اعتمد رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في حملته الانتخابية على وعد انتخابي بضم منطقة غور الأردن وشمال البحر الميت إلى السيادة الإسرائيلية. وأثناء اتفاقه (أي نتنياهو) على تشكيل حكومة موحدة مع “بيني جانتس” (حكومة بالتناوب الرئاسي بينهما) حرص أن يشمل الاتفاق (بند رقم 29) ضم “مناطق” من الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية في الأول من يوليو من هذا العام.
ولذلك، يسارع “نتنياهو” من أجل إتمام قرار الضم وفرض السيادة الإسرائيلية على منطقة جغرافية تشكل حوالي 17% تقريبًا من مساحة الضفة الغربية، ويستوطنها ما يقرب من 19 ألف مستوطن. وهو سياق تثار بشأنه أسئلة تتعلق بدلالات توقيت القرار، ودوافعه، وتداعياته.
دلالات التوقيت
بعد وصول “ترامب” للبيت الأبيض، واعتزام إدارته بدء الترويج لخطته لتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي على أساس حل الدولتين، واستخدامه لأول مرة مفهوم “صفقة القرن” في أبريل 2017؛ قام حزب الليكود في 31 ديسمبر 2017 بعقد مؤتمر عام من أجل التصويت على ضم مناطق من الضفة الغربية تشمل غور الأردن، بعد مشاورات مع رؤساء الأحزاب الإسرائيلية قادها “نتنياهو”، في رسالة ضمنية إلى إدارة “ترامب” بأن إسرائيل لن توافق على خطة سلام لا تشمل سيادتها على تلك المناطق المذكورة.
وتدرك الحكومة الإسرائيلية الجديدة أنه في ظل انشغال العالم بأزمة كورونا وتداعياتها المختلفة، فإنه يُمكنها (إسرائيل) التمتع بهامش حركة كبير يسمح لها بإعلان قرار الضم دون تداعيات أو تكاليف خطيرة. كما تسببت أزمة كورونا في التشويش على المشهد السياسي الأمريكي والمسارات المحتملة للانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة (نوفمبر 2020)، مما يدفع إسرائيل إلى اقتناص هذه “الفرصة” دون الدخول في حسابات غير يقينية تتعلق بنتائج هذه الانتخابات. وهو الإدراك ذاته تقريبًا لدى “ترامب”، مما دفعه إلى إرسال وزير خارجيته إلى إسرائيل في زيارة مرتقبة يوم الأربعاء المقبل (13 مايو 2020) من أجل مناقشة قرار ضم الغور، وفحص النتائج التي توصلت إليها اللجنة الأمريكية-الإسرائيلية المشتركة لتعيين الحدود في الضفة. سبق هذا الترتيب تصريحات سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل “ديفيد فريدمان” الذي أكد أن قرار ضم الغور هو مسألة إسرائيلية خالصة.
على المستوى الشخصي، فإن “نتنياهو” يرغب في أن يسجل في تاريخه وفي تاريخ حزب الليكود قرار ضم غور الأردن؛ ليكسب بذلك حزب الليكود رصيدًا شعبيًا يؤهله للتربع على ذروة الحياة السياسية الحزبية في إسرائيل.
هناك عامل آخر يقف وراء هذا القرار الإسرائيلي يتعلق بأزمة الثقة السياسية التي تُلقي بمؤشراتها على المجتمع الإسرائيلي، والتي اتضحت ملامحها البارزة عند المجتمع الحريدي الذي لم يعد يثق في تحركات الحكومة ووعودها، مما يضفي على قرار ضم الغور طابعًا سياسيًّا تعالج به الحكومة هذه الأزمة. يستدل على ذلك بقرار العصيان الذي أعلن عنه المجتمع الحريدي رافضًا تعليمات جهاز الشرطة بعدم التجمع خوفًا من انتشار فيروس كورونا المستجد. ويُعزَى ذلك إلى أن المجتمع اليهودي المتشدد (الحريديم) استشعر عدم جدية “نتنياهو” في إعلان السيادة على الضفة الغربية.
وأخيرًا “تراهن” الحكومة الإسرائيلية على ردود الفعل الفلسطينية المحدودة، على غرار ردود الفعل على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
الرأي العام الإسرائيلي
كتب السفير الأمريكي لدى إسرائيل ورئيس اللجنة الأمريكية-الإسرائيلية المشتركة لتعيين الحدود في الضفة الغربية “ديفيد فريدمان” مقالًا افتتاحيًّا في صحيفة “ذا نيويورك بوست” (4 مايو 2020)، أشار فيه إلى أن قرار ضم غور الأردن هو قرار ديمقراطي يستجيب لتطلعات المجتمع الإسرائيلي، مستدلًا على ذلك بفوز “نتنياهو” في الانتخابات الماضية (مارس 2020) بعد وعده بضم غور الأردن.
واقع الأمر أن مقالة “فريدمان” تتضمن مغالطة فيما يتعلق بموقف الرأي العام الإسرائيلي من مسألة ضم غور الأردن، وهو ما يكشفه عدد من استطلاعات الرأي العام الأخيرة في إسرائيل، نشير إلى ثلاثة منها أجرتها مؤسسات صحفية وبحثية إسرائيلية مختلفة. الأول، هو استطلاع الرأي الذي أجراه “معهد دراسات الأمن القومي” (في ديسمبر 2019)، والذي أوضح أن 7% فقط من الإسرائيليين يؤيدون إعلان السيادة على الضفة الغربية، 8% يؤيدون ضم المنطقة ج (التي تشمل غور الأردن، وتشكل 60% من مساحة الضفة الغربية). الثاني، ما أشارت إليه صحيفة “والا نيوز” الإسرائيلية (مايو 2020)، من أن 35% من المجتمع الإسرائيلي، أغلبهم من مستوطني الضفة الغربية، يؤيدون ضم غور الأردن، في حين أن 75% يرفضون الضم، أو يتحفظون على الإجابة. الثالث، هو الاستطلاع الذي أجرته حركة “قادة من أجل أمن إسرائيل”، وتم نشره على صحيفة “يديعوت أحرونوت” (مايو 2020)، والذي أوضح أن 26% فقط من الإسرائيليين يؤيدون قرار ضم غور الأردن. وتجدر الإشارة إلى أن نتيجة الاستطلاع أوضحت أن ثلث ناخبي حزب الليكود يؤيدون قرار الضم ويرفض القرار الثلثان المتبقيان.
يعني ذلك أنه ليست هناك علاقة سببية مباشرة بين فوز “نتنياهو” بالانتخابات الماضية ووعده الانتخابي بضم غور الأردن. كما لا توجد علاقة أيضًا بين القرار المتوقع ونتائج استطلاعات الرأي العام. لكن في مقابل ذلك، يتضح تناقض آخر يجب أن يلتفت إليه أي تقدير لدوافع إسرائيل بضم غور الأردن، وهو أن استطلاعات الرأي تشير إلى أنه بسؤال الإسرائيليين عن رأيهم بشأن حل الدولتين تذهب النتائج إلى أن 40% فقط من الإسرائيليين يؤيدون حل الدولتين، مع تناقص هذه النسبة عامًا تلو آخر.
الدوافع والتداعيات
يقول خبير علم النفس السياسي الإسرائيلي “جلعاد هيرشبرجر”: “إن الإسرائيليين براجماتيون، يؤمنون بقيم ليبرالية معتدلة، ولكن تثيرهم الاعتبارات الأمنية بشكل براجماتي بحت، فتجده يلفظ جميع هذه القيم الليبرالية”. يفسر هذا التحليل النسبة المتناقصة من الإسرائيليين لحل الدولتين؛ وذلك لأن الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتعاقبة نجحت في خلق انطباع ذهني عام لدى الإسرائيليين بأن إقامة دولة فلسطينية بجوار إسرائيل يعني صعود حركات راديكالية مسلحة تُهدد أمن وبقاء إسرائيل.
لذلك تحاول حكومة “نتنياهو” ومؤسسة الجيش الإسرائيلي محاكاة ذات الاعتبارات (أي الأمنية) على تقدير دوافع إسرائيل من ضم غور الأردن، وهي:
1- ضمان أمن إسرائيل من الناحية الشرقية: إذ يحتل غور الأردن شريطًا جغرافيًّا بامتداد حدود إسرائيل مع الأردن، مما يسمح لأي كيان فلسطيني في الضفة الغربية بسهولة التواصل مع الفلسطينيين المتواجدين على الشريط الحدودي المقابل للضفة الغربية، كما يسمح بنقل الدعم بكافة صوره بين الأردن والضفة، وبالتالي خلق ارتباط عضوي بينهما. وترى إسرائيل هذا الارتباط مهددًا أمنيًّا خطيرًا على بقائها، مما يدفعها إلى فك هذا الارتباط من خلال ضم غور الأردن إليها والسماح بطرق تجارية محدودة تكون تحت سيطرة الحكومة الإسرائيلية.
2- الدفاع عن العمق الاستراتيجي للقدس: أخذًا في الاعتبار أن خطة السلام الأمريكية تستهدف أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل، بما يشمله ذلك من المستوطنات الكبيرة في القدس الشرقية، وهي الخطوة الإسرائيلية التي ستلي قرار ضم الغور. وتفترض الرواية الإسرائيلية أن الاستقرار السياسي في الأردن مُهدَّد، ويحمل معه سيناريوهات خطيرة على أمن إسرائيل. يضاف إلى ذلك تراكمات المشهد الأمني المتدهور في سوريا ولبنان الذي قد يسمح بتدفق عناصر إرهابية من ناحية الشرق، وبالتالي ترى إسرائيل وجوب حماية المستوطنين في القدس الشرقية من خلال فرض ضم الغور، وإقامة قواعد عسكرية جوية وبرية في الإقليم.
لكن في الحقيقة جميع ما سبق من دوافع تخرج من الرواية الإسرائيلية التي ترغب إسرائيل في نقلها للمجتمع الإسرائيلي أولًا، وللمجتمع الدولي ثانيًا. أما الدوافع الاستراتيجية من القرار، فيمكن توضيح أبرزها فيما يلي:
1- إعادة هندسة المجتمع الإسرائيلي: تطورت قناعة لدى الحكومات “اليمينية” المتعاقبة بأن إسرائيل في حاجة إلى زيادة أعداد الحريديم من خلال توزيعهم في مناطق زراعية واسعة، وبالتالي فإن ضم غور الأردن سيمكّن الحكومة من بناء مستوطنات شرعية وبأعداد كبيرة في غور الأردن. يتضح ذلك في سماح حكومة “نتنياهو” بتسلل المستوطنين إلى المنطقة (ج)، وتشكيل عصابات إجرامية مثل “شبيبة التلال” لطرد السكان الفلسطينيين من الغور.
ويُسهم تعزيز ديموغرافيا المجتمع الحريدي بإسرائيل في نشر القيم اليهودية وتعميم هذه القيم على الهيكل الاجتماعي لإسرائيل.
2- حل الدولة ونصف الدولة: يسهم قرار ضم الغور في انهيار حل الدولتين بناء على التفاهمات التي شملتها اتفاقية أوسلو وهو الانسحاب الإسرائيلي التدريجي من الضفة الغربية وإقامة دولة فلسطينية. بخلاف أن إسرائيل ترفض تمامًا حل الدولة الواحدة، بسبب التكوين الديموغرافي الذي يصب في صالح الفلسطينيين.
ولذلك يتبقى حل الدولة ونصف الذي يُعد حلًّا هجينًا بين الاثنين، يُمنح بمقتضاه الفلسطينيون نصف دولة في الضفة الغربية؛ لعدم وجود عمق استراتيجي لهذه الدولة المنقوصة. ويعود ذلك لأن غور الأردن هي الخاصرة الاستراتيجية للضفة الغربية التي تزخر بالثروات الطبيعية مثل التربة الخصبة، والمياه الجوفية، والمناخ الممتاز للزراعة، والثروة الحيوانية. أي إن الغور هو الظهير الاستراتيجي للفلسطينيين في الضفة، وبدونه ستعتبر الضفة جزيرة محاصرة من جميع الجهات.ختامًا، يمكن القول إن قرار ضم الغور هو رهان إسرائيلي على التوقيت وعلى انخفاض حدة رد الفعل المتوقع من الفلسطينيين والمجتمع الدولي بسبب أزمة كورونا، وهو رهان غير محسوب النتائج أو العقبات. كما أن القرار الإسرائيلي بضم غور الأردن يستهدف بالأساس القضاء على حل الدولتين، وتعزيز “يهودية” إسرائيل قيميًّا وديموغرافيًّا. وفي حالة الموافقة المتوقعة من الولايات المتحدة على قرار الضم فسيقضي ذلك على مبادئ خطة “ترامب”، وهي إنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي على أساس “حل الدولتين”، وعلى أساس “التفاوض” مع الفلسطينيين.
باحث بوحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية