تُشكل خطوة رفع السودان من قائمة الدول “غير المتعاونة” في مكافحة الإرهاب تطورًا مهمًّا في العلاقات السودانية الأمريكية على وجه التحديد، وعلاقاتها مع القوى الدولية الأخرى على وجه العموم، علاوة على كونها خطوة جوهرية في رفع السودان بشكل كامل من قائمة الدول الراعية للإرهاب، التي تم وضعها فيها منذ عام 1993 على خلفية استضافة مؤسس تنظيم القاعدة “أسامة بن لادن” خلال الفترة (1992-1996)، حيث جاءت القائمة المُحدثة الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية في الثالث عشر من شهر مايو 2020 لتخلو من اسم السودان، في حين أبقت على دول أخرى.
خطوات سودانية متسارعة
في عام 2017، وبعد مباحثات مشتركة، أعلنت الولايات المتحدة تخفيف بعض القيود المفروضة على السودان، الأمر الذي شكَّل دافعًا نحو تحرك الإدارة السودانية الجديدة منذ إقالة الرئيس السوداني السابق “عمر البشير” -على خلفية الحراك الشعبي الذي دام قرابة عام- لمواصلة العمل في ذلك الملف، حيث جاء رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب على رأس أولويات الحكومة، نظرًا لما تُشكله تلك المسألة من تحديات كبيرة تواجه مسار التحول السياسي والاقتصادي المنشود، والذي لن يتحقق إلا بعودة السودان إلى التفاعل مرة أخرى على الصعيد الدولي ومع المؤسسات التمويلية المختلفة.
ولتحقيق هذا الهدف، عملت الدبلوماسية السودانية بجدية شديدة منذ اللحظة الأولى، الأمر الذي تجلى في زيارة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك للولايات المتحدة في ديسمبر 2019، والتي شهدت عقد مباحثات مطولة مع وزارتي الخارجية والخزانة الأمريكيتين، علاوة على التواصل بين مجلس السيادة الانتقالي وبين وزارة الخارجية الأمريكية في نهاية أبريل الماضي والذي حمل رسائل طمأنة للجانب السوداني وفقًا لما أبداه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو.
غير أن هذا الملف لم يكن مقصورًا على الداخل السوداني، بل عملت الخرطوم على حشد الدعم الدولي لمساعيها على الصعيد الأوروبي والإفريقي والخليجي، حيث دعمت كلٌّ من مصر والسعودية والإمارات ذلك التحرك ومؤيدة رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب إبان انعقاد الدورة الرابعة والسبعين للأمم المتحدة.
وعالميًّا، تلقت السودان دعمًا مهمًا عكسته تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 30 سبتمبر الماضي باستمرار العمل على دعوة الولايات المتحدة لرفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، علاوة على ما أوضحه المبعوث الفرنسي الخاص للسودان وجنوب السودان من سعي فرنسا لإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وتخفيف عبء الديون، فضلًا عن دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إلى إلغاء تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب، وإزالة جميع القيود والعقوبات المفروضة عليه.
استجابة إيجابية لمطالب أمريكية صعبة
لقد وضعت الولايات المتحدة جملة من المطالب المختلفة الواجب تنفيذها من جانب السودان في سبيل حذفها من قائمة الإرهاب، من بينها ملف تسوية النزاعات والصراعات المسلحة الداخلية، فضلًا عن النظر في ملف أسر ضحايا هجوم المدمرة “كول”، وتعديلات تشريعية بحق قوانين النظام العام، وتجلى ذلك في الكثير من التصريحات الرسمية الأمريكية؛ ففي هذا الإطار أكد المبعوث الأمريكي الخاص بالسودان، دونالد بوث، خلال لقائه وزيرة الخارجية السودانية في منتصف ديسمبر الماضي أن إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب يحتاج إلى وقت، وهو ما يتطلب السعي لتنفيذ قائمة الطلبات التي تريدها الولايات المتحدة، وهو ما يتسق مع ما صرح به مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشئون الإفريقية، تيبور ناجي، من أن رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب ليس قرارًا بل عملية مركبة تستند إلى إجراءات يجب أن تراها الإدارة الأمريكية تُنفذ على أرض الواقع.
وقد تمثلت استجابة حكومة السودان في عدد من الخطوات، كان أولها وأهمها التوصل إلى تسوية مع أسر الضحايا الأمريكيين؛ فقد أعلن رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك في ديسمبر الماضي قبول حكومته الاعتراف بمسئولية السودان عن الأخطاء السابقة لحكومة الإنقاذ، ومن ثم عمله على إبرام اتفاقيات مع عائلات ضحايا تفجير السفارة الأمريكية التي تمت عام 1998، وتفجير المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول” في عام 2000، خاصة أن تلك المسألة كانت من بين الخطوات الضرورية لاستكمال مسار رفع السودان عن لائحة الدول الراعية للإرهاب، وذلك وفقًا لما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو. كما أبدت الحكومة السودانية موقفًا إيجابيًّا تجاه حكم المحكمة العليا الأمريكية الصادر في التاسع عشر من مايو 2020 والذي تضمن إلزام السودان بدفع تعويضات لضحايا الهجمات الإرهابية التي استهدفت سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا في أغسطس 1998، وعلى ضوء ذلك القرار أصدرت وزارة العدل السودانية بيانات أوضحت تطلع السودان إلى تسوية قضايا التعويضات المالية مع واشنطن.
مؤشرات مُحفزة
حمل التوجه الإيجابي الأمريكي الأخير حيال قضية السودان الكثير من الدلالات والمؤشرات، بالتزامن مع الكثير من المتغيرات المختلفة التي شهدتها البيئة السودانية، يمكن توضيحها فيما يلي:
1- التغيرات الجذرية في المشهد السوداني: شكلت التغييرات المتلاحقة في البنية السياسية الداخلية في السودان دافعًا مهمًّا نحو دفع واشنطن بملف رفع السودان من قوائم الإرهاب، خاصة بعد إقالة الرئيس السابق عمر البشير في أعقاب الحراك الشعبي السوداني، وتشكيل حكومة توافقية مع القوى السياسية المختلفة وعلى رأسها قوى الحرية والتغير بما يمهد للانتقال لحكم ديمقراطي كأحد المطالب الأمريكية، فضلًا عن التفاعلات المختلفة التي شهدتها الساحة السودانية الداخلية، خاصة مع مناطق النزاع المسلح، حيث جاءت زيارات عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني، إلى عدد من مناطق النزاع المسلح (إقليم دارفور، منطقة كاودا بولاية جنوب كردفان، مدينة الدمازين بولاية النيل الأزرق) التي تسيطر عليها الحركات المُسلحة لتدلل على أن هناك نهجًا مغايرًا تمامًا لما كان عليه الوضع إبان حكم البشير، خاصة في إطار المناطق ذات الطبيعة الخاصة.
2- عودة السودان تدريجيًّا للمنصات العالمية: فقد جاءت الدعوة الرسمية من قِبل الأمم المتحدة لمشاركة السودان في القمة العادية السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (74)، لتُجسد معبرًا مهما للتعاطي الدولي مع ملف السودان، وهي الأولى من نوعها منذ نحو ربع قرن بعد عزلة سياسية واقتصادية ودبلوماسية فاقمتها إدانة المحكمة الجنائية الدولية للرئيس السابق عمر البشير بالتوازي مع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة. وتمثل هذه العودة السودانية للمحافل الدولية خطوة مهمة تلتها خطوات أخرى مهمة كزيارة رئيس الوزراء السوداني لفرنسا، واستقبال السودان مسئولين دوليين رفيعي المستوى.
3- الالتفاف الأوروبي والزخم الدولي: منذ بداية الحراك شهدت القوى الأوروبية التفافًا حول السودان، ودعمت مسار الحراك الشعبي وحتمية التغيير المنشود. وبعد التحول الجذري الذي شهدته السودان لاقت اهتمامًا كبيرًا من تلك القوى؛ فقد عقدت بريطانيا بالتعاون مع السويد ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (أوتشا) اجتماعًا مطلع يناير من العام الجاري بحضور ممثلين عن دولة السودان و19 مانحًا دوليًّا بغرض تكثيف المساعدات الإنسانية المقدمة للسودان في 2020، كما جاء القرار تماشيًا مع اجتماعات مجموعة “أصدقاء السودان” الذى انعقد آخرها في السويد في فبراير الماضي، وخلصت مخرجاته إلى عقد مؤتمر لدعم الاقتصاد السوداني وتقديم كافة أوجه الدعم لتقليل الديون والدفع بالاقتصاد إلى الأمام، وهو ما يعتبر نقطة مهمة في تعافي السودان من التراجع الاقتصادي، وورقة جيدة لمعالجة تراكمات الفترة السابقة على خلفية الصراعات المسلحة المختلفة وما أنتجته من حالات إنسانية ونازحين. ويأتي انفتاح أطراف دولية مهمة على السودان ليمثل ضغطًا على الإدارة الأمريكية، وذلك على ضوء الدعوات المستمرة لواشنطن لرفع السودان من قوائم الإرهاب من جانب الأمين العام للأمم المتحدة وفرنسا وعدد آخر من الدول الأوروبية، فضلًا عن القوى الإقليمية الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات.
انعكاسات مختلفة
لقد نتج عن إدراج السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب خسائر سياسية واقتصادية عديدة، قدرها البعض بحوالي 350 مليار دولار، نتيجة لتوقف التدفقات المالية والتسهيلات الدولية، الأمر الذي حال دون تمكن السودان من إجراء التحويلات المالية مع المؤسسات المالية الدولية، فضلًا عن القيود المختلفة التي تفرضها قائمة الإرهاب الأمريكية مثل المساعدات الخارجية التي تقدمها الحكومة الأمريكية، وحظر صادرات الدفاع ومبيعات الأسلحة، وكذلك تقييد تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج إلى السودان وبعض السلع الزراعية الاستراتيجية والأجهزة الطبية، فضلًا عن فقد الخرطوم لنسبة كبيرة من الأساطيل الجوية والبحرية بسبب نقص قطع الغيار ووقف أعمال الصيانة، الأمر الذي أدى إلى حدوث اختلالات مالية وتراجع اقتصادي كبير. وبهذا المعنى، فإن رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب يمكن أن يُحدث تغييرات إيجابية متعددة.
وتتمثل أهم التغييرات الإيجابية المتوقعة في فتح الباب للسودان أمام استقبال دعم الهيئات الدولية المانحة، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومن شأن ذلك أن يعزز فرص السودان في استقبال الاستثمارات الدولية، كما يفتح المجال أمام مشاركة السودان في المنتديات الاقتصادية المختلفة تمهيدًا لدمج البلاد في النظام المالي الدولي وتسهيل الاستثمار.
ختامًا؛ فقد شكل وضع السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب جملة من التأثيرات السلبية، خاصة على الجانب الاقتصادي، إلا أن ما أبدته الحكومة الانتقالية السودانية من التزام كبير بالانفتاح الإيجابي على المطالب الأمريكية، يقدم مؤشرات قوية على إمكانية رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب في المستقبل القريب، الأمر الذي ينتظر أن تتعدد نتائجه الإيجابية على المستويين السياسي والاقتصادي.