداد؛ فإن السؤال الذي يواجه المراقبين هو: مِن أين يأتي النفوذ الأمريكي في العراق في الوقت الحاضر؟ وما هي مصادر القوة الأمريكية التي تُتيح لها -كما هي التصورات التي رافقت انتخاب “الكاظمي”- إمكانية البقاء لاعبًا أساسيًّا على رقعة الشطرنج العراقية، وربما صانعًا للملوك والزعامات فيها أيضًا؟.
يأتي على رأس عناصر النفوذ والقوة الأمريكية في العراق، تواجد الآلاف من الجنود الأمريكيين وباقي قوات التحالف الدولي المنتشرين في عدة قواعد عسكرية مع أسلحتهم الثقيلة من طائرات ودبابات وصواريخ وأجهزة استطلاع ومراقبة وتجسس لا مثيل لها على الأرض العراقية. هذا التواجد الأمريكي المتَّفق عليه مع الحكومة العراقية بهدف محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي مصحوب بتواجد رسمي لحلف الناتو الذي يقوم بمهمات تدريبية ولوجستية بالتعاون والتنسيق والإشراف الأمريكي.
إنّ مدى القوة العسكرية الأمريكية في العراق يتجاوز العُدة والعتاد والعدد من القوات إلى هيمنة فعلية على الكثير من عناصر وجزئيات ملموسة وغير ملموسة، دائمة ومؤقتة، مادية ومعنوية، في المشهد العراقي المتعلق بالأمن الوطني، وبآليات أدائه وعمله المختلفة، بحيث يمكن القول إن هناك تشابكًا عميقًا على كل المستويات، العملياتية والإدارية والبشرية، يضع الجانب الأمريكي في مستوى نادر من النفوذ في القيادة والسيطرة والتعاون والاتصالات داخل المنظومة العسكرية والأمنية العراقية، وهي مزايا تُفسر نفسها بنفسها.
تتمتع الولايات المتحدة أيضًا بنفوذ سياسي ودبلوماسي في العراق إلى مدى يجعل من المستحيل على أي حكومة عراقية أن تفكر بفك الارتباط معها، أو محاولة مواجهتها دون ثمن. هذا النفوذ يتمثل مباشرة في القوة السياسية التي تتمتع بها واشنطن، والتي يمكنها ممارستها بأساليب العصا والجزرة كلما اقتضى الحال، أو من خلال الأذرع الدبلوماسية المتمثلة بالمنظمات الدولية والتحالفات التي تُقيمها الولايات المتحدة، وشبكة علاقاتها الدولية والإقليمية التي وظفتها مرات عديدة في التعامل مع العراق خلال السنوات والعقود الماضية.
إن نظرةً واحدةً على عمل بعثة الأمم المتحدة في العراق الذي يتم تحت إشراف مجلس الأمن ونشاطات وكالات الأمم المتحدة الأخرى، وعمل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في العراق؛ توضح إلى أي مدى كان العراق بحاجة للدعم الأمريكي ولنفوذ واشنطن في ضمان مساعدة هذه المنظمات للعراق في جهوده التنموية المختلفة، خاصة في توفير غطاء شرعي دولي للحكومات العراقية المتعاقبة ضد أي محاولة للتشكيك بها أو ملاحقتها، خاصة فيما يتعلق بقضايا الفساد وتبييض الأموال وانتهاكات حقوق الإنسان.
كما تمتلك الولايات المتحدة وسائل تأثير غير محدودة على الاقتصاد العراقي، خاصة القطاع النفطي والقطاعات النقدية والمالية التي برهنت أحداث السنوات الماضية على أنها أشبه ما تكون بخيوط العنكبوت التي تلتف حول مصادر التمويل الأساسية للعراق، والتي بإمكانها خنق الاقتصاد العراقي إذا شاءت. وإذا كانت التأثيرات الأمريكية على القطاع النفطي واضحة من خلال شركات الإنتاج الأمريكية العاملة في العراق، وعلى رأسها إكسون موبيل، أو من خلال شركات التسويق، أو عن طريق منظومة الدفع البترودولاية التي تديرها الخزانة الأمريكية؛ فإن نفوذ وتأثيرات واشنطن على مؤسسات التمويل الدولي التي يحتاجها العراق هي بمثابة البوابة الإلزامية التي تتحكم بالأنظمة المالية والنقدية في العراق.
على مستوى آخر، تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ سياسي واجتماعي واسع في العراق يكاد يكون مهيمنًا بتنوع أشكاله، من علاقات تبعية إلى زبائنية إلى منافع متبادلة مع أطراف في المكونات الأساسية الدينية والطائفية والعرقية في العراق. الولايات المتحدة تقيم علاقات تاريخية استراتيجية مع القيادات الكردية يعرف المتابعون للشأن العراقي تفاصيلها. كما تقيم واشنطن علاقات قوية مع مختلف القيادات السياسية والمجتمعية السنية، سواء بشكل مباشر أو عبر قنوات دول الجوار الإقليمي تم توظيفها خلال السنوات الماضية لتحقيق مكاسب وأهداف مشتركة. في حين أنها تقيم علاقات قوية مع مختلف الأطراف الشيعية الدينية والسياسية والعشائرية، وفي قطاع الأعمال، وفي النخب الاجتماعية، على أساس المصالح المشتركة، ومن بينها حاجة هذه الفئات الشيعية إلى توازن مع إيران ومع الأطراف الأخرى في الداخل.
لا تكتمل صورة النفوذ الأمريكي الكلي في العراق دون إضافة الجزئية الخاصة بالأصول والموارد البشرية الصديقة والحليفة التي بنتها الولايات المتحدة داخل المؤسسات الرسمية العراقية وداخل المجتمع المدني منذ الغزو الأمريكي عام 2003، والتي تُمثل ثروة هائلة وعنصرًا من عناصر القوة الأمريكية الناعمة في العراق. على مدى سبعة عشر عامًا درّبت المؤسسات الأمريكية المختلفة آلافًا من العاملين في المؤسسات العسكرية والأمنية والإدارات البيروقراطية والتعليمية وفي منظمات المجتمع المدني، وارتبطت بآخرين، مما أصبح يشكل مجتمعًا هائلًا يرتبط عبر شبكة مصالح متعددة مع جهات أمريكية، سواء رسمية أو في قطاعات الأعمال المختلفة، أو في مؤسسات راعية للمنظمات الأهلية التطوعية.
وتُمثل الجالية العراقية الكبيرة في الولايات المتحدة عنصرًا فعّالًا من عناصر هذه القوة الناعمة وعلى مستويات عديدة، منها ما هو اقتصادي من خلال الشبكات التي تربط بين الشركات والمصالح التجارية الأمريكية وامتداداتها في العراق، ومنها ما يرتبط بالتمثيل المشترك الذي تقوم به عناصر عراقية/ أمريكية لخدمة منافع متبادلة. إن ما هو متوفر من معلومات يشير إلى أن هذه المنافع المتبادلة بين عراقيي المهجر الأمريكي ومؤسسات وشخصيات في موطنهم الثاني تتجاوز الكثير من الاعتبارات والحدود التي قد تبدو للوهلة الأولى مانعة.
وتوفر شخصيات عراقية تعمل في مراكز بحثية وجامعية أو مؤسسات إعلامية الكثير من الفرص أمام مختلف الجهات الأمريكية للوصول إلى النخب العراقية من صانعي القرار بهدف إقامة صلات وفتح قنوات غير رسمية تُستخدم في التأثير أو الضغوط أو التفاوض وعقد الصفقات بشكل مباشر أو غير مباشر. إن الكثير من هذه الشخصيات التي تنشط في دهاليز واشنطن تُمارس أنواعًا من السمسرة وتسهيل الصفقات، وأصبحت لها آذان صاغية في كل من بغداد وواشنطن، حتى إن معلومات متواترة أشارت دائمًا إلى دورها في تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة ومن بينها الحكومة الجديدة.
ومع هذا فإن أي تقييم بأن لدى الولايات المتحدة يدًا طولى في العراق تتيح لها أن تقوم بما يحلو لها سيكون استنتاجًا في غير محله وغير قائم على وقائع. الحقيقة هي أن إيران أيضًا تمتلك قوى مهيمنة في الساحة العراقية عبر نفوذها الأمني والعسكري والاستخباري والسياسي والاقتصادي والديني والاجتماعي وأذرعها الميليشياوية التي استطاعت بواسطتها خلال سبعة عشر عامًا أن تعرقل المشروع الأمريكي، وتدفع بمشروعها الخاص في الهيمنة على العراق وإخضاعه.
إذن، على إيقاع هذا الصراع الأمريكي-الإيراني جاء “الكاظمي”، وعلى وتيرة توازن القوى بين الطرفين في الداخل العراقي ستمضي حكومته، وهي حقيقة بلورها أول نشاط رسمي قام به “الكاظمي” بعد تسلمه السلطة، وهو استقبال السفيرين الأمريكي والإيراني في بغداد، ومحاولة تمرير رسائل مطمئنة لبلديهما. مهمة إمساك عصا علاقات العراق مع كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران من الوسط مارسها قبل “الكاظمي” خمسة من رؤساء الوزارات السابقين وفشلوا بها جميعًا، وأدى إخفاقهم في كل مرة إلى زيادة نفوذ إيران، وتعظيم أدوار أذرعها السياسية والميليشياوية والاقتصادية والاجتماعية المتعددة.
ليست مشكلة “الكاظمي” الولايات المتحدة وإيران فقط، إذ إن من سوء حظه أن تأتي حكومته وسط مشكلات داخلية قاتلة، على رأسها: مواجهة أزمة كورونا، والضغوط التي خلّفتها على نظام صحي متهاوٍ، والأزمة الاقتصادية الأشد فتكًا المتمثلة في انهيار موارد النفط التي اضطرته في أول قرار يتخذه للبدء فورًا بإجراءات الحصول على قروض محلية ودولية لمواجهة مستحقات مالية عاجلة كرواتب الموظفين ومعاشات المتقاعدين. هذه الأزمات وما سيتولد عنها من معضلات وتحديات ستضع “الكاظمي” أمام خيارات صعبة سوف تعتمد الطريقة التي سيواجهها بها على الخبرات السياسية التي اكتسبها، وعلى مهارات القيادة التي تعلمها خلال فترة قصيرة جدًّا في العمل الحكومي، وهي مؤهلات لم يختبرها العراقيون ولا جيران العراق ولا المجتمع الدولي، مما يثير الكثير من التساؤلات والشكوك والمخاوف أيضًا. أما واشنطن وطهران فأمامهما الكثير هذه المرة كي يستعيدا الملعب العراقي.