أثار إعلان السودان عن رفضها توقيع اتفاق جزئي مع إثيوبيا بشأن الملء المبدئي لبحيرة سد النهضة، أسئلة بشأن حدود التغير في الموقف السوداني من ملف سد النهضة، وآفاق هذا التغير وتأثيره على مجمل الموقف المتأزم بين مصر وإثيوبيا.
بداية، لا بد من رصد دلالة حرص السودان على الإعلان عن الرسائل بين كلٍّ من رئيس الوزراء السوداني ونظيره الإثيوبي “آبي أحمد”، حيث يشير هذا الإعلان -من ناحية- إلى حرص سوداني على تحجيم الجموح الإثيوبي في مجمل ملفات العلاقات الثنائية بين البلدين، سواء المتعلقة بسد النهضة، أو المتعلقة بالإعلان عن تشييد سد إثيوبي جديد مؤثر على نهر عطبرة دون إخطار كل من السودان وإريتريا، أو المتعلقة بالانتهاكات الأخيرة للحدود السودانية التي جرت مؤخرًا، وتطلّبت زيارة من رئيس المجلس السيادي الفريق “عبدالفتاح البرهان” لهذه المناطق، وزيارة من رئيس أركان الجيش الإثيوبي للسودان في محاولة لنزع فتيل التوتر بين البلدين ولو مؤقتًا.
ويبدو لنا أن معطيات الموقف السوداني من رفض التوقيع على اتفاق ثنائي بشأن ملء بحيرة سد النهضة له أبعاد محلية وإقليمية ودولية.
محليًّا، بدا الموقف السوداني ملبيًا لاحتياجات المزاج العام في الشارع السياسي، المتطلع إلى التخلص من سياسات المحاور التي انتهجها النظام السابق، وبالتالي محاولة بناء وزن إقليمي مستقل من جهة، وملبيًا للمصالح السودانية الخالصة من جهة أخرى. ورغم الصعوبات المحيطة بذلك والمرتبطة بتعقيد وتركيب النزاعات والتنافسات الإقليمية؛ فإن هذا الاتجاه لا بد أن يصب في صالح شعبية الحكومة الانتقالية، ورئيس وزرائها، ويشير إلى أن حالة السيولة في الموقف السوداني بعد الثورة قد بدأت في التماسك للتعبير عن مصالح مؤسسة الدولة في السودان ومصالحها. هذا التماسك ساهم في بلورته إلى جانب المكون المدني المؤسسة العسكرية السودانية، وذلك بعد تفاعل مع ملفات وزارة الري والموارد المائية السودانية.
أما على المستوى الفني، فإن الحديث السوداني عن سلامة السد، وقواعد الملء والتخزين المستدامة لهو حديث نادر على المستوى الرسمي، وإن كان مثار جدل في المجال العام السوداني وعلى صفحات التواصل الاجتماعي خلال الشهور الثلاثة الأخيرة. فقد قال رئيس لجنة التفاوض السودانية الدكتور “صالح حمد” إن “معظم القضايا تحت التفاوض، وأهمها آلية التنسيق وتبادل البيانات وسلامة السد والآثار البيئية والاجتماعية، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا، ليس فقط بالملء الأول وإنما بكل مراحل الملء والتشغيل طويل المدى، وبالتالي لا يمكن تجزئتها”.
وفي السياق الإقليمي، فإن عددًا من المعطيات لا بد من أخذها في الاعتبار سودانيًّا، ومنها:
– أن الدعم الاقتصادي للسودان هو في مجمله دعم عربي، وأن هذا الدعم في سياقة الخليجي، رغم تقلصه مؤخرًا وارتباطه بمؤتمر المانحين الدوليين، لكنه يظل مؤثرًا، وممتدًّا أيضًا إلى السياقات السياسية، خصوصًا جهود الرياض مثلًا في مسألة رفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وربما جهود مصرية غير معلنة.
– أن استراتيجيات الخليج المعلنة في اعتبار البحر الأحمر له أهمية استراتيجية لأمن الخليج، يجعل الحرص الخليجي على استقرار الضفة الغربية للبحر الأحمر ودوله المتاخمة أمرًا مطلوبًا ولا يمكن التضحية به في ضوء حالة الغليان في اليمن وباب المندب.
– أن السودان بلد واعد للاستثمار الخليجي في مجال الموانئ، وتطوير الجزر بالبحر الأحمر، وبالتالي من المهم الحفاظ على روابطه وعلائقه العربية، وذلك بالمخالفة للتوجهات الإثيوبية الاستراتيجية في ربط السودان بدول القرن الإفريقي.
– بروز متغيرات مرتبطة بتراجع ثمن وقيمة النفط في أسواق الطاقة المستقبلية ستكون له انعكاساته على الأوزان والسياسات واتجاهات الاستثمار الخليجية في منطقة القرن الإفريقي، وكلها متغيرات سوف تكون لها انعكاساتها الإيجابية على الوزن الإقليمي المصري، وهو ربما ما تأخذه السودان بعين الاعتبار.
– أن اقتصادات سد النهضة المعلنة من جانب إثيوبيا، وخصوصًا في مسألة توليد الكهرباء، تبدو غير منضبطة على المستوى الفني، وربما غير فعالة بالنسبة للسودان في ضوء أمرين؛ الأول عدم صحة الرهان الإثيوبي فيما يتعلق بتصدير الكهرباء لمصر، والثاني نجاح مصر في تصدير الكهرباء للسودان.
– أن مصر جاهزة على المستوى اللوجيستي لتقديم كافة أنواع التعاون مقارنة بإثيوبيا التي أوصلت دعمًا طبيًّا في سياق جائحة كورونا لدول إفريقية، منها السودان، صيني المصدر مدفوعًا ثمن نقله على الخطوط الإثيوبية.
أما عن المعطيات الدولية في القرار السوداني فتبدو واضحة، ذلك أنه تمت الإشارة بشكل واضح في بيان وزارة الري والموارد المائية السودانية إلى التمسك السوداني بمسار واشنطن، الذي تم الاتفاق بين الدول الثلاث على ٩٠٪ من مكوناته حسب منطوق البيان، وهو الأمر الذي يعني توافقًا سودانيًّا مع المطلب المصري بعدم التخلي عن هذا المسار، خصوصًا بعد توجه مصر إلى مجلس الأمن وتقديم شكوى ضد إثيوبيا. ورغم ذلك يبدو لنا أن هذا التوافق السوداني مع مصر مرتبط أيضًا بالمصالح السودانية مع واشنطن، ذلك أن رفع اسم السودان من على قائمة الدول الراعية للإرهاب يجعل الخرطوم لا تستطيع إهمال التوجهات الأمريكية إزاء سد النهضة، والتي قالت بوضوح إنه لا ملء لبحيرة السد دون اتفاق، وهو الأمر الذي انعكس على محاولة رئيس الوزراء السوداني “عبدلله حمدوك” القيام بوساطة بين مصر وإثيوبيا كانت محلًّا لبحث مع وزير الخزانة الأمريكي في مارس الماضي، ولكن يبدو أن “حمدوك” لم يحصل على ضوء أخضر أمريكي بهذا الشأن.
على الصعيد المصري، يُنظر للقرار السوداني بارتياح بالتأكيد. ولكنّ مزيدًا من التحسن في الموقف السوداني، وضمان استدامته بشكل إيجابي إزاء مصر، سواء في ملف سد النهضة أو غيرها؛ يتطلب تطويرًا لأداء القاهرة وأدواتها لتعتمد أكثر على الأبعاد غير الرسمية، وتستطيع بذلك احتواء موقف قطاعات من الأجيال الجديدة التي تحمل بعض التوجهات المعادية ضد مصر على خلفية تباطؤ تفاعلها الإيجابي مع الثورة السودانية مقارنة بالموقف الإثيوبي.