ليس هناك أغرب من التصريح الإثيوبي الذي صدر مؤخراً على لسان وزير خارجيتها «جيدو أندارجاشيو» بأن مصر تخوض حالياً «مقامرة سياسية» فيما يخص ملف «سد النهضة»، واصفاً الدعاية المصرية أيضاً بـ«المبالغة». جاء هذا الحديث الموجه إلى الإعلام الإثيوبي والعالمي غداة الإعلان عن فشل جولة المفاوضات الأخيرة التي جرت بالخرطوم، والتي تعثرت كالعادة بسبب التعنت والمراوغة الإثيوبية التي وقفت حجر عثرة أمام تحديد أطر قانونية ملزمة، توقع عليها الدول الثلاث وتعلن التزامها بها وتصير مرجعية يمكن العودة إليها مستقبلاً، وظلت إثيوبيا طوال تلك الجولة كسابقتها تريد سحب الأمر إلى مربع «التفاهمات»، وهو المفهوم المطاط الذي يصعب عادة في التطبيق العملي الإمساك بمفرداته، أو الاحتكام لنص ملزم له طبيعة الاحترام من الأطراف الموقعة عليه.
على غرابة اتهام مصر بـ«المقامرة» بالنظر إلى مسارها التعاوني مع أديس أبابا والخرطوم منذ بداية أزمة سد النهضة وحتى الآن، يبدو الأمر كأنه قلب فاضح لعجلة الروليت وفق التوصيف الإثيوبي، وهو نوع من دفع التهمة المتلبسة بالمتحدث الذي يحاول صرف الأنظار عما هو عليه، ويشاهده الجميع بالمناسبة حتى وإن خجلوا من التصريح به، فما تقوم به إثيوبيا منذ اللحظة الأولى للإعلان عن مشروع «سد النهضة» لا يخرج عن كونه مقامرة كبرى وممتدة تحاول أن تصل بها أديس أبابا إلى أكبر مكاسب ممكنة، والمقامرة هنا بمعنى ممارسة كافة أشكال الخداع الذي تُستخدم فيه الدبلوماسية والإعلام وترويج المصطلحات المزيفة عبرهما من أجل محاولة بناء شخصية وجسد وروح لرواية خيالية لا تمت للواقع والحقيقة بصلة، ولديها قدرة القفز على كافة الاعتبارات السياسية الرشيدة للدول التي يهمها المكانة وحسن السمعة، بالقدر الذي يجعلها تسعى للانضباط في سلوكها، سواء كان فعلاً أو ردة فعل لموقف وأحداث تتفاعل معها تلك الدولة.
أول وأشهر المفاهيم الإثيوبية المزيفة، الذي جرى صناعته واستحضاره طوال جولات المباحثات حول «سد النهضة»، هو محاولة إيهام الجميع بأن الفقر الإثيوبي هو نتاج لاستيلاء مصر التاريخي على مياه نهر النيل، ومن ثم تمكنت من الاستفادة من المياه والكهرباء في الوقت الذي قامت فيه بحرمان إثيوبيا من حقوقها السيادية باعتبار النهر ينبع من أراضيها. التزييف الساكن في كل حرف من مثل تلك المفاهيم، تحتاج مصر في اللحظة الراهنة إلى أن تقوّضه بشكل عاجل، فمصر يقيناً ليست هى السبب في فقر إثيوبيا ولا في ظلام إثيوبيا، بل إن مصر أكدت طوال الوقت على احترامها لحق إثيوبيا في التنمية وفى توليد الكهرباء من السد بالخصوص، في الوقت الذي تُخفى فيه أديس أبابا أنها طوال تاريخها كان أمامها العديد من الفرص والوقت الكافي لصناعة مشروع نمو حضاري ظل متعثراً طوال الوقت ليس بسبب مصر إنما بسبب الصراعات الداخلية العنيفة التي خاضتها إثيوبيا فيما بين مكوناتها العرقية، والبعض مع جيرانها والحركات الانفصالية التي لم تهدأ طوال عقود رغبة في الإفلات من سيطرة المركز وسطوته. ولذلك ظلت إثيوبيا لعقود طويلة منغمسة في عديد من التوترات الخارجية مع جيرانها (السودان، وأريتريا، والصومال، وكينيا)، ولكل من تلك الدول تاريخ دامٍ ومعقد مع إثيوبيا، ما بين النزاعات الحدودية وبين تدخلات أديس أبابا في شئونها بصورة لم تقبلها كثير من أنظمة الحكم لتلك الدول، بل وسكانها المحليون الذين شاء حظهم العثر أن يتجاوروا مع الحدود الإثيوبية.
هذه الفصول من التاريخ الذي تعمل إثيوبيا على إخفائه طوال الوقت الراهن على الأقل يلزم مصر العمل على إعادة التذكرة به طوال الوقت أيضاً، والتأكيد على أننا دولة مستقرة ليس في قاموسها الدخول في نزاعات من هذا النوع، ولن ننجرّ إلى مشهد مماثل من مشاهد ضربت المشرق الأفريقي لسنوات، وما زال الكثير منه حاضراً حتى الآن حتى، وإن كان يمور أغلبه تحت السطح، فحقوق مصر القانونية في مياه النيل ليست استثناء مما هو معمول به في العالم أجمع، الذي عرف مفهوم الأنهار الدولية منذ عام 2500 قبل الميلاد، وكانت حول استغلال المياه في نهر «دجلة»، ومنذ عام 805 بعد الميلاد فإن هناك (3600 اتفاقية دولية) تتعلق بتوزيع المياه، وتنظيم استخدامها بين الأطراف المشاركة في نهر أو بحيرة تشترك فيها أكثر من دولة. كما أنه بين عامي 1820 و2007 جرى توقيع (450 اتفاقية دولية) خاصة بالأنهار، وقع منها (150 معاهدة) خلال الخمسين عاماً الأخيرة وحدها. وبالنظر إلى دول العالم المختلفة هناك حالياً (145 دولة) تنتمي إلى حوض من أحواض الأنهار الخاضعة للتنظيم من خلال اتفاقيات ومعاهدات موثقة، مما خلق حقوقاً تاريخية للدول، فضلاً عن القواعد الرشيدة للعلاقات بين بعضها البعض.
التزييف الشهير الآخر، والحقيقة أن هناك غيره الكثير مما تمارسه أديس أبابا على مائدة القمار التي لا تبرحها، أن الاتفاقيات الموقعة بخصوص نهر النيل هي اتفاقيات «استعمارية»، في الوقت الذي كانت طوال تاريخ تلك الاتفاقيات دولة «مستقلة» ذات إرادة كاملة. وأول ما تحاول إثيوبيا التنصل منه وتلح في حملاتها الإعلامية عليه هو الاعتراف بأن «نهر النيل» هو نهر دولي، مثله مثل نهر الأمازون بأمريكا اللاتينية على سبيل المثال، الذي تتشارك فيه كل من البرازيل وكولومبيا وبيرو وإكوادور وفنزويلا وبوليفيا، حيث أنشئ له منذ العام 1960 هيئة للاستغلال الاقتصادي تختص بالمياه والزراعة والغابات وغيرها من الأمور المتعلقة به، دون النظر إلى تصنيف المنبع والممر والمصب، حيث تحاول أديس أبابا أن تتكسب حقوقاً وامتيازات غير مشروعة وفق تلك المفاهيم غير المعمول بها في أى من اتفاقيات إدارة المياه، بل العكس هو الصحيح في وضع قيود على الدول التي تحاول التغول على حقوق الآخرين، وفق وضعية استثنائية كدولة منبع أو مرور تليها دول أخرى لديها حقوق كاملة في الانتفاع لا يجوز الانتقاص منها.
نقلا عن جريدة الوطن، 22 يونيو 2020.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية